موجز عن بعض جوانب حال الأمة في الإطار العالمي خلال 2010/2011 **
د. محمد عبد الشفيع عيسى *
* أستاذ في معهد التخطيط القومي بالقاهرة.
** ورقة أوّلية أعِدّت حول حال الأمة على الصعيد العالمي، لمناقشتها قبل تضمينها تقرير حال الأمة بصيغته النهائية.
- لا تعبر هذه الورقة بالضرورة عن رأي الأمانة العامة للمؤتمر القومي العربي.
*** لا يجوز نشر هذه الورقة كلاً أو جزءاً إلا بموافقة تحريرية من إدارة المؤتمر.
موجز عن بعض جوانب حال الأمة في الإطار العالمي خلال 2010 - 2011
بموافقة كريمة من مركز دراسات الوحدة العربية، تمت الاستفادة المكثفة – لغرض إعداد الورقة الحالية - من الدراسة التي قدمها الباحث بعنوان (بعض محددات الإطار الدولي والإقليمي لأزمة الدولة في الوطن العربي) إلى الندوة الفكرية التي نظمها المركز خلال يوميْ 10 و11 من كانون الثاني/يناير 2011 في بيروت حول موضوع ( أزمة الدولة في الوطن العربي).
القسم الأول
البيئة الدولية والإقليمية، وحركة الثورات والانتفاضات والاحتجاجات العربية الراهنة: من المشاركة في صنع "أزمة النظم السياسية العربية" إلى محاولة احتواء "حركة التغيير الثورية"
شهدت الأيام الأخيرة من عام 2010 والأيام الأولى من 2011 تصاعد أحداث الثورة التونسية، بالغة أوجها برحيل رأس النظام يوم 14/كانون الثاني. وما هي إلا أيام عشرة حتى اندلعت الثورة المصرية- ثورة 25 يناير- وبلغت ذروتها برحيل رأس النظام الآخر يوم 10 شباط/فبراير. وحفلت حاضرة اليمن ومدنها وبواديها جنوبا وشمالا بالحراك الجيّاش، طالبة رحيل النظام ورأسه في وجه تهديد قويّ بتجزئة الإقليم اليمني العتيد. واندلعت أحداث ثورية أخرى في ليبيا، شرقا وغربا، اعتبارا من 17 شباط/فبراير، سرعان ما لحقها تحول جذري، محليا وإقليميا ودوليا، بانشطار الجيش واندلاع المواجهات المسلحة، كرّا وفرّا، على إثر القمع الدموي لأحداث التظاهر وخاصة في مدن المنطقة الشرقية. وبذلك تم التمهيد لتدخل دولي، اتخذ له مظلة من قراري مجلس الأمن رقمي 1970 و1973، تحت طائلة "الفصل السابع" من ميثاق الأمم المتحدة، بتفويض (أعضاء الأمم المتحدة) لفرض الحظر الجوي على ليبيا و (اتخاذ جميع ما يلزم لحماية المدنيين)، إلى جانب إجراءات عقابية أخرى. وسبق ذلك ومهّد له، بطلب مباشر من بعض الدول الغربية، قرار من مجلس جامعة الدول العربية على مستوى وزراء الخارجية، بمشاركة نشطة من دول "مجلس التعاون الخليجي"، قوامه دعوة "مجلس الأمن" الدولي للقيام بدوره في (حماية المدنيين) عن طريق فرض منطقة لحظر الطيران وإقامة (مناطق آمنة) داخل الأراضي الليبية. وسارعت الدول الغربية القائدة، وخاصة الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا، بعد توفر الغطاء العربي الرسمي، إلى تشكيل قوة جوية (قوامها 350 قاذفة مقاتلة على الأقل، نصفها تقريبا من الولايات المتحدة) وقوة بحرية ومن "مشاة البحرية" لفرض الحظر الجوي ومنع وصول الأسلحة إلى ليبيا. وفي 25 آذار/ مارس أوكلت قيادة مهمات التحالف العسكري المكون، شكلا، من نحو 28 دولة، منها دولتان عربيتان من الخليج، إلى (حلف الأطلسي) مع السماح ضمنيا للدول الثلاثة – الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا- بالقيام بخط عمليات منفصل، قوامه استخدام القوة لتنفيذ أغراضها، بما في ذلك: الهجمات الجوية، ضد أهداف متنوعة تابعة للحكومة الليبية. وكانت بدأت الهجمات القوية المنسقة بالفعل منذ 20 آذار/ مارس تقريبا، باستخدام أدوات القتال الهجومي المتطورة، وخاصة: صواريخ (توما هوك) الأمريكية، وطائرات "التورنادو" البريطانية و "ميراج" الفرنسية.
وأثناء اندفاعة الأحداث الليبية وقعت أعمال (ثورية) أخرى في البحرين، خلال النصف الأول من شهر آذار/مارس، وقد قمعت فيما سمي بأحداث (دوار اللؤلؤة) بعد أن دخلت وتدخلت قوات من (قوة درع الجزيرة) التابعة ل"مجلس التعاون الخليجي" من ثلاث دول أعضاء في ذلك المجلس " لفرض "النظام العام". وأما السعودية فقد وقعت بها احداث خفيفة الوقع نسبيا في المنطقة الشرقية وخاصة (القطيف). بينما نال سورية رذاذ كثيف جدا، اعتبارا من الرابع والعشرين من آذار، بدء بمدينة درعا وما حولها، وقع فيها قتلى وجرحى، إلى جانب أعمال للتظاهر والاحتجاج القوي في مدن وبلدات عديدة أخرى، من بينها العاصمة دمشق وضاحيتها الريفية، وفي مناطق الريف السوري عامة، وتعاملت معها السلطة بمزيج مركب من العنف ومبادرات الاحتواء، مع تصاعد منتظم لوتيرة العنف. وحتى العراق، الواقعة ماتزال، تحت وطأة الوجود العسكري الأمريكي، قد شهدت مظاهرات حاشدة تحت مظلة الشعارالعربي العام الداعي إلى التغيير. وكذلك حدث بصورة متفاوتة في كل من المغرب والجزائر، وبشكل أقوى في الأردن سعيا إلى "التحول إلى الملكية الدستورية". ولم تسلم لبنان من مظاهرات قوية، فالشعب (يريد تغيير النظام السياسي الطائفي). وفي فلسطين، بالضفة والقطاع، وقعت مظاهرات حاشدة، للضغط من أجل مصالحة وطنية، تمهد للتغيير السياسي لمواجهة حالة العدوان الصهيوني المستمر. ولم تسلم السودان وموريتانيا من محاولات وضغوط مختلفة في ذات الاتجاه: الدعوة لإحداث تحولات جذرية في بنية النظام السياسي. فلم يعد من أعضاء (جامعة الدول العربية)، دولة خلت من أحداث للثورة الشعبية، ذات الطبيعة الشبابية، من أجل تغيير النظم السياسية، سوى الصومال و"جمهورية جزر القمر" وجيبوتي، ولكل منها ظرف معلوم، وثلاثتها لم تستوفِ شرط أن تكون اللغة العربية هي اللغة الأولى على مستوى الدولة والمجتمع.
