المؤتمر القومي العربي
ARAB NATIONAL CONFERENCE
أفكار
حول سبل استنهاض التيار القومي العربي **
أ. معن بشور *
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* الأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي، رئيس المركز العربي الدولي للتواصل والتضامن.
** أعدّت هذه الورقة بعد أن تجاوب عدد من أعضاء المؤتمر مع رغبة الكاتب بتقديم مساهماتهم وأفكارهم، وقد تجاوب مشكوراً بالإضافة إلى د. خير الدين حسيب أمين عام المؤتمر القومي العربي سابقاً، وعضو الأمانة العامة د. زياد حافظ، كل من الأخوات والأخوة: د. داوود خير الله، أ. سامي قنديل، أ. صباح المختار، أ. عبد الواحد هواش، أ. عصام عائد، أ. علاء الدين الأعرجي، أ. ناديا بوركبة.
- لا تعبر هذه الورقة بالضرورة عن رأي الأمانة العامة للمؤتمر القومي العربي.
*** لا يجوز نشر هذه الورقة كلاً أو جزءاً إلا بموافقة تحريرية من إدارة المؤتمر.
أفكار
حول سبل استنهاض التيار القومي العربي
إعداد: أ. معن بشور
قبل الشروع في بحث سبل استنهاض التيار القومي العربي لا بدّ من الاجابة السريعة على أسئلة ثلاث تتصل بهذا التيار:
السؤال الأول: ما هو تعريفنا للتيار القومي العربي؟
والسؤال الثاني: هل هناك حاجة موضوعية في الأمة لمثل هذا التيار لكي يشكل استنهاضه نهوضاً بواقع الأمة كلها؟
أما السؤال الثالث: ما أسباب انحسار هذا التيار، هل هي موضوعية أم ذاتية، هل هي فكرية أم تنظيمية، هل لها صلة بالأهداف أم أنها في معظمها متصلة بالوسائل والآليات؟
السؤال الاول: في التعريف:
لقد أجاب مؤتمرنا القومي العربي منذ تأسيسه على هذا السؤال، وخصوصاً في استراتيجية عمله التي أقرّها المؤتمر الرابع في بيروت عام 1994، وأعّدها أول أمين عام للمؤتمر وأحد أبرز مؤسسيه د. خير الدين حسيب، حيث قالت الاستراتيجية: "إن مفهوم التنوع والتكامل، المشار إليه في المادة الثانية من النظام الاساسي، يعني أن يضم المؤتمر أشخاصاً من جميع التيارات والقوى السياسية والاجتماعية الموجودة على الساحة العربية، والملتزمة بالمشروع الحضاري القومي العربي وعناصره الستة، وأن تعبير "القومي العربي" في تسمية المؤتمر لا يقصد به أن تقتصر عضويته على التيار القومي بالمعنى التقليدي فقط، بل يعني أن تتفتح وتتسع عضويته للتيارات الوطنية الأخرى، اليسارية والاسلامية والليبرالية وغيرها التي تؤمن بأهدافه، وان تعبير القومي هنا يشمل الامة العربية وليس تياراً واحداً فيها".
وفي ضوء هذا التعريف ضم المؤتمر في هيئته العامة، كما في امانته العامة، شخصيات متحدّرة من خلفيات ايديولوجية متعددة، لكنها ملتزمة بالمشروع النهضوي العربي الذي شارك كذلك في صياغته مفكرون من كل هذه التيارات.
