من إدارة الشؤون الثقافية، إلى المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم
تستند المرجعيّة الأساسية للعمل العربي المشترك في المجالات التربوية والثقافية، كما هو الشأن في غيرها، إلى ميثاق الجامعة العربية الذي تمّ توقيعه بتاريخ 22 مارس/ آذار 1945 من الدول الست المؤسسة.
فقد نصت المادة الثانية من ذلك الميثاق على أنَّ "الغرض من الجامعة" هو "توثيق الصلات بين الدول المشتركة فيها، وتنسيق خططها". وجعلت من مجالات هذا التعاون والتنسيق ستة ميادين منها "شؤون الثقافة".
وامتداداً لهذا الهدف المنشود نصت المادة الرابعة من الميثاق على أنّه ينبغي أن تؤلف لِكُلّ واحد من تلك الميادين "لجنة خاصة تمثل فيها الدول المشتركة في الجامعة". وتحددت مهمة هذه اللجان في كونها "تتولى وضع قواعد التعاون ومداه، وصياغته في شكل مشروعات اتفاقيات تعرض على المجلس (مجلس الجامعة) للنظر فيها، تمهيداً لعرضها على الدول المذكورة". (الدول الست). وهكذا تمّ إنشاء لجان دائمة لتغطية كلّ مجالات التعاون العربي المذكورة في المادة الثانية. وكان من بينها لجنة الشؤون الثقافية، ومكتبها الدائم.
وقد تمت هيكلة الأمانة العامة للجامعة، وفقاً للمادة الثانية عشرة من الميثاق، بحيث جعلت لها مجموعة من "الإدارات"، اختصت كلّ واحدة منها بأحد المجالات المحددة للتعاون العربي، وكان من جملتها "إدارة الشؤون الثقافية" التي نصّ النظام الداخلي للأمانة العامة على أنَّ اختصاصها يشمل، القيام "بالدراسة التحضيرية للمسائل الثقافية والتعليمية" ثمّ أضيف إلى مشمولات اختصاص هذه اللجنة الإشراف على "مكتبة الجامعة". ثمّ أنشئت، بعد ذلك بمدّة، وابتداءً من عام 1967 تحديداً، أقسام متخصصة، ضمن الإدارة الثقافية، مثل "قسم التربية".
وقد نهضت هذه الإدارة الثقافية بدور بالغ الأهمية في مرحلة من التاريخ جاءت بعد الحرب العالمية، وشهدت فيها قضايا الفكر، والعلم، والثقافة، والتربية، تطورات حاسمة؛ وأتاحت لرجال التربية والثقافة العرب أن يرسموا الخطوط الأولى لهندسة ما نسميه اليوم "العمل العربي المشترك في ميادين الثقافة والتربية".
وكان من منجزات هذه "الإدارية" إنشاء عدد من الهياكل والمؤسسات الثقافية التي أدت أدواراً رائدة في ميادينها. منها:
1- معهد أحياء المخطوطات العربية
2- معهد البحوث والدراسات العربية
3- الجهاز العربي لمحو الأمية
4- المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم التي ستعوض الإدارة الثقافية، وترثها، وتصبح منظمة قائمة بذاتها ابتداءً من عام 1970.
ومن منجزاتها الكبيرة أيضا:
1- المعاهدة الثقافية العربية الصادرة عام 1945
2- ميثاق الوحدة الثقافية الصادر في بغداد عام 1964
3- عقد طائفة من المؤتمرات العامة للوزراء العرب المكلفين بالتربية والتعليم أو المعارف كما كانت تسمى يومئذ. وهي:
أ- المؤتمر الأوّل المنعقد بالقاهرة عام 1953
ب- المؤتمر الثاني المنعقد ببغداد عام 1964، وفيه تمّ تعديل المعاهدة الثقافية لعام 1945، وصياغتها في شكل "ميثاق الوحدة الثقافية التربية". وفيه تمّ اعتماد دستور المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم.
ه- المؤتمر الثالث المنعقد في الكويت من عام 1968. وقد انعقد في أعقاب هزيمة حزيران، فكانت قراراته متأثرة بتلك الأجواء الأليمة. لذلك جاء في إحدى توصياته: "إن المؤتمر، وهو يعيد تقويم تربية الفرد العربي، بعد كارثة الخامس من حزيران، ليؤمن بأننا في حاجة إلى التأكيد على تعميق التربية الروحية والخلقية، والتربية العسكرية العملية، لترسيخ الإيمان، وروح الجهاد، والتضحية، والبذل، والفداء... وجعل الاستشهاد في سبيل الله، دفاعاً عن الوطن، والأمة، أغلى الأماني، وأعز الغايات..."
د- المؤتمر الرابع المنعقد في صنعاء في 28 ديسمبر/كانون الأوّل من عام 1972. وفيه اتخذ قرار تشكيل لجنة عربية عليا لإعداد "إستراتيجية لتطوير التربية العربية". وفي مؤتمر صنعاء هذا تقرر أن يصبح اجتماع الوزراء العرب المكلفين بالتربية والتعليم، دورياً، بحيث يجتمع مرة كلّ سنتين، وأن يكون هو المؤتمر العام للمنظمة العربية الوليدة. وقد كان هذا المؤتمر مشتركاً بين إدارة الشؤون الثقافية الذي يمكن أن يعد آخر مؤتمراتها؛ وبين المنظمة العربية... الذي يعد حقاً أول مؤتمراتها.
وكان من إنجازات الإدارة الثقافية، أيضا، عقد اللقاءات التي كانت تسميها: "المؤتمرات الثقافية"، وهي شبيهة بما نسميه اليوم "الندوات" أو "الملتقيات"... وهي في العدّ تسعة
كما يضاف إليها أيضا، في قائمة منجزاتها العامة، التعاون مع منظمة اليونسكو، وإشرافها معها على عقد ثلاثة مؤتمرات لوزراء ومديري التربية في البلاد العربية، بهدف تطوير وتنسيق البرامج التربوية والتعليمية في الوطن العربي.
في خاتمة هذه الفقرات التي أرّخنا فيها بصفة موجزة لأهم المراحل التي مرّ بها عمل "الإدارة الثقافية" في الجامعة العربية، إلى أن سلمت المهمة للمنظمة المختصة التي كان هي صاحبة فكرة إنشائها، والساهرة على رعاية كلّ الخطوات التي أدت إلى قيامها. ونحن اليوم نستطيع أن نؤكد أن الفضل الأكبر يرجع إلى هذه "الإدارة" في بلورة الأسس الأولى لفكر تربوي عربي موحّد، قائم على حقيقة أنْ تربية أجيال الأمة العربية، وتمكينها من استيعاب عناصر هويتها الحضارية، مهمة قومية لا يستطيع قطر ما، مهما تكن إمكانياته، إن ينهض بها وحده، أو أن يمتنع عن وضع خبرته فيها، ورصيده منها في خدمة الجماعة القومية كلها.