هل هذه إذن (الثورة العربية الكبرى)..؟ أو (الثورات العربية الكبرى) في مطلع القرن الحادي والعشرين..؟ ولم لا، وقد رانت على الدول العربية كافة، جملة أزمات أخذت بخناق الدول والنظام جميعا، في كل بلد عربي، لفترة زمنية ممتدة، بفعل استمرار واستقرار غريبين على سنن التطور السياسي خلال التاريخ المعاصر والحديث. ولقد تم تصنيف و تشريح تلكم الأزمات في أعمال فكرية متعددة ، بدء من أزمة وجودية إلى أزمة وظيفية مرورا بأزمة نظامية للشرعية، فلم تعد ثمة زيادة لمستزيد حول أجواء كانت معبقة الأزمة، وشعور يعتمل في الصدور والأدمغة باستحالة الاستمرار والاستقرار، وبالغرابة والعجب إن حدث المستحيل، وبقيت ذوات الأنظمة. ولكن لم يكن في طوق أحد من الباحثين الجادين أن يتنبأ بموعد التغير القادم، او أن يتنبأ بطبيعته، وهل هو إعصار وحسب، أم زلزال قوي على مقياس (ريختر السياسي) أم هو (تسونامي) يجرف كل مايجده على الواجهة ثم يزحف باضطراد. لم يكن في وسع أحد أن يتنبأ بالموعد والطبيعة المحددة لحدث يعقب أزمة شاخصة للعيان، كما لم يكن في وسع أحد أن يتنبأ بموعد وطبيعة (تسونامي) وقع بالفعل في منطقة (أوراسيا)-الاتحاد السوفيتي وأوربا الشرقية- منذ عقدين زمنيين بالضبط.
ولم نزل، فيما يبدو، أمام تغيرات تترى، ومنها الكثير جدا مما سيقع، وما لا نقدر على التنبؤ به بدقة معقولة، إلا من خلال رسم مشاهد مختلفة، يقال لها (سيناريوهات). وليس أمامنا الآن إلا رصد ردود الأفعال المستجدة، من المحيط الإقليمي والدولي أساسا، عما جرى.. فما طبيعة ردود الأفعال..؟
ردود الأفعال
أ- على الصعيد المحلي
أما على الصعيد المحلي، فقد كانت ردود الأفعال الشعبية مصداقا لقول الشاعر العربي التونسي الشاب، أبي القاسم الشابي، والذي تردد في كل ميدان من "ميادين التحرير" العربية خلال الثورات الأخيرة: إذا الشعب يوما أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر
ولا بد لليل أن ينجلي ولا بد للقيد أن ينكسر
ب- على الصعيد العربي
وأما على صعيد المحيط العربي، فقد حدثت ظاهرتان متوازيتان: أولاهما على المستوى الشعبي، ممثلة في ظاهرة (العدوى الثورية)، فماهي إلا أيام بعد ثورة الشعب التونسي حتى وقعت ثورة الشعب في مصر، ومعها تصاعدت ثورة اليمن، ثم حدث ما حدث في ليبيا والبحرين والعراق، وفي السعودية (جزئيا) والجزائر والمغرب وأخيرا سوريا، ولم يزل (الحبل على الجرار) كما يقولون. وتعتبر ظاهرة (العدوى الثورية) مصداقا لوحدة الظروف التاريخية التي تجمع، وقد جمعت، أقطار الوطن العربي بوجه عام. وثانيتهما، على المستوى الرسمي الممثل للحكومات، ظاهرة (الهلع الجماعي) مطمورا كان أو ظاهرا للعيان. ونشير هنا إلى رد الفعل للتنظيم الدولي العربي الإقليمي (جامعة الدول العربية). فقد أبدت تقبلا - بعد تباطؤ- بثورة الشعب التونسي، ومن بعدها ثورة الشعب المصري على أرضية الميدان المواجه لمبناها العتيق، انعكاسا لوقع المفاجأة والاعتراف بأمر واقع صاعق، لايمكن تجاهله. ولكن تطورات الساحة العربية الرسمية كانت أفرزت منظمة فرعية واحدة أثبتت صمودا وصلابة نسبية في مواجهة التغيرات طوال عقدين، هي (مجلس التعاون لدول الخليج العربية): 1989. وقد استمدت هذه (المنظمة الإقليمية الفرعية) مددا للقوة إثر التخلص من محنة غزو صدام حسين للكويت عام 1991، ثم التخلص من نظامه كله بالغزو الأمريكي الهمجي للعراق و احتلاله، عام 2003، ومن بعده: موجة ارتفاع صعودي لأسعار النفط، انقطعت مؤقتا عقب انفجار الأزمة المالية العالمية أواخر 2008، معاودة الصعود المتقطع على كل حال؛ برغم (أزمة ديون دبي) مطلع 2010. ومن مدد القوة، صار (مجلس التعاون الخليجي) يمثل أقوى تجمع عربي فرعي، اقتصاديا وسياسيا، وربما على صعيد عقود التسليح أيضا، في مواجهة تهديد تصاعد القوة الإيرانية المراقبة من الغرب، وأفول نجم القوة المصرية عربيا ودوليا في ظل "نظام مبارك" المأزوم، خلال العشرين سنة الأخيرة.. مع ملاحظة النواقص البنيوية الخطيرة في البنيان السكاني و الاقتصادي والاجتماعي والسياسي لدول ذلك المجلس، وخاصة مع شحوب الوجه "العربي" أصلا للعديد من أعضائه، وخاصة (دولة الإمارات العربية المتحدة) وبصفة أخص: دبي.