ولقد كشفت تجربة الحياة السياسية العربية، كما تجربة المؤتمر ذاته، ان التباينات في المواقف السياسية من هذه القضية أو تلك لم تقم على قاعدة التباين الايديولوجي والفكري بل على اساس التباين في الرؤى السياسية، وقد كنا نرى شخصيات وقوى تنتمي الى مشارب فكرية متعددة تأخذ الموقف ذاته، فيما تأخذ شخصيات وقوى موقفاً مغايراً، بغض النظر عن خلفياتها الايديولوجية والفكرية، والأمثلة على ذلك كثيرة وحاضرة في كل الساحات. لا بل انه حيث كان يجري العمل بهذا التعريف الواسع للتيار القومي العربي والقائم على اساس المشروع لا الشعار، والبرنامج لا الايدلوجيات، كنا نحقق نجاحات باهرة، ونحاصر كل نزعات التناحر والانقسام، فيما حين كنا نلتزم المفهوم الحصري، او حتى السلالي، كان التناحر والانقسام والفشل يلاحقنا.
إن هذا التعريف لا يلغي بالتأكيد امكانية وجود مدارس متعددة في اطار التيار القومي العربي، وتحاول كل منها أن تبلور فهمها الخاص لسياسات أو رؤى أو آليات ولكن تحت سقف المشروع الواحد والموحد لكل الملتزمين به.
السؤال الثاني: هل هناك حاجة موضوعية في الأمة إلى التيار القومي العربي.؟
للإجابة على هذا السؤال لا بد من الإشارة إلى أن التردي المؤلم الذي يعيشه الوطن العربي، من تجزئة وانقسام، من احتلال وتدخلات خارجية، من فتن وحروب طائفية ومذهبية وعرقية، ومن قهر واستبداد، من تخلّف وتعثر اقتصادي واجتماعي، من ظلم وفساد، من افتعال لتناقضات بين العروبة والإسلام، بين الأصالة والمعاصرة، لا يمكن مجابهتها إلا من خلال عناصر المشروع النهضوي العربي الست: الوحدة العربية، الاستقلال الوطني والقومي، الديمقراطية وحقوق الانسان، التنمية المستقلّة، العدالة الاجتماعية، والتجدد الحضاري، التي تشكل بمجملها الاطار الفكري والسياسي للتيار القومي العربي، كما تمثل امتداداً لأفكار ورؤى حملتها، بدرجة وأخرى، تيارات الامة الرئيسية على امتداد عقود، وشكلت، على ما فيها من تفاوت، ركائز الفكر النهضوي العربي منذ القرن التاسع عشر.
وإذا توقفنا أمام ما تواجهه الأمة من مخططات ومشاريع استعمارية صهيونية، وفي مقدمتها مشروع الشرق الأوسط الكبير ذي المنشأ الصهيوني – الاستعماري، لاكتشفنا أن الهدف الرئيسي لهذا المشروع هو الحيلولة دون وحدة الأمة، بل السعي لتفتيت كياناتها الوطنية، وتدمير هويتنا الحضارية وتشويه تراثنا الروحي، وإثارة كل أشكال الحروب والصراعات القائمة على عصبيات عرقية أو دينية أو مذهبية أو جهوية، وكلّها أمور لا تتحقق الا بضرب المشروع الذي يحمل الهوية العربية والإسلامية، وهي الهوية الجامعة التي تحترم خصوصيات المكونات المختلفة القائمة، وتحقق التكامل بينها، وتصون التنوعّ في وطن موحد مستقل يرتكز على الحرية والعدالة والكفاية، وما هذا المشروع سوى المشروع القومي العربي الذي تكاد تتلخص كل الحروب المتواصلة على الأمة بالحرب عليه، وعلى كل من حمله سابقاً أو يحمله حالياً في المنطقة.
ولعلها من المفارقات التاريخية الأبرز أنه ما من أمة أو منطقة أو قارة تجتمع لها كل عناصر التكامل والوحدة كما هو حال أمتنا العربية، ولكن ما من أمة أو منطقة أو قارة واجهت موانع وحواجز وحروباً للحيلولة دون وحدتها كما هو حال أمتنا ايضاً.
وإذا كانت لغة العصر في كل أرجاء المعمورة هي لغة التكامل والاندماج الإقليمي والمنظومات المشتركة وصولاً إلى الاتحادات القارية، فإن أمتنا العربية ما زالت ممنوعة من الولوج إلى قانون العصر وهو قانون الوحدة والتكامل.
