إذا كان المؤتمر القومي العربي قد عقد دورته الأولى في تونس عام 1990 فإن فكرة تأسيس هذا المؤتمر ، من الناحيتين النظرية والفكرية ، تعود إلى المؤتمر العربي الأول الذي عقد في باريس خلال الفترة من 18-23/6/1913
فمن المعلوم أن نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين قد شهدنا "يقظة القومية العربية" وتطورها من المشاعر الحماسية ، إلى المطالبة بإصلاح الحكم وتحقيق المساواة مع الأتراك، ثم إلى المطالبة بالاستقلال الذاتي والحكم اللامركزي، وهذا ما نادت به الجمعيات والمنظمات السياسية، ومن بينها "المؤتمر العربي الأول"، بعد زوال حكم السلطان عبدالحميد عام 1908 ، وأخيراً تبلور هدف الثورة العربية الكبرى في الاستقلال التام للبلاد العربية.
ويلاحظ أن هناك مجموعة من الأسباب أدى تفاعلها إلى دفع تلك اليقظة القومية العربية وبلورة فكر قومي عربي، ومن ثم تحريك تلك التطورات السياسية، وفي مقدمتها ثلاثة أسباب : أولها - تحدي الضعف الداخلي، فضلاً عن شيوع التخلف في الوطن العربي التابع للدولة العثمانية، وثانيها - تحدي الاستعمار الغربي وبداية ظهور التحدي الصهيوني كجزء من هذا الاستعمار، وثالثها - تحدي حركة القومية التركية في الدولة العثمانية التي ظهرت مع انتشار حركة القوميات في أوروبا.
ففي هذا الإطار السياسي نمت الحركات والجمعيات والتنظيمات العربية التي هدفت إلى الدفاع عن حقوق العرب ومصالحهم وكيانهم المستقل، وعبرت بالتالي عن البوادر الأولى للقومية العربية، ونشرت أفكار العروبة0 وعلى الرغم من أن بعضها اتخذ شكل الأعمال الأدبية والثقافية، إلا ان بعضها الآخر كان سياسياً محضاً، سرياً وعلنياً0 وكانت بيروت مسرح أولى الجمعيات التي ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر، وهي "الجمعية العلمية السورية". لحقتها جمعيات أخرى في بيروت أيضاً وفي دمشق، مثل "جمعية بيروت السرية" عام 1875، التي اتخذت لنفسها نهجاً سياسياً قومياً واضحاً0 وجمعية "الشورى" في مصر عام 1888 0 وقامت "الجمعية الوطنية العربية" بباريس عام 1895 0 ومن الجمعيات السياسية القومية التي ظهرت مع أوائل القرن العشرين " "رابطة الوطن العربي" التي أسسها نجيب عازوري في باريس عام 1904 ، و"جمعية النهضة العربية" في دمشق عام 1906 ، و"جمعية الأخاء العربي - العثماني" التي تأسست عام 1908 في الاستانة، و"الجمعية القحطانية" التي تفرعت عن هذا المنتدى الأدبي في العام نفسه (وكانت جمعية سرية تشكلت من الضباط العرب أساساً)، و"جمعية العربية الفتاة" التي تأسست عام 1909 من الطلاب العرب في باريس (وكانت جمعية سرية)، وهي الجمعية التي ساهمت بدور كبير في عقد "المؤتمر العربي الأول" في باريس عام .1913 يضاف إلى ذلك حزب اللامركزية "العثماني" الذي تأسس في القاهرة عام 1912 كحزب سياسي علني، و"جمعية العهد" التي تأست في الاستانة عام 1913 بعد توقف نشاط "الجمعية القحطانية" وكانت مثلها جمعية سرية وكانت مغلقة على الضباط العرب. وكانت "جمعية العربية الفتاة" و"جمعية العهد" هما أبرز هذه التنظيمات وأكثرها تأثيراً على حركة القومية العربية" وذلك كله بالطبع حتى قيام الثورة العربية الكبرى عام 1916 .
وفي ضوء هذا الإطار السياسي يمكن تفهم حقيقة الدور السياسي والفكري الذي لعبه "المثقفون العرب" بمختلف قطاعاتهم وفئاتهم في المشرق العربي بصفة خاصة ، في مطلع القرن العشرين0 كما يمكن تفهم دور "الوعي القومي" الذي برز في تلك المرحلة والذي تمثل في مواقف وبرامج هؤلاء "المثقفين" خلال عصر النهضة، ممن شاركوا في السجال القومي بين العرب والأتراك، أو اشتركوا في تأسيس الجمعيات والتنظيمات العربية آنذاك.
وفي هذا السياق نفسه يمكن تقدير الوظيفة السياسية التي أداها "المؤتمر العربي الأول"، في مرحلة الهجمة الاستعمارية مع بداية القرن العشرين.