وقد استمد كلّ قطر عربي من ذلك الفكر التربوي المنهجي، المتميز بحداثة طرائقه، ومسايرته لأهم ملامحه العالمية... استمد منه القدر الذي شاء، أو استطاع إن يستمده منه، في سياق ما نعرفه من العراقيل والمثبّطات والسلبيات التي طبعت، وما زالت تطبع، معظم مجالات العمل العربي المشترك؟
ونحاول، فيما يلي من الصفحات، وبقدر ما يتسع له الحجم المقرر لهذه الورقة، أن نقف عند أهم العمليات التي أنجزها التعاون العربي، في المجالات التربوية والثقافية والعلمية من خلال مؤسسات العمل العربي المشترك، على امتداد أكثر من خمسة وستين عاماً (65) منذ إنشاء جامعة الدول العربية سنة 1945. نحاول أن نقف عندها، ونقيّم أثرها بشكل عام، ونشير إلى بعض مظاهر العجز والقصور والنقص فيها، وهي كلها صفات العمل البشري الذي يطمح دائماً إلى الكمال، ولكنه محكوم عليه بأن لا يبلغه أبداً!...
ثانيا- أهم إنجازات العمل العربي المشترك في المحاور التربوية والثقافية الكبرى
لا نستطيع أن نقيّم مجموع المحاور التي كانت موضوعاً للعمل العربي المشترك، في المجالات التربوية والثقافية، خلال قرابة سبعة عقود من الزمن؛ فهي كثيرة ومتشعبة، تتطلب وقتاً أكبر، ودراسة أعمق، وحجماً أوسع، ولذلك فإننا نحصر ما نتناوله منها في العناوين الخمسة الآتية، وذلك من منظور الحرص على تجميع الملاحظات الأساسية، والاقتصار على المهم بعد الأهم، دون إغفال أن الإطار العام لهذه الورقة هو المؤتمر القومي العربي، وأن المسائل المتعلّقة بوحدة الأمة، ونهضتها، وتطوير الفعل التربوي والثقافي فيها، ومواكبة عصرها، والاستجابة التفاعلية لمتطلباته المنهجية والمعرفية، تشكل أبعاداً رئيسيّة للصرح الحضاري الذي تطمح النخب القومية إلى تشييده.
1- ترسيخ البعد القومي للتربية والثقافة القومية
لم تبدأ الاهتمامات القومية العربية، والتطلعات التوحيدية، في المجالات التي تعني هذه الورقة- كما في غيرها من المجالات- لم تبدأ مع قيام الجامعة العربية وهياكلها المتفرعة عنها. وتكفي، لبيان ذلك، عودة خاطفة للنشرات، والمجلات، والمؤلّفات الصادرة منذ أواخر القرن التاسع عشر، وعلى امتداد القرن العشرين، لنرى الأصداء التي كانت تتردد في مشارق الوطن العربي ومغاربه (وحتّى في أحنك الفترات الاستعمارية)، كلّما أثيرت قضية أساسية هنا أو هناك من قضايا الأمة، في مجالات فكرها وتاريخها... ولكن ميلاد الجامعة العربية ومؤسساتها جاءت في الوقت المناسب لتوفر ذلك الإطار النظامي، المؤسسي الذي سيحفز العمل العربي المشترك في أوج مرحلة اندفاع النخب العربية، وتوثَب تطلعاتها الوحدوية، في أعقاب نهاية الحرب العالمية الثانية. وأجواء وعود الحلفاء السخية التي كانت تهدهد أحلام الزعامات العربية بقيام الدولة العربية الحديثة على أنقاض الولايات العثمانية في الأقطار المشرقية.
انطلاقاً من هذا المنظور فإن "المؤتمر الثقافي" الأوّل الذي نظمته إدارة الشؤون الثقافية، وعقدته بـ "بيت مريء"، في لبنان، خلال شهر سبتمبر 1947، يمكن أن يعد اللقاء العربي الأوّل- بعد قيام الجامعة العربية- الذي تمّ فيه تأسيس وترسيم المبادئ الفلسفية، والأرضية الفكرية لفعل التربية في الوطن العربي كلّه. وكانت خلاصة إشغاله من الأهمية بحيث تمّ عرضها على مجلس الجامعة العربية الذي وافق عليها في جلسته المنعقدة يوم 22 شباط / فبراير سنة 1948 وقد كانت التوصية الأولى التي اعتمدها مؤتمر "بيت مريء" هي التي نصها:
"يرى المؤتمر أن الغرض من التربية الوطنية (هو) بثّ الروح الوطني في نفوس النشء، وإيقاظ الوعي الاجتماعي بينهم حتّى يشعروا بارتباطهم بوطنهم، ويدركوا واجباتهم العامة، ويتعاونوا على القيام بها، ويقدموا مصلحة الوطن على مصالحهم الخاصة". ولرفع كلّ لبس، وحتّى لا يظن أحد أن "الروح الوطني" الذي يراد تنشئة الأجيال عليه هو محصور في الوطنية القطرية، فإننا نجد مؤتمر "بيت مريء" يسارع إلى توضيح المقصود، فيضيف قوله، شارحاً ما سبق: "ويراد بالروح الوطني في العبارة السابقة: تنشئة الأفراد على القيام بواجباتهم نحو" الوطن المحلي "الذي ينتمون إليه أولاً، ونحو" المجتمع العربي الأكبر "الذي يضم البلدان العربية كافة".