ومع متابعتنا للتطورات الدولية والإقليمية وما تشهده من إعادة صياغة موازين القوى الدولية لصالح نظام دولي تعددي وأكثر توازناً، وهي تطورات شبيهة بما شهدناه في اواسط الخمسينات من القرن الماضي مع سقوط الامبراطوريتين الاستعماريتين القديمتين بريطانيا وفرنسا، وبروز نظام الثنائية القطبية، فان من حقنا ان نتفاءل بإمكانية انطلاق التيار القومي العربي من جديد على غرار ما رأيناه في مرحلة ما بعد العدوان الثلاثي على مصر.
وإذا أضفنا إلى هذه العوامل كلها ما تشهده التيارات الإقليمية والقطرية والطائفية والمذهبية من مأزق يتجلى عن عجزها عن الاستجابة للحاجات الحقيقية لمجتمعاتها بدءاً من المخاطر المهددة للوحدة الوطنية، وصولاً إلى المخاطر المحيقة بالأمن القومي للعديد من أقطار الأمة، مروراً بالعجز عن تحقيق تنمية مستقلة متكاملة مع عدالة اجتماعية، كما بالعجز عن مواجهة المشكلات المتصلة بالهوية الثقافية والحضارية للأمة، نكتشف حاجة الأمة إلى تيار قومي عربي جامع لا تقتصر عضويته على التيار القومي بالمعنى التقليدي فقط، بل تتفتح وتتسع للتيارات الوطنية الأخرى اليسارية والإسلامية والليبرالية وغيرها التي تؤمن بأهداف مشروعنا النهضوي، وإن تعبير القومي هنا يشمل الامة العربية وليس تياراً واحداً فيها، يشملها بكل مكوناتها ولا يحضر نفسه بمكوّن واحد.
لقد بات الخطاب القومي العربي باعتباره خطاباً جامعاً هو الحاجة – الاطار الذي تستطيع من خلاله مجتمعاتنا ان تتجاوز خطباً تركز على الهويات الفرعية أو النزعات التقسيمية، وهو أمر بات يشكل خطراً على وحدة الكيانات الوطنية ذاتها، ناهيك عن وحدة الأمة كلّها.
والخطاب القومي العربي بتركيزه على تكامل العروبة والإسلام وعلى أهمية التجدد الحضاري في الأمة يشكل تعبيراً راهناً عن الحضارة العربية الإسلامية الجامعة للعرب المسلمين وغير المسلمين، وللمسلمين العرب وغير العرب من المقيمين في بلادنا العربية.
وهذا الخطاب بإبرازه الديمقراطية كهدف رئيسي من أهداف الأمة إنما يقدم حلاً لمشكلة المواطنة وحقوق الإنسان حيث لا تمييز أو أمتياز بين المواطنين على أساس الدين أو العرق أو اللون أو الجنس.
والخطاب القومي العربي بإيلائه القضية الاقتصادية الاجتماعية اهتماماً خاصاً عبر بناء مجتمع الكفاية والعدل إنما يواجه بصمت مفروضاً على شرائح ضخمة من شرائح المجتمع التي تهم تهميشها.
والأمر ذاته يرتبط بمكانة الاستقلال الوطني والقومي في هذا الخطاب فهو الأقدر على صون سيادة الأمة بدون مساومات، واستقلالها دون شروط، وعلى احتضان المقاومة كطريق لمواجهة الاحتلال كما لتوحيد الشعب في هذه المواجهة.
السؤال الثالث: ما هي أسباب انحسار التيار القومي العربي؟
أما السؤال الثالث الذي ينبغي الوقوف عنده فهو ما هي أسباب انحسار التيار القومي العربي، خطاباً ومفردات وقوى وآليات، بعد ان بدا لفترة من الزمن أنه التيار الأقوى والأبرز والأكثر تأثيراً وتألقاً.