وهكذا واجه مجلس التعاون الخليجي، المدعوم أمريكيا وغربيا لمواجهة إيران وتعويض "فراغ القوة" الناجم عن انسحاب مصر، أحداث الثورات العربية الأخيرة، قويا و متماسكا نسبيا، بل وواثقا من قوته المالية والإعلامية (الفضائية والصحافية) و قوته التسليحية (غير المستخدمة حتى الآن عمليا) وقوته السياسية المجربة داخل أروقة الجامعة العربية، ولو بحكم العِظَم النسبي لحصص المساهمة المالية لدول الخليج في ميزانية الجامعة العربية. ومن هنا فقد مثّل مجلس التعاون الخليجي القوة الضاربة الحقيقية في صياغة مواقف التنظيم الدولي الجماعي الإقليمي تجاه أحداث الثورات و الانتفاضات والاحتجاجات والمظاهرات العربية الأخيرة، فإذا به يدفع إلى معالجتها (حالة بحالة): فإلى جانب قبول (الأمر الواقع الجديد) في كل من تونس ومصر- مع (امتعاض) واضح من بعض الاتجاهات الجديدة للسياسة المصرية في محيطها الإقليمي الواسع وخاصة إزاء إيران- تم الدفع بالمواجهة مع النظام الحاكم في ليبيا إلى أبعد الحدود، واعتبار أن نمط التعامل في حالة ليبيا (غير قابل للتكرار) في أية حالة عربية أخرى، من خلال حجب تمثيل الوفد الرسمي الليبي في أعمال الجامعة، ودعوة (مجلس الأمن) للتدخل وفق ما سبق بيانه، تمهيدا لمشاركة عضوين على الأقل من اعضاء مجلس التعاون الخليجي، تمويلا وتسليحا، وعلى الصعيد التعبوي والعملياتي، في( الحرب) ضد قوات النظام الحاكم في ليبيا. أما في حالة البحرين فقد تدخل (مجلس التعاون الخليجي) مباشرة دعما للنظام الحاكم ضد حركة التظاهر والاحتجاج، كما أسلفنا. وفي اليمن، كان الموقف ملتبسا؛ فإلى جانب الإدانة اللفظية من طرف مجلس جامعة الدول العربية (على مستوى المندوبين) في 22/3/2011 لممارسة القمع الدموي ضد حركة التظاهر والاحتجاج، كانت مواقف غير معلنة بوضوح، داعمة للحكومة اليمنية في التوجه لحلول وسطى، وعلى الأقل: عدم دعم حركة الثورة اليمنية ذات الطابع الديمقراطي و"الوحدوي اليمني" الصريح، حتى انتهى الأمر إلى طرح مبادرة خليجية رسمية ذات طابع وسطي في نهاية المطاف، وغير مرضِ بشكل جذري لحركة الثورة الشبابية-الشعبية اليمنية.
ج- على مستوى المحيط الدولي:
حينما يذكر المحيط الدولي، يذكر أكثر من مستوى: على المستوى العالمي العام، لقد أشاع انتصار الثورتين والمصرية جوا عاما مفعما بالأمل أمام حركات التطور الشعبي الديمقراطي والإنساني في العالم، شمالا وجنوبا، وشرقا وغربا.
أما على مستوى مجموعة الدول ذات الأنظمة السياسية التي يقال لها (تسلطية)، فقد كانت الثورة المصرية والتونسية ملهمة لحركات الشاب الثائر، على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي فوق الشبكة العنكبوتية، من الصين إلى بعض أمريكا اللاتينية. بينما رفعت حكومات الدول المذكورة وتيرة رقابتها الصارمة على حركة الثورة الشبابية.
وأما دول ما يسمى بالمجتمع (الدولي)، ويقصد به تحديدا: المجتمع الدولي الغربي، بقيادة مشتركة من دول ثلاثة هي الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، فقد تمثلت أوضاعها العامة فيما يلي: الولايات المتحدة الأمريكية، يحكمها تآلف هش من قوى اليمين المتشدد داخليا وخارجيا، ممثّلا في غلاة (المحافظين الجدد) داخل "الحزب الجمهوري" القابض على أغلبية (مجلس الشيوخ)، و "يمين الوسط" الذي يمثله رئيس الجمهورية- أوباما- و بعض قادة "الحزب الديمقراطي"، المتشظي إلى أجنحة ميالة لليمين واليسارالنسبي والوسط. أما بريطانيا فيحكمها تحالف اليمين وبعض من الوسط، ممثلا في حكومة "حزب المحافظين" و "حزب الأحرار"، ويسعى رئيس الحكومة زعيم (المحافظين)-دافيد كاميرون- إلى استعادة دور مفقود لبريطانيا على الساحة العالمية بعد إزاحة حكومة "حزب العمال" التي فقدت مصداقيتها بفعل (أكاذيب وفضائح) لرئيسها السابق "توني بلير" بمناسبة تحالفه مع "جورج بوش الإبن" في جريمة غزو العراق. وقضت أعاجيب التحالفات الدولية ألا يجد (كاميرون) من سبيل إلا تجديد عرى التحالف الذي صاغه (ثنائي بوش-بلير) في العراق، بمناسبة الأحداث الأخيرة في ليبيا. وأما الدولة الثالثة فرنسا، فتعيش فترة اضطراب سياسي نسبي، بفعل السياسة الداخلية لرئيس الجمهورية من يمين الوسط، نيقولا ساركوزي، الذي أطلق اليمين المتطرف عنصريا من "القمقم"، ولم يستطع (صرفه) من الساحة السياسية الفرنسية، فبات المشهد محكوما باستقطابية متوترة بين يمين متطرف يهيمن عليه حزب (الجبهة الوطنية) تقوده خليفة (لوبين)، ابنته، ويسار منتعش بأمل العودة إلى سدّة الرئاسة، دون أمل كبير لساركوزي في الفوز بفترة رئاسية جديدة، في ظل خلافات محتدمة داخل حزبه، ومع تراجع مؤشرات (شعبيته) وفق ما دلت عليه نتائج الانتخابات المحلية التي جرت مؤخرا. فلم يعد من سبيل أمام ساركوزي لاستعادة قدر من هذه (الشعبية) إلا دق طبول الحرب ضد دول مثل إيران وليبيا، وتصدّر المشهد الصدامي الدولي، إلى جوار الولايات المتحدة، وربما قبلها في بعض الأحيان.