ولم يجعل المؤتمر من مبدأ بثّ "الروح الوطني" مسألة محصورة في مادة محددة من مواد المنهاج المدرسي، بل شدد على أنّها "عملية تربوية متعددة الجوانب" وأنها "يستعان على تحقيقها بوسائل تربوية وعملية مختلفة، داخل المدرسة وخارجها. وهكذا نرى إننا هنا أمام تصور تربوي شامل يلاقى بين الجانب النظري وامتداداته العملية التي تحصل بالتدريب؛ ويجمع بين الإبعاد التربوية المدرسية التي تتم بين جدران القسم، والإبعاد التي تتم خارج المدرسة، وهو ما سيعرف، بعد ذلك، في الستينيّات، والسبعينيّات من القرن الماضي بـ"التربية اللامدرسية"، أو "اللاشكلية"، أي التي ليس لها شكل محدد منظم، تتم بواسطته. وقد اقترح لها بعض المربين العرب من إحدى ندوات "المنظمة العربية... "مصطلح "التربية المشاعة"، لأنها تشمل الأسرة، والشارع، وساحة اللعب، وما يستقر في أذهان الناشئة من القيم التي تتسرب إليهم من كلّ ما يحيط بهم من السلوكيات والتصرفات في بيئتهم، أو التي يستمدونها من وسائل الإعلام.
وتأكيداً لهذا الحرص، أوصى المؤتمرون بضرورة العناية بما سموه "الدراسات الاجتماعية الحديثة في كافة المراحل التعليمية" ودخلوا في تفصيل الكثير مما ينبغي أن تشمل عليه مناهج التعليم فيها، وحجم حصصها، وطرائق تدريسها. فذكروا على سبيل المثال أن المرحلة الابتدائية نفسها عليها أن تتسع برامجها الدراسية لعدد كاف من هذه الحصص، وأن تتناول "المسائل الاجتماعية والاقتصادية في الوطن العربي وفي البلدان العربية (كذا) ما يقوي الروح القومية" وذكروا من هذه الحصص: "الأخلاق"، ونظم الحكم عامة، ونظم الحكم في البلدان العربية بصفة خاصة".
ونحن نلمح من كلّ هذا، رغبة أكيدة من المؤتمرين في تمكين الناشئة من فرص المقارنة، والموازنة، بين الأنظمة التي تحكمهم، والأنظمة التي تحكم بلدان العالم المتقدم.
ثمّ كان من المبادئ الأساسية ذات الأهمية القصوى التي أوصى بها مؤتمر "بيت مريء":
- الحرص على الحيوية في تدريس مادة الجغرافيا التي يبرز فيها الاتصال الجغرافي للخريطة العربية من مشرقها إلى مغربها، ومن مغربها إلى مشرقها.
- العناية بدراسة جغرافية الأقطار العربية قطراً قطراً، وإبراز الروابط البشرية والاقتصادية فيما بينها.
- تأصيل تدريس مادة التاريخ، والاهتمام بتكوين مدرسيها؛ والحرص فيها على إظهار الوطن العربي بوصفه مهداً لأقدم وأرقى الحضارات القديمة في العالم كلّه.
- تأكيد ما كان لهذه الأقطار من صلات وروابط وثيقة بعضها بعض قبل الإسلام، وكيف انصهرت، بعد الإسلام، في كيان واحد، شيد واحدة من أعظم الحضارات، وأرقاها في التاريخ، ولم ينس المؤتمرون، في هذا المجال، الإشارة إلى ضرورة العناية- في المرحلة الثانوية- بالتاريخ العالمي "لفهم مشاكل المدينة الحديثة".
- ولم يغفل المؤتمر واقع الشعوب العربية التي كانت تكافح المحتلّ الجاثم على أرضه فأرسى مبدأ: إن الاستقلال حقّ طبيعي للشعوب، ودعا إلى إبراز ما للاستعمار من عيوب، وما فيه من شرّ.
- كما دعا إلى بثّ روح الديمقراطية في الأجيال الصاعدة، وجعلها عقيدة راسخة في نفوسهم.
- ولفت انتباه الدارسين إلى أن العالم يسير نحو التطور، والتكتل، والتجمّع، والاتحاد. وأن جامعة الدول العربية مظهر من مظاهر هذا التطور.
- وشدد على ضرورة التوعية بأن العروبة لا تقف حدودها عند طائفة أو دين.
- كما يخرج القارئ لتوصيات هذا المؤتمر بأنه لم يترك بعداً من الأبعاد القومية، في العملية التربوية العربية، إلا تناوله بمواقف واضحة. وكان بطبيعة الحال في مقدمتها: دور ومكانة اللغة العربية في هندسة الصرح التربوي العربي. وهي عناية لم يحتكرها هذا المؤتمر الأوّل بل سنجدها تتكرر بأشكال متعددة في معظم هذه المؤتمرات الثقافية، وفي سائر اللقاءات والمنتديات الثقافية والتربوية العربية.
وهكذا يتضح لنا من هذا السرد السريع لتوصيات مؤتمر واحد من "المؤتمرات الثقافية" التسعة، كما سميت في وقتها، والتي عقدت في فترة ما بين عامي 1947 و 1970، إن فلسفة التربية العربية في جوانبها الوطنية والقومية والإنسانية، وبمضامينها السياسية والفكرية والثقافية، قد بدأت بهذا النضج، وهذا الاستيعاب لحقائق العصر، ومتطلبات النهوض العربي.
2- اللغة العربية: أساس الوحدة القومية
من الطبيعي أن يأتي الكلام عن مكانة اللغة العربية في بناء الصرح القومي، ودورها في تربية الأجيال العربية على القيم الروحية، والثقافية، والحضارية المشتركة فيما بينها. أن يأتي في طليعة المبادئ والأسس التي عملت أجهزة الجامعة العربية، الإدارة الثقافية أولا، ثمّ المنظمة العربية بعد ذلك، على بلورتها وإخراجها في صورتها الحقيقة بوصفها الجامع الأعظم للأمة، والخزان الأكبر لذاكرتها عبر العصور والحقب.
وقد وجدنا المؤتمر الثقافي الأقل، المنعقد ببيت مريء، بلبنان، كما ذكرنا آنفاً، يهتم بجوانب إجرائية، عملت، في موضوع اللغة العربية، أكثر من اهتمامه بترسيخ المبدأ، ومعالجة المنطلقات الفلسفية والسياسية للموضوع. وكأن المؤتمرين رأوا أنّها كلها من باب تحصيل الحاصل. ولذلك رأيناهم يتناولون مواضيع لا تنقصها الأهمية، بِكُلّ تأكيد، ولكنها مع ذلك تبقى منزلتها في الدرجة الثانية.
فقد نبه المؤتمر في التوصية الخامسة والأربعين (45) إلى أن "اللغة العربية هي عماد الثقافة القومية"، ولهذا دعا البلدان العربية إلى أن "تعطي اللغة العربية أكبر مقدار ممكن من زمن الدراسة في مناهج التعليم". ولاحظ أن الدول العربية تفرّق من عدد وحجم حصص اللغة العربية، بين الأقسام الأدبية والأقسام العلمية، وبين مدارس الذكور ومدارس الأثاث، فشدد على أنّه ينبغي التسوية في ذلك بين كافة الأقسام والمدارس، بقطع النظر عن نوعها وجنس طلبتها...