لا شك أن الإجابة على هذا السؤال تتطلب في البداية حلقات نقاش متعددة الموضوعات لتدرس بكل شفافية وجرأة وروح نقدية متعددة مختلف جوانب أزمة هذا التيار سواء على مستوى الخطاب القومي العربي نفسه، أو القوى المعبرة عنه، كما في آليات التعبير عنه، مع التوقف دائماً أمام ثلاث ملاحظات:
1 - إن مراجعة التجارب لا تعني أبداً نكء الجراح، وتصفية حسابات شخصية أو حزبية أو فئوية، بل هي تتطلب قدرة على القراءة الموضوعية لهذه التجارب عبر نقد دون تجريح، وتحديد مكامن الخلل دون تشهير، كما تتطلب أن ينطلق كل منا من مراجعة ذاته قبل أن يتجه إلى نقد الآخرين.
2 - إن تراجع أي تيار في فترة معنية لا يعني انكفاءه إلى الأبد، وهو أمر لا تصعب ملاحظته حين نقارب واقع تيارات عدة في منطقتنا والعالم عاشت دورات صعود وجمود وهبوط ثم استنهاض مرة أخرى.
3 - إن الحديث عن انحسار في التيار القومي العربي لا يجوز أبداً أن يغفل الأنظار أبداً من جملة نقاط مضيئة في مسيرة هذا التيار في العقود الاخيرة، أبرزها نجاحه في بناء أبرز الصروح الفكرية والبحثية العربية المعاصرة (مركز دراسات الوحدة العربية)، كما في اطلاق جملة مبادرات للتحاور والتشاور بين أبرز تيارات الأمة ومنابتها الفكرية الملتزمة بالمشروع النهضوي العربي، مسقطاً بذلك سنوات من التناحر والجفاء بينها، وما تجربة المؤتمرات الثلاث وصمودها، رغم كل ما أحاط ويحيط بها من أعاصير وزلازال إلا مظهراً من مظاهر نجاح مبادرات انطلقت من رحم التيار القومي العربي.
من النقاط المضيئة في هذه التجربة إطلاق هذا التيار تجربة مخيمات الشباب القومي العربي التي خرج منها آلاف الشباب من مختلف أقطار الأمة، وهي تجربة كشفت أسبقية اهتمام التيار القومي بالشباب من منابت فكرية وعقائدية متعددة، كما وفرّت للميادين والساحات الثورية العربية قيادات شابة نجحت في اطلاق تحولات أدّت وتؤدي نحو استعادة جماهير الأمة لزمام أمرها في العديد من أقطار الأمة، رغم كل محاولات التفاف للقوى المضادة للثورة والأمة على هذه الميادين والساحات والتحولات الثورية.
من النقاط المضيئة أيضاً دور التيار القومي المستقل في احتضان المقاومة العربية في مواجهة كل الحملات التي حاولت محاصرتها وإسقاطها، رافضاً إلصاق تهم طائفية أو مذهبية بهذه المقاومة أو تلك، ورافضاً ازدواجية المعايير في التعامل مع هذه المقاومة، ولعل دفاع هذا التيار عن المقاومة في العراق، بعد أن لعبت قواه ورموزه دوراً قيادياً في حركة كسر الحصار على العراق، ثم في الدفاع عن مقاومة شعبه بعد الاحتلال، هو الذي دفع المحتلين وعملائهم إلى شن أوسع حملات التشهير والتشويه بحق هذا التيار ورموزه وصولاً إلى وضع بعضهم في لوائح المطلوبين من الاحتلال الأمريكي.
ولم يكن الأمر مختلفاً مع المقاومة اللبنانية التي رفض التيار القومي العربي وشرفاء الأمة واحرار العالم كل المحاولات للانتقاص من دورها وتجريدها من سلاحها وتشويه صورتها، وهو أمر توجته دعوة أمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله جماهير الأمة إلى التجاوب مع نداء المؤتمرات الثلاث خلال العدوان على غزة في مطلع عام 2009.