من هذه الخلفية لحالة التحالف الثلاثي القائد حاليا ل (المجتمع الدولي الغربي ) دون أن ننسى ألمانيا، وإلى حد معين: إيطاليا، وتوابع المجتمع المذكور في كندا ودول مثل أستراليا، تحددت المواقف إزاء الثورات العربية: فقد بدت المواقف مرتبكة ومترددة أمام الحدث التونسي الرائد، وأعلنت وزيرة الخارجية الفرنسية تأييد فرنسا للرئيس المخلوع، والاستعداد لمساعدته، بينا ظل الموقف الأمريكي شاحبا في خلفية المشهد، حتى رحيل رأس النظام فأشاد الرئيس الأمريكي بشجاعة الشعب التونسي. وتعلم (المجتمع الدولي الغربي) من الدرس، حين اندلعت أحداث الثورة المصرية، فإذا بالموقف الأمريكي يتصدر الزمام، متدرجا تدرجا محسوبا، حسب تطور حالة توازن القوي بين الثورة الشبابية-الشعبية، وبين النظام ومؤسسته الأمنية، مع ترقب شديد الحذر لموقف المؤسسة العسكرية، وانتهى الأمر بالنصح بضرورة رحيل رأس النظام. وبعدها ظهر الموقف الأمريكي وكأنه يلتقي مع موقف الثورة الشعبية، رغم الهتاف المدوي للشباب المليوني بميدان التحرير : ( يامبارك ياجبان، ياعميل الأمريكان).
ولربما أبدت الولايات المتحدة قبولا ظاهريا بالثورة المصرية، لسببين: أولهما العمل على استمالة القوة الجديدة على المسرح السياسي، القوات المسلحة، ممثلة في (المجلس الأعلى للقوات المسلحة) وإغرائها بالمساعدة الاقتصادية والدعم المالي والسياسي للحيلولة دون نضوج المطلب الوطني-القومي، إلى حد تجاوز كل الأسقف التي شيدها النظام السابق على مهل طوال ثلاثين عاما، وخاصة في مضمار العلاقة (المريبة) مع إسرائيل. وثانيهما، محاولة التأثير على حركة الأحداث من جهة القوى الثائرة، بالتلويح والتصريح بمساعدة مصر في عملية التحول السلمي إلى الديمقرطية، والمساعدة في تقنيات إجراء الانتخابات الرئاسية والنيابية، استغلالا لغموض الموقف (الثوري) من العلاقة المستقبلة مع إسرائيل، بكل تشعباتها الأخطبوطية المعقدة، والعلاقة المستقبلة مع شبكة التحالفات الأمريكية في "المنطقة العربية-الإسلامية المركزية"، المسماة أمريكيا بالشرق الأوسط الكبير.
وأما عن موقف التحالف الغربي من الأحداث في ليبيا، فقد أشرنا إليه آنفا، سعيا إلى وضع اليد الغربية بقيادة امريكية، بصفة كاملة ونهائية، على النفط الليبي و على مزية الموقع الاستراتيجي الليبي فوق "رقعة شطرنج" الجيوبوليتيكا العالمية، دون أدنى قلق من نزوات حاكم في ليبيا أو تقلبات ظرف من الظروف.
وجاء الموقف من أحداث اليمن مرتبطا بالخشية الأمريكية ذات الطابع المرضِيّ من أشباح القاعدة في شبه الجزيرة العربية، فيما يمكن اعتباره انتقالا من (بارانويا الإسلام)، إلى (بارانويا القاعدة). ولهذا ظل الموقف الأمريكي من اليمن نقيضا للموقف من ليبيا، بالدعوة إلى حل سلمي توافقي بين الرئيس اليمني وبين حركة الثورة الشعبية التي جرت مواجهتها بالقمع الدموي، دون أدنى إجراء دولي متخذ (لحماية المدنيين في اليمن)..! بينما اتخذت فرنسا ساركوزي موقفها على الهامش الأقصى في البداية بدعوة الرئيس اليمني إلى الرحيل.
أما الموقف الدولي الغربي عامة، والأمريكي خاصة، من أحداث البحرين، فقد اتسم بغض الطرف عن تدخل قوات (درع الجزيرة) رغم نقد خفي لطريقة اتخاذ القرار من جانب (مجلس التعاون الخليجي) دون تشاور مسبق على المستوى الرسمي، كما قيل. وانتهى الأمر بقمع متظاهري (دواراللؤلؤة) إلى حين. وما نزال- حتى كتابة هذه السطور- نستقبل ردود الأفعال المتباينة، على الأحداث في سوريا.
وأخيرا، يمكن لنا ان نضع خلاصة للموقف الغربي والأمريكي من أحداث الثورات العربية في نقطتين: أولا، العمل على الاستفادة إلى أقصى حد من هذه الأحداث، بطرق متعددة (حالة بحالة)، ابتداء من محاولة الاحتواء الفكري والسياسي لقوى الثورة والإغراء المالي والتعبوي للقوى النافذة في النظام الجديد، وهي حالة مصر وتونس، مرورا بالعمل العسكري المباشر دعما افتراضيا للثوار والمتمردين عسكريا على النظام، دون أية مبالاة بالعواقب، وهذه حالة ليبيا، وانتهاء ب (إمساك العصا من المنتصف) مع ميل إلى هنا أو هناك، وهذه حالة اليمن والبحرين.