ومن الأمور التي اهتم بها هذا المؤتمر أيضا، "تيسير وتبسيط اللغة العربية" وهو ما أضحى عرفاً راسخاً في المنهجية العربية، وتقليداً لا تكاد تتجاوزه، أو تحيد عنه. فكلما جاء الحديث عن إعطاء اللغة العربية حقها في التعبير الكامل عن الحياة العربية، جاءت المطالبة بضرورة "تيسيرها وتبسيطها". وقد طوّر هذا المطلب منذ بضعة عقود من السنين، بإضافة شرط ثان، أضحى هو أيضا من لوازم الحديث عن العربية، وهو: "عدم التفريط في تعليم وتعلّم اللغات الأجنبية" لأنها "أداة الانفتاح على العالم، وصارت لأزمة من لوازم العولمة..."
أما المؤتمر الثقافي الثاني المنعقد بمدينة الإسكندرية، في مصر، عام 1950 فهو الذي تناول المسائل المبدئية ذات الأهمية البالغة. وهو الذي دعا صراحة من توصيته التاسعة (9)، إلى "العمل على تحقيق الوحدة اللغوية في المجتمع العربي". وهو الذي اتخذ موقفاً صريحاً، لا لبس فيه من قضية ما يسمّى "تعريب التعليم" إذ أوصى بالعمل على "أن تكون الدراسة في جميع المعاهد، والجامعات بالعربية، وتشجيع رجال العلم من العرب على أن يؤلّفوا في مختلف العلوم بتلك اللغة". وقد أعطى مؤتمر الإسكندرية مفهوم "الوحدة اللغوية" مضموناً شاملاً حين دعا إلى تحقيق "الوحدة اللغوية في البلدان العربية، بحيث لا تكون العربية الفصحى لغة التعليم والكتابة فحسب، بل إن تكون لغة الحياة كلها. وقد ارتأى المؤتمر إن يناشد" مجمع فؤاد الأوّل للغة العربية"(وهو اليوم مجمع اللغة العربية بمصر) الإسراع بإخراج معجم بسيط للغة العربية" يكون في متناول الجميع.
وفي موضوع تعريب التعليم، وتوحيد المصطلحات العلمية، أنشئ في عام 1961 "المكتب الدائم لتنسيق التعريب في الوطن العربي"، وظل يتبع الإدارة الثقافية في الجامعة العربية إلى إن استحدثت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، فصار واحداً من أجهزتها المختصة إلى اليوم.
وقد انعقدت مؤتمرات عديدة للتعريب وتوحيد المصطلحات العلمية، لأهم الاختصاصات، في كافة المراحل التعليمية. وكان المؤتمر الأوّل قد انعقد بمدينة الرباط من عام 1961، وتم إثناءه تنصيب المكتب الدائم المذكور. ثمّ انعقد المؤتمر الثاني بالجزائر، في أواخر عام 1973؛ وفيه تمّ إقرار ستة معجمات للمصطلحات الموحّدة في ست من المواد العلمية الخاصة بمرحلة التعليم الثانوي. وانعقد المؤتمر الثالث بطرابلس، في ليبيا، وتوالت المؤتمرات بعد ذلك تحت رعاية "المنظمة العربية..." واعتمدت المؤتمرات الوزارية كثيرا من الإستراتيجيات، والخطط الشاملة، وأصدرت الكثير من البيانات، وتبنّت المئات من التوصيات فماذا كانت نتائج كلّ ذلك، وآثاره في الميدان؟...
التقرير المتضمن "إستراتيجية تطوير التربية العربية" التي أمر بإعدادها مؤتمر وزراء التربية الرابع المنعقد في صنعاء اليمن، أواخر عام 1972، وأجازه المؤتمر العام الاستثنائي الأوّل للمنظمة العربية... المعقود لوزراء التربية العرب في مدينة الخرطوم، بالسودان، عن شهر يوليو 1978، قد نصّ في مسألة العربية والتعريب على ما يلي: "إن الاتجاه إلى التعريب، بمعناه الخاص من اعتماد العربية، تقتضي مواجهة حاسمة في التعليم العالي. لا بدّ لسائر الأقطار العربية من بذل الجهود لتحقيق هذا الهدف، ليؤلّف جانباً من المواجهة الشاملة للتعريب بمعناه العام، اعتماد اللغة العربية الفصيحة في الإدارة والتشريع، وفي الثقافة والحياة عامة، وإضفاء الخصائص العربية عليها..." وعلى الرغم من هذا الأسلوب الملتوي المعقد، في التعبير عن الأشياء الواضحة، فإن الدعوة إلى التعريب الشامل لِكُلّ مظاهر الحياة، بما فيها التعليم العالي هو المحتوى الأساسي لهذه الفقرة، ولكل الفقرات التي عالجت هذا الموضوع في التقرير المشار إليه.
بيد إن التقرير المتضمن "الخطّة الشاملة للثقافة العربية" هو الذي تضمّن أجمل وأجرأ الأسطر عن اللغة العربية والتعريب. فقد ورد فيه: "واللغة العربية... فيها الخصوصية القومية، والوحدة السياسية، والتراث والاستمرارية الثقافية، وحيوية الفكر العلمي، والإبداع الأدبي" (طبعة 1990، ص 93، نشر المنظمة العربية...) وتضيف الخطّة بعد ذلك: "اللغة العربية هي أبرز مظاهر الثقافة العربية، وأكثرها تعبيراً وأثرا بوصفها وعاء الوجدان القومي. فلا ثقافة قومية بدون لغة قومية". (المصدر نفسه).
وفي الدورة السابعة لمؤتمر وزراء الثقافة العرب، المنعقد بالرباط، في المملكة المغربية، في أكتوبر 1989، تحت عنوان: "مكانة اللغة العربية في الثقافة العربية- الإسلامية، والثقافات العالمية الأخرى" وتحت شعار: "اللغة العربية: هويتنا القومية"، قد ورد في بيانه الختامي ما يلي: "لمن الاعتماد على لغات أجنبية من نقل المعرفة العلمية لنا شئتنا، وتدريس العلوم والتقنيات في أغلب الجامعات العربية بلغات أجنبية، يعني عزل اللغة القومية والثقافة العربية عن كلّ مضمون علمي؛ خاصة وأن التجارب قد أكدت إن لا سبيل إلى تحقيق تقدّم جدي، في شتى مجالات المعرفة، خارج اللغة القومية". ثمّ يضيف بيان الوزراء: "إن اعتماد اللغة العربية في التعليم، بجميع مراحله واختصاصاته، وفي مختلف أجهزة العمل، والإدارة، والإعلام، وفي التأليف والإبداع... هو السبيل الأكثر لاستعادة اللغة القومية وظائفها الطبيعية..."