أما المقاومة الفلسطينية وقضيتها المركزية فكانتا في حضور بارز ومتقدم في كل أدبيات هذا التيار القومي أو في ندواته ومنتدياته ومبادراته، أو عبر مواقفه الرافضة لأي تفريط في ثوابت القضية الفلسطينية ولأي اتفاقية تنطوي على تنازلات تمس الحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني.
وفي هذا الاطار لا يستطيع أي تقييم موضوعي أن ينكر دوراً ريادياً لهذا التيار القومي العربي في إطلاق مبادرات تؤكد عالمية القضية الفلسطينية، وتحشد الآلاف من أحرار العالم في منتديات التضامن مع عناوين هذه القضية كالقدس، وحق العودة، والجولان، ودعم المقاومة، ونصرة الاسرى، ومقاومة التطبيع، ومناهضة التمييز العنصري، الأمر الذي جعل العدو الصهيوني يحذّر من مخاطر هذه الحركة العالمية لتجريد كيانه من الشرعية الدولية، كما يخطط عبر مراكز ابحاثه وأجهزة استخباراته لسبل مواجهتها.
وهنا لا يمكن أن نغفل دور رموز في هذا التيار في إطلاق مبادرات عملية ، برية وبحرية وجوية، لكسر الحصار على قطاع غزة حيث تصدى اعضاء في مؤتمرنا القومي، بل وفي أمانته العامة، بكل بسالة للعدوان الصهيوني، كما حصل في (أسطول الحرية) وسفينة مرمرة في مثل هذه الأيام قبل عامين وقبلها في سفينة الأخوة اللبنانية.
ومن الموضوعية والإنصاف أن نتذكّر دور التيار القومي في إطلاق العديد من الجمعيات والمنظمات القومية المتخصصة، وفي الطليعة منها "المنظمة العربية لحقوق الإنسان" في أواسط الثمانينات من القرن الماضي، "والمنظمة العربية لمكافحة الفساد" في مطلع القرن الحادي والعشرين، وهما منظمتان تؤكدان ارتباط التيار القومي بهذين الهدفين الرئيسيين (حقوق الإنسان ومكافحة الفساد) اللذين كانا من أهم عناوين الحراك الشعبي الثوري العربي.
وآخر النقاط المضيئة بدون شك هو نتائج الانتخابات النيابية ثم الرئاسية المصرية التي أبرزت مكانة مميّزة لهذا التيار ورموزه في مصر (ومنهم أعضاء بارزون في هذا المؤتمر بالذات كما في مؤتمرات شقيقة) فقد نجح هؤلاء في أن يجسّدوا بسلوكهم وبرامجهم روح الثورة وتلازم أهداف النهضة دون التفريط بأحدها لصالح الآخر.
إن هذه الملاحظات لا تنفي بالتأكيد وجود عوامل انحسار للتيار القومي بنغي تحديدها بكل جرأة دون إحباط، وبشفافية بدون يأس.
أول هذه العوامل هو تعثر معظم الأنظمة والتنظيمات المنتسبة إلى التيار القومي العربي وإخفاقها في النجاح عبر تجربتها العملية بنقل الصورة الحقيقية والمشرقة لأفكار هذا التيار ومبادئه وأهدافه.
إن الإقرار بهذا الإخفاق أو التعثر لا يعني أبداً عدم وجود جوانب إيجابية في هذه التجارب، ولكن المشكلة معها أنها حين كانت تتقدم نحو هدف من أهداف مشروعنا القومي، فإن ذلك كان يتم على حساب أهداف أخرى لا تقل أهمية، وهو ما نبّه إليه المشروع النهضوي العربي حين رفض بشدة فكرة المقايضة بين أهدافه، والتنازل عن هدف لصالح هدف آخر.