ثانيا، توقع غربي وأمريكي، غامض نعم حتى الآن، بإمكان حدوث حالة ارتباك عام في المنطقة العربية والإسلامية نتيجة لسيل الأحداث الدراماتيكي غير المتوقع، على شفير الانتقال العربي المفاجيء، على مستوى النظم السياسية، من "حالة الأزمة" إلى "عملية الثورة"، مما قد يفتح كوّة في الجدار المصمت للواقع العربي، من أجل ممارسة تأثير ما، أمريكيا وغربيا، في (بوصلة) التطور السياسي المستقبلي للمنطقة العربية ومحيط الجوار الإسلامي والإفريقي اللصيق.
ويبقى في النهاية سؤال معلق عن موقف إسرائيل من الأحداث الراهنة للثورات العربية.
تحبس إسرائيل أنفاسها منذ بدء وقوع الثورات العربية، و يحكمها الآن ائتلاف سياسي شديد التطرف على مستوى ممارسة "العدوان المستمر" تجاه الشعب الفلسطيني، احتلالا واستيطانا وتهويدا، وتجاه الشعوب العربية الأخرى في دول الطوق، وخاصة سوريا ولبنان والأردن، ولا ننسى النوايا المضمرة تجاه مصر العربية. وهي تمارس سياسة من ذراعين: ذراع دعائي، يزعم صلابة تجاه الأحداث، مع إبداء قدر من "اللامبالاة السياسية" المحسوبة؛ وذراع مخابراتي-حربي ، لابدّ، يعد للأمر عدّته، تحوطا لاحتمال أكيد بتحول الثورات العربية، وخاصة في مصر، إلى تفتح مستقبلي مرتقب على الأفق "الوطني" المصري-العربي، وقضاياه القومية الكبرى، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية. ويجري ذلك بمزيد من الاستعداد الإسرائيلي، العسكري والتسليحي والعملياتي، مع تأكيد العلاقة الاستراتيجية مصيريا مع الولايات التحدة من أجل "تأبيد" التفوق النوعي" الساحق، تجاه مصر خاصة والعرب عامة، مع تهويل خطر القوة النووية الإيرانية من أجل ممارسة مزيد من الابتزاز تجاه روسيا والصين والعالم النامي بأطيافه المتعددة.
هكذا إذن، حدث انتقال جوهري للدول العربية في عمومها، خلال ثلاثة شهور، من الناحية السياسية، من "حالة الأزمة" التي لازمت النظم السياسية خلال عشرية أوعشريتين و ربما أكثر ، اختتاما ل"دورة حياة" النظم المذكورة: بدء من طور" التأسيس" إلى طور "الازدهار" ثم طور "الأزمة". وفي خواتيم الأزمة، التي عايشناها كدارسين للعلاقات الدولية والسياسة العربية خلال الفترة القصيرة الأخيرة، كنا حائرين إزاء المصائر المحتملة للنظم المأزومة، والمواعيد التي لم نتيقن بشأنها حول "لحظة الانهيار". وإذا بتفاعلات الواقع العربي المعقدة، بين تشابكات الضرورة والصيرورة، تفرض لحظة (إسدال الستار) بالطريقة التي يتقنها التاريخ، مكْرا بغير ردّ. وإذا بالأزمة تفضي إلى ثورة. وقدّر لنا أن نعيش تلك اللحظة التاريخية النادرة، بين عشية وضحاها، لا بل بين طرفة عين وانتباهتها.
هذا، ومن المهم ان نشير هنا إلى حقيقة أساسية، وهي أننا ممن يؤكدون أهمية الترابط بين العاملين الخارجي والداخلي، كوحدة جدلية مفسرة لتطور الظواهر الاجتماعية في بعدها التاريخي. ولهذا، فإننا وإن كنا نركز على دور المحيط الخارجي-إقليميا ودوليا- في صنع الأزمة العميقة التي عاشتها "الدولة" في الوطن العربي، فإن هذا الدور، بداهةً، ليس هو العامل الوحيد المفسر للأزمة، وإنما هو (شريك) في صنعها، على سبيل التكافؤ الثنائي مع العامل المحلي ذي الطبيعة الهيكلية أو البنيوية، عبر العجز المتأصل والمزمن لمؤسسة الدولة (القطرية) العربية التي أعقبت المرحلة الكولونيالية.
وبعد هذا الاستعراض الموجز لقضية القضايا في وطننا العربي الناهض، حول الثورات والانتفاضات وحركات الاحتجاج والتظاهر العربية، ننتقل من الخاص إلى العام، حيث نعرض للوحة العامة للنظام العالمي، سياسيا واقتصاديا، كما تجلت خلال 2010/2011.
القسم الثاني
أوضاع النظام العالمي وتغيرات البيئة الدولية خلال 2010/2011
أولا: الجانب السياسي
الخصائص الحاكمة للبيئة السياسية الدولية والإقليمية
يمكن تحديد الخصائص الأساسية للبيئة الدولية والإقليمية، كما تجلت بصفة خاصة خلال 2010/ 2011 في ما يلي:
- المركزية العالية في إدارة النظام الدولي، باعتباره نقيضاً لسمة "انتشار القوة" التي سادت بأشكال متنوعة في مراحل تاريخية سابقة. في ظل هذه "المركزية" يكون هناك مركزٌ قيادي واحدٌ، ممثل بالولايات المتحدة الأمريكية، حيث يقوم بمهمة الضبط والسيطرة على حركة النظام، من خلال أداء دور قيادي مرْشد إزاء القوى المركزية الأخرى (أوروبا الغربية واليابان)، متفاوت الشكل، بحسب المجال والسياق، ويأخذ في حده الأدنى صورة "ضابط الإيقاع"، ولكنه في الأحوال كلها، أقوى من دور "الأول بين المتساوين" الذي قامت به بريطانيا إبان مرحلة "توازن القوى" الكلاسيكي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.