وكان التقرير المتضمن نصّ "الخطّة الشاملة للثقافة العربية" قد عالج قضية العربية والتعريب بغاية الدقة والحكمة والموضوعية في الفصل الذي عنوانه: "الثقافة بوصفها تعبيراً: اللغة العربية والمشكل اللغوي" (ص 297 وما بعدها) ففي هذا الفصل أحْصَتْ الخطّة "مشكلات اللغة العربية الحالية"، وتطرقت إلى "أسباب الضعف اللغوي" واقترحت الحلول الممكنة، والمواقف المبدئية اللأزمة للحل الجذري، على صعيد القرارات السياسية، وتطوير المؤسسات المتخصصة في شؤون اللغة العربية.
هذا في موضوع اللغة العربية، أما موضوع "التعريب" فقد تناولته الخطّة بصفة منهجية محكمة، وتم فيها توضيح الإخطار الناجمة عن الاستمرار في نشر العلم والثقافة باللغات الأجنبية، وانعكاس ذلك على المستقبل الحضاري للأمة، وأمنها الثقافي (ص 316 وما بعدها).
وقد أبى محررو "الخطّة الشاملة" إلا أن يختموا الفصل الذي عنوانه "العناية باللغة القومية" (93) بالفقرة المعبرة التالية: "دام الاستعمار الياباني لكوريا ستين سنة منع فيها تداول اللغة الكورية. وما إن استقلّ البلد حتّى كان أول مرسوم، في أول عدد من جريدته الرسمية: منع التحدّث باليابانية. وشطبت من الحياة... وقد حسم "هوشي منه" القضية اللغوية بعد انتصاره مباشرة في فيتنام، وأعلن فتنمه كلّ الكليات والجامعات والمدارس... والصين كان أول قرار لها، بعد نجاح "ما وتسي تنغ" سنة 1949، فرض لغة بكين... وكانت معجزة من معجزاتها العديدة: إيجاد آلة تحوي 2200 حرف، تكتب لها... قرابة أربعمائة ألف حرف صيني... "ومع إن الياباني يحتاج إلى معرفة 2600 حرف، على الأقل، لقراءة الجريدة، (فإن) اليابان تستخدم اليابانية في جميع مراحل التقنية المتقدمة بها على العالم..."(الخطّة الشاملة ص 99).
وعلى الرغم من كلّ هذه التحليلات الجادة، والأمثلة المضروبة، والتوصيات الحازمة التي يتبناها وزراء العرب في مؤتمراتهم، فإن وضعية اللغة العربية في الأقطار العربية لا تتقدم، بل أنّها في كثير من الميادين تتراجع بصفة ينبغي أن تدعو إلى القلق عليها، وهي تترك مكانها، شيئاً فشيئاً، في أكثر المجالات حساسية وأهمية، للغات الأجنبية. بل أن المؤسسات العربية التي تستحدث لدعم العربية والتعريب نفسها تؤول أحياناً إلى التلاشي والزوال نتيجة لعجز "العمل العربي المشترك" عن مدّها بما يلزم من الوسائل الضرورية لحياتها واستمرار بقائها.
ومن أمثلة ذلك ما وقع لمؤسسة "المركز العربي لبحوث التعليم العالي" الذي أنشئ عام 1982، والذي يقول عنه الدكتور "جبرائيل بشارة" في ورقة مقدمة إلى ندوة "مستقبل العمل العربي المشترك في مجال البحث العلمي والتعليم العالي" المنعقدة ببيروت عام 2005: "كان من أولى مهامه تطوير التعليم العالي، وتحديثه، وتحسين نوعيته. وقد قام المركز بإجراء البحوث والدراسات التي تتناول قضايا التعليم الجامعية والعالي في الوطن العربي بما يخدم التنمية الشاملة... كما أصدر" المجلة العربية لبحوث التعليم العالي "، لكن تراجع العمل العربي المشترك، وتحجيم منظماته في أواخر الثمانينيّات أدى إلى إلغاء هذا المركز وحرمان التعليم العالي العربي من المؤسسة القومية والوحيدة التي تعنى بشؤونه". (المجلة العربية للتربية 25/2 - ديسمبر 2005).
ومع ذلك فإن المؤسسات العربية الثقافية والتربوية لم تتوقف أبداً عن مسعى التوحيد في كلّ المجالات!
3 - السعي الدائم إلى توحيد كلّ مظاهر التعليم والثقافة في الوطن العربي.
كانت الرغبة في التوحيد... توحيد كلّ شيء، هاجساً دائماً، مستمراً لِكُلّ اللقاءات العربية منذ نشأة الإدارة الثقافية في الجامعة العربية، إلى استحداث المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم.
ولعلّ هاجس التوحيد هذا كان أبرز في مجالات التربية والثقافة منه في المجالات الأخرى، ولا سيّما تلك المرتبطة بالقطاعات السياسية، وما يسمّى عادة القطاعات الخاضعة بصفة مباشرة لتنظيمات السلطة، والأنظمة الحاكمة.
وهكذا رأينا المطالبة بتحقيق "الوحدة اللغوية" التي أشرنا إليها سابقاً، تصدر عن المؤتمر الثقافي الثاني (الإسكندرية 1950). وقد عززت هذه الدعوة ما كان المؤتمر قد طالب به من ضرورة "توحيد مدّة الدراسة في التعليم الثانوي" (التوصية الثامنة) ثمّ دعا إلى "تقريب مناهج هذا التعليم من كافة البلدان العربية". والغاية من ذلك هي، كما جاء في التوصية المذكورة، تمكين كلّ طالب عربي من أنْ "يجد الوسائل ميسورة لاستكمال دراسته في أي بلد عربي آخر ينتقل إليه من غير أن يحدث ذلك اضطراباً في مناهج دراسته".