فقد تداعى عدد من المثقفين العرب من أعضاء الجالية العربية في باريس - وينيف عددهم على الثلاثمائة- إلى الاجتماع بهدف "البحث عن التدابير الواجب اتخاذها لوقاية الأرض (المترعة بدم الآباء العظام ورفات الأجداد الأباة) من عادية الأجانب وانقاذها من صبغة التسيطر والاستبداد وإصلاح أمورنا الداخلية على ما يتطلبه أهل البلاد من قواعد اللامركزية حتى يشتد بها ساعدنا وتستقيم قناتنا فينقطع بذلك خطر الاحتلال أو الاضمحلال وتنفى مذلة الرق وتخفت نأمة الاستعباد ويظهر للاعبين بحياة الشعوب أننا أمة عيوف الضيم لا تستنيم لذل ولا تستكين لمسكنة" وتم الاتفاق في هذا الاجتماع على انتخاب "لجنة إدارية" تولت الدعوة إلى اجتماع عام للمثقفين العرب يعقد في باريس يضم وفود من الأمريكيتين ومن المقيمين في أوروبا ومن البلاد العربية، "فتتمثل فيه الأمة العربية المنتشرة في أقطار الأرض وتحقق كلمة التضامن الاجتماعي والسياسي لهذه الأمة في هذا المؤتمر" ما تقرر أن يعنى المؤتمر بمناقشة أربع قضايا : الأولى - الحياة الوطنية ومناهضة الاحتلال، والثانية - حقوق العرب في المملكة العثمانية، والثالثة - ضرورة الاصلاح على قاعدة اللامركزية، والرابعة - المهاجرة من سوريا وإلى سوريا، وقد كلف عدد من المشاركين بإعداد وتقديم دراسات حول هذه القضايا
وقد عقد هذا "المؤتمر العربي الأول" جلساته في باريس خلال الفترة من 18-23/6/1913 ، حيث تدارس هذه القضايا، وأصدر بياناً في خاتمة أعماله تضمن ما اتخذه من قرارات بشأن رؤيته لمعالجة هذه القضايا.
ومن الجدير بالذكر أنه كان هناك "ملحق بقرارات المؤتمر" تضمن بندين : أولهما - أنه إذا ما لم تنفذ قرارات المؤتمر يمتنع الأعضاء المنتمون إلى لجان الإصلاح العربية عن قبول أي منصب كان في الحكومة العثمانية، إلا بموافقة خاصة من الجمعيات المنتمين إليها 0 وثانيهما - ان هذه القرارات ستكون برنامجاً سياسياً للعرب العثمانيين، ولا يمكن مساعدة أي مرشح في الانتخابات التشريعية إلا إذا تعهد من قبل بتأييد هذا البرنامج وطلب تنفيذه".
وخلاصة كل ما تقدم أن "المؤتمر العربي الأول" قد نشأ في إطار يقظة القومية العربية، وأنه كان بمثابة تجمع عريض لمجموعة من "المثقفين العرب"، يجمعهم الحرص على حرية الأمة وكيانها ومصالحها ومستقبلها الوحدوي0 ورغم الأهمية التي كانت معلقة على هذا المؤتمر إلا أنه لم يعقد دورته الثانية، وأصبح مجرد ذكرى ، حتى وإن كانت هامة، في سياق حركة القومية العربية منذ مطلع القرن العشرين.
وهذا هو السياق السياسي والفكري الذي يهدف "المؤتمر القومي العربي" إلى استعادة خبراته، والسعي إلى تحقيق ما كانت تصبو إليه من أهداف ، بحيث يكون استمراراً للفكرة التي حركت مجموعة من المثقفين العرب ودعتهم إلى تأسيس "المؤتمر القومي الأول"
فلقد كان للتحولات الكبرى التي عصفت بالعالم منذ أواخر الثمانينيات، وما تزال، أثر كبير في إنضاج فكرة "المؤتمر القومي العربي" التي طالما راودت عدداً من المثقفين العرب، بخاصة وأنها قد ترافقت مع مجموعة من الأزمات والكوارث نزلت بأمتنا العربية خلال العقود الماضية، وهزت المفاهيم وصدعت التنظيمات، وأفقدت الجماهير ثقتها بالنظم السياسية القائمة في بلادها، وبقدرتها على مواجهة ما يتكاثر أمامها من تحديات.
وفي مواجهة التحديات العالمية والعربية الكبيرة والمتعددة، كان من الضروري أن تنهض مجموعة من ذوي العزم والإرادة من المثقفين العرب بواجباتهم تجاه قضايا أمتهم المصيرية، فتداعوا إلى البحث والتفكير في المشكلات المتفاقمة، من أجل التوصل إلىتصورات واضحة وحلول عملية للنهوض بالأمة من حاضرها المتعثر. وقد توجهت هذه النخبة في خطابها إلى الرأي العام العربي مباشرة، ساعية لبث الحيوية والنشاط في صفوف الجماهير المقهورة والمغلوبة على أمرها. وهكذا عقد "المؤتمر القومي العربي" دورته الأولى في تونس خلال الفترة 3 - 5 آذار- مارس 1990 ، واتفق على أن يعقد المؤتمر دورته سنوياً في إحدى المدن العربية، وهذا ما يجري تنفيذه فعلاً.
|