أما بإزاء القوى المنافسة الحالية والمحتملة (وبخاصة الصين) فيحاول المركز الأمريكي دائماً أن يقوم بمهمة "المراقب المسيطر" تجاه المتغيرات ذات الصلة. وفي ما يتعلق بالقوى "الطرفية" أو الهامشية، بالمقارنة مع "المركز" تعمل الولايات المتحدة على القيام بالتوجيه "الخطّي" بأعلى مستوى ممكن، بأشكال ومضامين مختلفة، في ضوء توازنات القوى في كل حالة على حدة.
- إن البند رقم (1) على جدول أعمال الولايات المتحدة بعد عام 1991، تاريخ انهيار الاتحاد السوفياتي، وبخاصة بعد عام 2001، تاريخ أحداث أيلول/ سبتمبر الشهيرة، ولمدى قادم غير محدد، هو مواجهة القوى المهددة للسيطرة على إمدادات الطاقة والمواد الأولية الأساسية، من الخليج والقوقاز بصفة أساسية، في غرب ووسط آسيا، وعلى طرق نقلها، وشبكة الإمدادات الاستراتيجية المرتبطة بها، والمهددة بالتالي لوجود أو ولاء أقرب حلفائها إليها في الأقاليم المحيطة. كل ذلك، في ضوء المسعى الأمريكي الناجح نسبياً - حتى الآن - لكسب القوى الصاعدة و"الديناميكية"، خارج المركز، بصفتهم شركاء، وعلى الأقل تحييدهم، في معركتها الأهم، وأبرزها روسيا والصين والهند والبرازيل(BRIC) .
- إن معركة الولايات المتحدة العالمية الرئيسة، في ضوء النقطة السابقة مباشرة، هي مواجهة "التهديد" المتمثل في ما تصنّفه أمريكا على أنه "الإرهاب الإسلامي"، أو ما يُمكن أن نُطلق عليه "الحركات السياسية الإسلامية للعنف".
- إن المهمة الرئيسة على جدول الأعمال الأمريكي، في "المنطقة العربية - الإسلامية المركزية"، والمُسماة – أمريكياً - بالشرق الأوسط الكبير، بالارتباط مع النقطتين السابقتين، هي تأمين وجود وتطور إسرائيل باعتبارها "دولة يهودية"، وحليفاً إقليمياً ودولياً موثوقاً، لا يتزعزع ولاؤه التحالفي تحت أي ظرف، ولا يخشى جانبه بأي درجة ملموسة، خلال المدى المنظور، مهما تغيرت ظروف النظام السياسي المحلي، وذلك في قلب منطقة الإمداد الرئيسة بالنفط والغاز، وبعض المواد الأولية الأساسية، على مستوى العالم كله، ولنصف قرن قادم على الأقل.
- وفق ما سبق، تكون المنطقة العربية، والمنطقة العربية - الإسلامية، هي الميدان الأهم للصراع الدبلوماسي والسياسي والعسكري الذي تخوضه أمريكا على المستوى العالمي. ففي هاتين المنطقتين اجتمعت أربعة عوامل فاعلة في وقت واحد:
أ- إمدادات الطاقة.
ب- "العنف الإسلامي" أو "الإرهاب" المهدد الأبرز لهذه الإمدادات، ولو بالعنف الاعتباطي.
ج- إسرائيل باعتبارها أكبر حليف فرعي موثوق لمواجهة التهديد في إطاره الأوسع وعمقه الروحي والحركي المتمثل بعامل رابع يكمن خلف الجميع وهو:
د- حركة القومية العربية، باعتبارها حركة ذات قابلية دائمة لاحتضان مهام حركة التحرر الوطني العربية التي وضعت دائماً نصب أعينها استعادة السيطرة على النفط والغاز كقوة تنموية.
- إن لائحة القوى النظامية في المنطقة العربية وطوقها الإسلامي القريب، الممتد من إيران وتركيا إلى أفغانستان وباكستان، تنحصر – أمريكياً - في قائمتين: الأعداء والتوابع.
أما الأعداء فهم عدوّان: أحدهما عدو "مطلق"، إذا صح التعبير، وهو "تنظيم القاعدة" وامتداداته وقواه المساندة، لا سيما حركة طالبان في محور "أفغانستان - باكستان"، وعدو "نسبي"، إذا صح التعبير أيضاً، هو إيران التي قد يجمعها همٌ مشترك مع أمريكا في العراق وربما في أفغانستان، على الرغم من تناقض الهموم في الخليج وفلسطين ولبنان، مما يثير الشك الأمريكي العميق في مسعاها لاكتساب التكنولوجيا النووية وحيازة الأسلحة المتطورة، التقليدية وربما "فوق التقليدية"، براً وبحراً وجواً وفي الفضاء.
وأما التوابع فهم كثُر، ولا يُطلَب منهم أقل من "الولاء"، في "معركة المصير" الأمريكي ضد ما تعتبره مصنفاً في عداد "الإرهاب الإسلامي"، أو في عداد تهديد وجود إسرائيل وبناء قدراتها الأساسية في مجالات التطور الذاتي، والردع العسكري، والهجوم الفعلي والاستباقي. ذلك هو الولاء المتطلب من التوابع المفترضين، من جانب النظم السياسية المحلية في البلدان العربية والإسلامية المنخرطة بصفة مباشرة أو غير مباشرة في المعارك المتصلة بالنفط والغاز، وبالإرهاب، وبضمان أمن إسرائيل المطلق والأُحادي، وبمجابهة احتمالات تخلق حركة تحرر وطني عربية جديدة.