ونحن هنا نلاحظ أن التوجه المطلوب ليس مجرّد عملية شكلية ذات أثر نظري، أو معنوي بحت، بل هي في الحقيقة عامل من عوامل الفضاء العربي كلّه أمام التلاميذ وطلاب العلم للتنقل من قطر إلى قطر للتعلم واستكمال الدراسة من غير أن يعانوا لا تشويشاً على مستقبلهم الدراسي، ولا اضطراباً في حياتهم العامة. تماماً مثلما كان الأمر في كامل الرقعة الحضارية العربية- الإسلامية، في عصورها الذهبية.
واللافت للانتباه أن التوصية العاشرة (10) الصادرة عن المؤتمر الثقافي الثاني نفسه، تذهب إلى أبعد كثيراً من التوصية السابقة، حين تدعو صراحة إلى ضرورة "طبع التعليم العام، في جميع مدارس البلاد العربية، بالطابع القومي، حتّى تتحقق بذلك وحدة تعليمية في البلاد العربية قائمة على الثقافة القومية (التي) يأخذ الدين منها مكانة باعتباره الركن الأكبر من تلك الثقافة". ثمّ تضيف التوصية من منطلق الحرص على توضيح الجانب الديني في الثقافة القومية، فتنصّ على ضرورة "عرض الثقافة الدينية مبسّطة، حديثة، لتلاميذ المدارس الثانوية. وقد كان من امتدادات هذه العناية بالثقافة الدينية عقد ندوة مكة المكرمة، في شهر أبريل من عام 1980، تحت عنوان "أسس التربية الدينية".
وقد كان واضحاً، لدى جميع الناشطين في هذه المجالات التربوية والثقافية، أن كلّ الدعوات الرامية إلى توحيد التعليم العربي إنما قامت على أساس مبدإ أن يكون الطابع القومي هو السمة الغالبة لذلك التعليم. وفي هذا الإطار ارتأى أعضاء مؤتمر الإسكندرية أن يوصوا بجعل المؤتمر القادم (الثالث) تدور اشغاله على بحوث ودراسات غايتها: "طبع التعليم العام، في مختلف البلاد العربية، بالطابع القومي القائم على خصائص الثقافة القومية..."
ثمّ انتبه المربون العرب المشاركون في هذه المؤتمرات الثقافية المبكرة إلى أنْ توحيد المناهج في حدّ ذاته شيء جيد، ومفيد، ولكن لن يحقق الغاية إذا لم يقم على تطبيق تلك المناهج معلمون يحملون في خصائصهم العلمية، ومميزات سلوكاتهم الإنسانية، ملامح مشتركة تؤهلهم لإنجاح هدف الوحدة الذي هو أصلا الغاية المنشودة من وراء مطلب التوحيد. ولذلك نجد التوصية السابعة والثلاثين (37/الإسكندرية) تدعو بِكُلّ صراحة إلى "إنشاء معاهد علمية موحّدة النظام في الأقطار العربية لتخريج ذلك النوع من المعلمين".
ويخيل لمن يدرس توصيات هذه "المؤتمرات الثقافية"، ويرصد مسارها أنّها لم تترك شيئاً، صغر شأنه أم كبر، في حياة الأمة العربية التعليمية والثقافية إلا أوصت بتوحيده: من لغة التعليم، إلى مناهج الدراسة، إلى المواد التعليمية وحجم حصصها، إلى سلّم التعليم وعدد سنواته في كلّ مرحلة من مراحله، إلى اعتماد منظام واحد (هيكل تنظيمي) للمديريات والمصالح الإدارية في وزارات التعليم العربية، وإطلاق تسميات موحّدة عليها (من مقررات مؤتمر الوزراء ببغداد عام 1964). حتّى الكتب المدرسية أوصى المؤتمر الأوّل لوزراء التربية العرب، المنعقد بالقاهرة عام 1953، بأن "تقوم الإدارة الثقافية بدراسة موضوع إمكان وضع كتب موحّدة للتدريس، تتضمن القدر المشترك في جميع مراحل التعليم الابتدائي والثانوي".
والامتحانات المدرسية نفسها، في جميع مراحل المنظومة التربوية، وطرائق إجرائها، وأساليب طرح الأسئلة فيها، وتقويم إجابات التلاميذ عليها... طالب بتوحيدها المؤتمر الثقافي السابع، المنعقد بمدينة قسنطينة، في الجزائر، بتاريخ فبراير 1964. وكان مؤتمر بغداد المنعقد تقريباً في الفترة نفسها من عام 1964 (وهو المؤتمر الثاني للوزراء العرب المكلفين بالتعليم) قد أوصى بتوحيد تسمية الوزارات العربية المختصة بشؤون التعليم ليكون اسمها جميعاً "وزارة التربية"، وكان في تسميتها تباين كبير: وزارة التعليم، وزارة المعارف، وزارة التهذيب، وزارة الإرشاد، وزارة التربية...
ولم تقتصر رغبة التوحيد هذه الجوانب المعنوية التي ذكرنا جزء منها، بل سعت أجهزة الجامعة العربية، قبل ميلاد "المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم" إلى ترجمتها بصفة فعلية من خلال بعث مجموعة من الهيئات العربية الموحّدة مثل: اتحاد الجامعات العربية، واتحاد المجامع العربية، واتحاد الناشرين العرب، واتحاد مجالس البحث العلمي العربية...
وهكذا نرى أن مؤسسات العمل العربي المشترك، في هذا الجانب الذي ندرسه من شؤون التعليم والفكر والثقافة قد استطاعت أن تطرح المبادئ المتعلّقة بتوحيده بِكُلّ قوة، وبكُلّ جرأة، فهل اقتصرت على مطالب التوحيد هذه أم غاصت في أعماق الأبعاد التربوية والثقافية، ووقفت بالتحليل والدرس عند أهم العناصر المكونة لها، ومعطيات نجاحها باعتبارها، قبل كلّ شيء، أداة تكوين الأجيال، وتسليحهم بالمعارف والمهارات لتشيد التقدّم الاجتماعي؟
4 - الحرص على الطرح الشامل والاستيعاب الوافي، والخوض في الإستراتيجيات لمواكبة العصر
لا يملك الإنسان إلا أن يبدي إعجابه بكثرة وتنوع ما طرح، وما عولج من الموضوعات في إطار أجهزة العمل العربي المشتركة في مجالات التربية والثقافة والعلوم، وما يتفرع عنها، وما هو لصيق بها من الشؤون والاهتمامات، وذلك سواء في مرحلة الإدارة الثقافية التابعة للأمانة العامة للجامعة العربية، أو في المرحلة التي استقلت فيها تلك الموضوعات بمنظمة خاصة بها، وهي "المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم".