وتتحدد أبرز مهام الولاء من جانب التوابع من النظم السياسية في البلدان العربية والإسلامية ذات الصلة، في "الاستئصال العضوي" للقوى المحلية (المعادية) حتى لو أدى ذلك إلى تهديد نسيج الوحدة الوطنية والسلام الاجتماعي، بل ووحدة الإقليم الترابية - وهو ما يتضح جلياً في حالات قُطرية بارزة مثل باكستان واليمن (وما درس العراق ببعيد.!)، ودع عنك آخرين كثيرين.
ثانيا: الجانب الاقتصادي
التغيرات الاقتصادية العالمية بعد الأزمة المالية العالمية، وموقع الوطن العربي منها
نقدم فيما يلي نبذة عن بعض مؤشرات التغير في معادلات القوة الاقتصادية العالمية بعد الأزمة المالية العالمية لعام 2008/ 2009 وموقع الوطن العربي منها، على الرغم من تشوش دلالاتها، مما يحجب إمكانية تقديم صورة ثابتة الملامح حتى الآن.
ونعرض مؤشرات التغير من جانبين: الأول، بروز الدور الاقتصادي المؤثر عالمياً لـ"مجموعة العشرين"، وبخاصة في مجال إدارة النظام المالي والنقدي العالمي، وذلك من خلال عرض نتائج اجتماعين عُقدا خلال تشرين الأول وتشرين الثاني من 2010 في كوريا الجنوبية، لكل من وزراء المالية، ورؤساء الدول؛ والثاني، أوضاع التنافسية العالمية، وفق أحدث تقرير للمنتدى الاقتصادي العالمي (2010/2011).
1- مجموعة العشرين
هذه المجموعة مكونة من عشرين دولة تقدم نحو 85 – 90 في المئة من إجمالي الناتج القومي في العالم؛ وهذه الدول هي: الأرجنتين وأستراليا والبرازيل وكندا والصين وفرنسا وألمانيا والهند وإندونيسيا وإيطاليا واليابان والمكسيك وروسيا والعربية السعودية وجنوب افريقيا وكوريا الجنوبية وتركيا وبريطانيا والولايات المتحدة، بالإضافة إلى الاتحاد الأوروبي.
وقد انعقد اجتماع وزراء المالية للمجموعة في مدينة "غيونغجو" بكوريا الجنوبية، وأصدر بيانه الختامي يوم 23 تشرين الأول/أكتوبر، في وقت تصاعدت فيه أصداء ما يسمى بحروب العملات، وبخاصة بين الدولار واليوان، و أهم ما جاء في هذا البيان، مقترح متكامل بإعادة "هيكلة" و"هندسة" نظام إدارة صندوق النقد الدولي.
ثم انعقدت قمة العشرين في "سيول" – عاصمة كوريا الجنوبية - يوميْ 11 و12 من تشرين الثاني/ نوفمبر، بمشاركة أعضائها، أغنى دول العالم، سواء منها المتقدمة اقتصادياً، وبخاصة الولايات المتحدة والدول الأوروبية الكبيرة واليابان، أم الدول النامية الصاعدة والأكثر "ديناميكية"، وبخاصة "الرباعي": الصين والهند وروسيا والبرازيل. وعقدت القمة على وقع النزاع الدبلوماسي المحتدم بين الولايات المتحدة والصين، والذي يعكس تضارباً في المصالح الاقتصادية والتجارية، وينعكس اختلافاً واضحاً في مجرى السياسات المالية والنقدية. فالولايات المتحدة تعاني عجزاً مزمناً ومتواصلاً في الحسابات الجارية من ميزان مدفوعاتها الدولية، وبخاصة في التعامل مع الصين، في المقام الأول، ثم اليابان وألمانيا، والتي تحقق فوائض تجارية متواصلة مع الولايات المتحدة. وما بين "دول الفائض" ودولة "العجز الأكبر"، يثور النزاع الذي يأخذ مظهره الأشد في العلاقة بين الولايات المتحدة والصين، حيث تراكم الصين احتياطات مالية هائلة، من جرّاء الفائض التجاري المتعاظم مع الولايات المتحدة، كفارق بين الصادرات والواردات.
وقد أقر اجتماع القمة أهم مقترح وارد في البيان الختامي لوزراء المالية، وهو مقترح متكامل بإعادة " هيكلة" و "هندسة" نظام إدارة أو "حوكمة" صندوق النقد الدولي. وأهم ما جاء في ذلك المقترح، والذي سيتم إقراره النهائي خلال العام القادم، ويدخل حيز النفاذ خلال عامين، هو أمران: أ- زيادة حصص الدول النامية "النشطة" وذات الأسواق الصاعدة، في رأسمال الصندوق، بنسب معينة، بما يؤدي إلى زيادة القوة التصويتية للدول النامية داخل الصندوق إلى 6% من إجمالي الأصوات- علما بأن اتفاقية إنشاء الصندوق تربط القوة التصويتية لكل دولة بنسبة مساهمتها في رأس المال. ب- زيادة تمثيل الدول النامية في "المجلس التنفيذي" لصندوق النقد الدولي بعضوين إضافيين، يجري خصمهما من حصة دول أوربا المتقدمة، مع بقاء عدد أعضاء المجلس كما هو، أي 24 عضوا، ومع عدم المساس بنصيب الدول الأكثر فقرا. ويذكر أن الدول النامية "النشطة" تتصدرها المجموعة المكونة من البرازيل وروسيا والهند والصين.
2- أوضاع التنافسية العالمية في تقرير (2010/2011)
يُصدِر "المنتدى الاقتصادي العالمي" - منتدى دافوس – كما هو معروف، تقريره السنوي عن التنافسية في العالم، تقرير التنافسية العالمية (Global Competitiveness Report)؛ وأصدر المنتدى مؤخراً، تقرير العام 2010/2011، الذي نعتمد عليه هنا. واعتمد المنتدى، منذ خمسة أعوام، مؤشراً شاملاً لقياس التنافسية ومقارنتها بين دول العالم، التي يغطيها التقرير في كل عام، وبلغ عددها في التقرير الجديد 139 بلداً.