ولو شئنا اليوم أن نقدم ثبتاً مدققاً بالندوات، والحلقات الدراسية، والملتقيات، والمنتديات المختلفة التي عقدتها، وأشرفت عليها هذه أو تلك، لتطلب الأمر منا أن نؤلف فيها كتاباً ضخماً. وإنما نريد في هذه العجالة أن نكتفي بلمحة مختصرة لمجرد إعطاء صورة تمثيلية عن نشاط أجهزة العمل العربية المشتركة بواسطة عينات محدودة من الجهود المبذولة على امتداد قرابة سبعة عقود من الزمن.
ولعلّ أهم انطباع يخرج به من يلقي نظرة على تلك العينات أن "الإدارة" و "المنظمة" مجتمعتين لم تتركا شأناً من شؤون التربية والتعليم، والثقافة، والعلم... ولا فئة من فئات الأفراد المنتمين إليها، والعاملين فيها، إلا تناولتها بالبحث والدراسة، مما يتيح لنا أن نقول إن الإدارة والمنظمة قد حرصتا على الطرح الشامل، والاستيعاب الوافي لِكُلّ جانب من جوانب الفكر التربوي، والبعد الثقافي، في حياة الوطن العربي.
ونريد من غير العودة إلى ما أوردناه في الصفحات الماضية من النشاطات التي تمت عبر "المؤتمرات الثقافية"، ومؤتمرات الوزراء، أن نشير إلى تلك العينات في ما يلي:
- حلقة وسائل تسيير تداول الكتاب العربي ونشره المنعقدة في سبتمبر 1961، بسوق الغرب، في لبنان.
- حلقة دراسية عن "توحيد أسس المناهج المدرسية في التعليم المهني والفني في البلاد العربية" وقد انعقدت بالقاهرة سنة 1969.
- حلقة "الثقافة القومية للطفل العربي" المنعقدة ببيروت في شهر يوليو من عام 1970.
- حلقة "الإنسان والبيئة والتنمية". وقد عقدت في الخرطوم، بالسودان، في شهر يناير سنة 1972. الجدير بالذكر أن هذه الحلقة قد نبهت، في هذا الوقت المبكر، إلى أهمية الحفاظ على ما سمته "الثروة البشرية المدرسية"، وحذرت من المخاطر التي تترصدها، وفي مقدمتها: "الاستنزاف، والهجرة إلى الخارج" وهذا كلّه عام 1972...
- حلقة "توفير التدريب المهني للمنتهين من الدراسة في مختلف مراحل التعليم" المنعقدة ببغداد، في نوفمبر 1972.
- ندوة خبراء "رسم السياسة العلمية والتخطيط العلمي" التي انعقدت بالقاهرة، في شهر يونيو 1973.
- مؤتمر "المسرح في الوطن العربي" المنعقد بدمشق في أيار 1973، وفيه ناقش الخبراء قضية الدور التعليمي للمسرح، وأهمية ذلك في تكوين الأجيال العربية.
- حلقة "الثقافة الجماهيرية في الوطن العربي" المنعقدة ببغداد في سبتمبر 1973.
- حلقة "السينما في الوطن العربي وأثارها الثقافية والاجتماعية" المنعقدة في طرابلس، بليبيا، في يونيو 1975.
- حلقة "التكامل بين أجهزة الثقافة وأجهزة التعليم" المنعقدة في طرابلس أيضاً، بليبيا، عام 1976 (يناير). وقد أوصت بالتوسع في إقامة المتاحف وتنمية دورها التعليمي، ولا سيما باتخاذها قاعدة لتدريس مادة التاريخ، وإنشاء المتاحف العلمية التي تمّ بواسطتها نشر الثقافة العلمية.
- حلقة "برامج التلفزة والإذاعة التعليمية"، المنعقدة بالكويت في سبتمبر 1979.
- ندوة "أسس التربية الإسلامية في المدارس العربية" المنعقدة بمكة المكرمة، في أيار 1980.
- ندوة "المسؤولين عن تعريب التعليم العالي في الوطن العربي" المنعقدة بدمشق في أكتوبر سنة 2000.
إلى غير ذلك من مئات الندوات والحلقات، والملتقيات المماثلة لِكُلّ جانب من جوانب العمليات التي لها علاقة ما بالتعليم، والتربية، والثقافة، والتدريب والتكوين.
ولم تهمل الندوات العربية التي أشرفت عليها أجهزة العمل العربي المشترك، الجوانب الخاصة، والمظاهر غير العادية، والأوضاع الاسثنائية من ذلك مثلاً:
- ندوة حول "المدرسة ذات المعلم الواحد" المنعقدة في الخرطوم، في شهر نوفمبر، عام 1979.
وقد غطت تلك اللقاءات العربية المشتركة تغطية واسعة كلّ الجوانب الثقافية كالمسرح، والسينما، والفنون التشكيلية، والموسيقى، والأناشيد المدرسية، والإبداع الادبي، والترجمة، والثقافة الجماهيرية، ولقاءات كثير ومتنوعة في شأن الجوانب المختلفة لمشكلة الامية المتفاقمة في الوطن العربي، ووضع المرأة في الثقافة، والفتاة في التعليم، والمعوقين وذوي الحاجات الخاصة.
وعالجت حلقات المنظمة العربية الأوضاع الخاصة بفئات متعددة من التلاميذ والطلبة العرب مثل مشكلات التعليم في فلسطين، والقضايا التربوية الخاصة باللاجئين الفلسطينيين وأبنائهم. كما عالجت مشكلة تعليم أبناء الجاليات العربية المقيمة بالبلدان الأوروبية. وقد بلغ الاهتمام بهذه القضية التي عقدت المنظمة العربية لها ندوات ولقاءات متعددة، أن أنجزت وضع برنامج خاص للمواد التي رأت أن تجعل منها مرتكزات للمضامين والمحتويات التربوية الكفيلة بصيانة شخصية أولئك الطلبة، وإتقانهم للغة العربية، وإبقائهم على صلة قوية بمقومات حضارتهم الأصلية: العربية والإسلامية. وزادت على ذلك فشكلت لجنة كان من المقرر أن تؤلف الكتب المدرسية التي يكون تدريس تلك المواد على أساسها. وكان المبدأ أن تقوم البلدان العربية التي لها جاليات في تلك البلدان، بمساعدة صندوق عربي خاص، بتمويل شبكة من المدارس يتلقى فيها أبناء العرب المهاجرين التكملة التربوية والثقافية الضرورية لحمايتهم من الذوبان في مجتمعات غريبة عنهم. وبعد هذا الجهد الكبير في التفكير والتصور، لم ينجز شيء من هذا الموضوع على الإطلاق. وبقيت بعض التجارب المحدودة الخاضعة لمبادرات بعض الأقطار العربية مثل المدرسة العراقية، والمدرسة الليبية في باريس، والبعثات التعليمية التي توفدها الأقطار المغاربية لتدريس العربية لعدد محدود من أبنائها في دروس تعطى خارج الأوقات الدراسية، وتتم غالباً في أماكن ومحلات تبنى أساساً للتعليم، مما يجعل تلك الدروس بشكل عام، غير ذات جدوى.
وخلاصة هذا القسم من "الورقة" أن هذه اللقاءات العربية التي سردنا عينة قليلة، ولكنها تمثيلية منها قد دلت على جهد كبير بذل في مجال التصور والتفكير، وإعداد الأرضيات الفكرية، بالإضافة إلى جهود أخرى مشكورة في مجال وضع الخطط العامة. نريد أن نخصها بالذكر في الفقرة التالية:
إستراتيجيات وخطـط شاملـة
من ثمار الجهد الرائع الذي بذلته النخب الفكرية العربية التي دعيت إلى الإسهام في العمل العربي المشترك بعقولها وأقلامها واجتهادها، تلك الوثائق العامة التي تمّ إنجازها تحت الإشراف المباشر للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، وهي في حقيقة أمرها أرضيات فكرية، وتصورات مرجعيّة، في شكل إستراتيجيات عامة، وخطط شاملة، استوعبت، واستخلصت، في المجالات التي اختصت بها كلّ أعمال وتوجهات وتصورات الندوات والحلقات والمؤتمرات السابقة، وصيغت في شكل خطط شاملة، متناسقة، تصف الواقع، وتستنبط مبادئ العمل فيه، وترسم خطّة تطويره ومعالجة مشاكله... وفي ما يلي نورد أهم ما أنجز إلى الآن من تلك الوثائق الهامة:
- إستراتيجية تطوير التربية العربية
- الإستراتيجية العربية لمحو الامية وتعليم الكبار
- الخطّة الشاملة للثقافة العربية
- إستراتيجية تطوير العلوم والتقانة في الوطن العربي
- الإستراتيجية العربية لتطوير التعليم العالي
- الإستراتيجية العربية للتعليم عن بعد
وهذه كلها نصوص مرجعيّة بالغة الأهمية، جاءت في شكل إطروحات علمية، واستمت بالمنهج العلمي في التحليل والوصف والاستخلاص. واعتنت بالغ العناية برسم خطط التطوير والترقية للمجالات الموضوع لها من أجل تحديثها وجعلها مواكبة للعصر.
ولكنها في المحصلة تبقى مجرد نصوص، قيمتها في العمل بها. ومن هنا أحقية طرح التساؤل عن جدوى العمل العربي المشترك، بوجه عام، إذا حرم من شروط وسائل نقله من الفكر إلى الواقع، وإعطائه فرص التطبيق الفعلي، وإثبات مقدار نجاعته في الميدان.
ثالثاً: هل من جدوى فعلية في العمل العربي المشترك؟
محاولة تقويم واستخلاص
كثير من الناس، وليسوا كلّهم من ذوي النوايا السيئة، أو الإحكام المسبقة مازالوا يتساءلون عن جدوى هذه المؤسسات العربية، وكفايتها في قيادة العمل العربي المشترك، وقيمة ما تنجزه، وما تحققه من نتائج ميدانية بإمكانها تطوير الواقع، أو تغييره نحو الأحسن. وهذا في مقابل ما تستهلكه من الجهد والمال.
والحق أن الذين يطرحون هذا النوع من التساؤلات بخصوص نشاطات العمل العربي المشترك، في مجالات الفكر والتربية والثقافة، هم نفسهم المشككون الذين لا يرون أية فائدة ترتجى من وراء أي تحرّك عربي سواء كان في هذا الميدان الذي نحن بصدد عرض بعض من جوانبه، أو في الميادين الأخرى ذات الصبغة التجارية، والاقتصادية وغيرها.
ونعتقد أنّه من العبث الذي لا طائل منه الحكم على مجموع ما قامت به المؤسسات العربية الثقافية وغيرها بالعقم والفشل. ذلك أن أقل ما يمكن أن يذكر لها من الحسنات أنّها أبقت جذوة الأمل حيّة، متوقدة، في نفوس الجماهير والنخب العربية، على الرغم من عوامل التثبيط العديدة، ودوافع الإحباط الكثيرة. ذلك أن مشاهدة مدى ما تستطيع الإرادات العربية، في مستويات التصور والتفكير، إنجازه من خطط التقريب، بل التوحيد بين الرؤى والمسالك، في مجالات نظرية تكاد تختص فيها كلّ جماعة بشرية بقدر ما من الخصوصية والذاتية، يبعث على الفخر والإعجاب...
ولكن الذي يبرر من الناحية المبدئية، تشكيك المشككين، إنما هو هذا الواقع البائس الذي يجعل مئات، بل آلاف القرارات والتوصيات السديدة، الصائبة، الضرورية للقطاعات المعنية بها من منظور قومي... يجعلها مجرد أوراق مصفوفة على الرفوف، أو حزم منسية في ظلام دهاليز الأرشيف، أي في جميع الأحوال حبراً على ورق... وذلك لأن عوامل داخلية بلدية، وعوامل أخرى خارجية متحكمة تشل القدرة على الفعل لدى من هم في مواقع الحكم، ولكن تنقصهم الإرادة السياسة لنقل الجهد العربي الخلاق من حيّز التصور والتنظير، إلى ميدان التطبيق والإنجاز.
ولو إننا حصرنا ملاحظاتنا في قطاعات التربية والثقافة والعلوم وحدها لكان أول ما نستخلصه منها هو ذلك الإحساس الطاغي لدى نخب الأمة العاملة في هذه المجالات بالإحباط الشديد من تأمل المفارقة المحزنة بين فرص التقريب، والتوحيد، والدمج، والتنسيق... التي تبرهن عليها كلّ مناسبات اللقاءات العربية، وبين الواقع المفروض الذي يزداد فيه التباعد والتناقض، وتنتصب فيه الموانع والحواجز أكثر فأكثر في وجه التفاعل والتكامل بين أفراد النخب العربية.
إن الظاهرة التي تلفت الانتباه، وتشدّ الأنظار ه