الدول العشرة الأولى على مقياس التنافسية في العالم
وفقاً للتقرير العالمي للتنافسية، فإن الدولة رقم 1 على مقياس التنافسية هي سويسرا، بفضل امتيازها في مجال الابتكار وترابط المؤسسات. والدول العشر الأولى، مرتبة تنازلياً، بعد احتساب سويسرا، هي: السويد، سنغافورا، الولايات المتحدة، ألمانيا، اليابان، فنلندا، هولندا، الدانمارك، كندا. وتقع كلها (باستثناء دولتين) في كل من القارة الأوروبية وأمريكا الشمالية، و يلاحظ أن الولايات المتحدة احتلت المركز الرابع، وأن البلدين من خارج أوروبا وأمريكا الشمالية، تقعان في شرق آسيا، و هما سنغافوره – في المركز الثالث، واليابان - في المركز السادس، وستة بلدان من بين العشر تعتبر دولاً "صغيرة الحجم" نسبياً، وتحتل المراكز الثلاثة الأولى، بالإضافة إلى السابع والثامن والتاسع، وهي التي أطلقنا عليها، في ما سبق، تعبير "الدول الصغيرة المتفوقة". وعموماً، يؤكد ترتيب الدول على مقياس التنافسية، وفق المؤشر السابق، مع وعينا لما يرد عليه من قيود، كما أشرنا آنفاً، أن مراكز القوة العالمية المسيطرة والصاعدة تتحدد، بصفة أساسية، في المناطق الثلاثة: أوروبا - الغربية والشمالية، وأمريكا الشمالية، وشرق آسيا.
البلدان العربية على مقياس التنافسية
من بين البلدان العشرين الأولى، على مقياس التنافسية، نجد بلداً خليجياً هو قطر، في المركز السابع عشر؛ وبعد العشرين الأولى مباشرة، نجد العربية السعودية في المركز الحادي والعشرين، ثم دولة الإمارات العربية المتحدة في المركز رقم 25، وتونس في المركز رقم 32، وعُمان (34)، الكويت (35)، والبحرين (37). وهذه هي البلدان العربية الوحيدة التي احتلت مراكز متقدمة على مؤشر التنافسية العالمي للعام 2010 وامتداده المتوقع في شطر من 2011، وهي سبعة بلدان: البلدان الست كلها أعضاء في مجلس التعاون الخليجي، بمواقع متفاوتة، بالإضافة إلى تونس.
وفي هذا السياق، يتأكد أن موقع التفوق في الأداء الاقتصادي التنافسي، في المنطقة العربية، يتركز في منطقة الخليج، بالنظر إلى عوامل متعددة، في مقدمها الوفرة المالية، في إطار "الطفرة النفطية الثالثة" – الراهنة - والمرتبطة باقتصادات الطاقة العالمية وحركتها بين مواقع الإنتاج والاستهلاك. إن الصعود النسبي لمنطقة الخليج، ينبغي ألا يحجب ما يرافق هذا الصعود من أبعاد سالبة جوهرية، في مقدمها: تعمّق الارتباط التبعي، الاقتصادي والسياسي والعسكري، بين منطقة الخليج ومراكز القوة المسيطرة في العالم، وبخاصة أوروبا الغربية والولايات المتحدة، على الرغم من علامات واضحة على التطلّع شرقاً، إلى آسيا. ومن أبلغ الأدلة على ذلك، تركز استثمارات الأموال السيادية الخليجية في الولايات المتحدة، في المقام الأول، وكشفت الأزمة المالية العالمية الأخيرة عن الخسائر المرتبطة بهذا النمط الاستثماري. يضاف إلى ذلك، أن ارتفاع ترتيب الدول الخليجية على مؤشرات التنافسية، ومؤشرات أخرى، مثل مكافحة الفساد، لا يرتبط بأي تغير حقيقي في نمط التوزيع المجتمعي للثروة النفطية، أو في نمط ممارسة السلطة و"نموذج الممارسة السياسية" باتجاه المشاركة الشعبية، كما أنه لا يتكفل بنقل المنطقة نقلة جذرية على معراج التنمية، بالإشارة إلى شرق آسيا كمثال. وأما الموقع المتقدم نسبيا لتونس على مقياس التنافسية، فلا يعكس المحصلة الإجمالية لحركة النمو في ذلك البلد، الذي شهد تفاوتا واسعا جدا في توزيع الثرة والدخل بين الطبقات والفئات الاجتماعية، من جهة، وبين المناطق الجهوية، من جهة أخرى، مما ولّد فسادا واسع النطاق، كان يعكس أزمة بنيوية طاحنة في النظام السياسي، وفي علاقة ذلك النظام بالمنظومة الاقتصادية والاجتماعية، من خلال تعمق الظاهرة المعروفة بتزاوج السلطة والمال في الأقطار العربية. وكانت هذه الحقيقة كامنة بقوة من وراء حركة الثورة الشعبية الرائدة في تونس خلال النصف الأول من كانون الثاني/يناير 2011.
ويبدو عموما، أن القوى المسيطرة على النظام العالمي، وربما الصاعدة أيضاً، وخاصة في منطقة شرق آسيا، ترتبط سيطرتها وصعودها، إلى حد معين، بإبقاء المنطقة العربية عموماً، والخليجية خصوصاً، في حيز إنتاج المواد الخام ومصادر الطاقة التقليدية من النفط والغاز الطبيعي، ربما حتى انتهاء عصر النفط والغاز، عند نقطة زمنية معينة خلال هذا القرن، الحادي والعشرين، وبخاصة مع بدء دخول بعض بلدان الخليج مرحلة الذروة النفطية (Peak Oil)، ليتلوها تسلسل "النضوب". وينتج من ذلك، بالنسبة إلى مواقف الدول المسيطرة والصاعدة، عدم السماح، أو عدم المساعدة، على تحول العرب عموماً إلى قوة تنموية وتصنيعية حقيقية، على مسرح النظام الاقتصادي العالمي، وفق نموذج فاعل، قريب في قوة فعله من نموذجيْ "شرق آسيا" و"البرازيل"، ما يمكن أن يُهدد الترتيب العالمي الراهن للقوة الاقتصادية العالمية، في الصميم.