والخطأ الأكبر الذي وقعنا به كتنظيمات وأنظمة، وحتى كشخصيات ورموز، أننا لم نحقّق النظرة المتوازنة في مواجهة الخارجي من الأخطار والمخططات مع معالجة الداخلي من الأزمات والمشكلات، فبحجة مقاومة الأجندات الاستعمارية وقع بعضنا في ممارسات استبدادية، وبحجة مقاومة الاستبداد وقع بعضنا الآخر في خطيئة استدعاء الأجنبي، جيوشاً أو تدخلات متعددة الاشكال والوسائل.
إن استعادة التيار القومي العربي بكل قواه ورموزه لأولوية التصدي لثلاثية الفساد والاستبداد والتبعية وإدراكه العميق للترابط بين أطراف هذا المثلث، هو خطوة هامة على طريقة ملاقاة جماهير أمتنا التي خرجت من قمقم يصعب أن تعود إليه.
ثاني هذه العوامل هو ظاهرة التناحر والتشرذم والذاتيات المتضخمة والعصبيات المتنافرة التي سادت العلاقة بين قوى هذا التيار وأحزابه ورموزه وحتى شخصياته إلى حدًّ كبير.. وهي ظاهرة لم تضعف من قدرة هذه القوى على تحقيق أهدافها، بل جعلتها تفقد الحد الأدنى من مصداقيتها أمام جماهيرها التي تسألها وهي تراها في غمرة الشقاق والشجار والاتهامات المتبادلة: إذا كنتم عاجزين عن توحيد أنفسكم فكيف ستنجحون في توحيد أمّتكم.
إن الأمثلة على هذه الظاهرة ماثلة للعيان أمامكم جميعاً في أقطاركم، وأحزابكم، ومنظماتكم، وحتى علاقاتكم الشخصية، والأضرار التي دفعتها الأمة ثمن هذا الشقاق جسيمة للغاية وهي تفسر إلى حد كبير حال الهوان والضعف الذي تعيشه الأمة.
ثالث هذه العوامل هو تعثر التيار القومي العربي حتى الآن في أن يقيم معادلة التكامل بين الرؤية والقدرة، فحيث الرؤية متوفرة بنسبة عالية نجدها مجردة من القدرة على ترجمة مبادراتها، وحيث القدرة متوفرة إلى حدّ التخمة نرى الرؤية غائبة والرتابة حاضرة، وحيث تتعشش في البيروقراطية المرتبطة بالرتابة فساد يفتك بواقعنا الشعبي والأهلي إلى حدّ كبير جنباً إلى جنب مع الفساد الرسمي العروف.
إن لهذا العجز عن تحقيق التلازم بين الرؤية والقدرة أسبابه الموضوعية المتمثلة بحرص أصحاب الرؤية من رموز هذا التيار وقواه النوعية على استقلالية قرارهم عن الواقع الرسمي أو عن مواقع الضخ المالي التي يضعف أمام إغراءاتها رموز وقوى بارزة في تيارنا القومي، فيما نجد أن الإمكانات المتوفرة لهذا الواقع أو تلك المواقع لا يحرم أصحابها قوى الرؤية فحسب، بل يتم استخدامها لمحاصرة القوى المستقلة والسعي إلى الأطباق على دورها ومعاقبتها على استقلاليتها وعلى رفضها التحول إلى ادوات تابعة، حتى ولو كانت هذه القوى متقاربة في بعض اهدافها مع القوى المتمكّنة. وفي هذا المجال هناك الكثير من الشواهد. ولكن هذا المكان ليس المكان الأفضل لمعالجتها.
رابع هذه العوامل هو انصراف قوى التيار القومي العربي عن الاهتمام بشرائح واسعة من المجتمع بدءاً من المرأة التي تشكل نصف الأمة، وبالتالي عدم الإدراك الفاعل بأن تعطيل طاقات المرأة هو تجزئة لطاقات الأمة لا يقل خطورة عن تجزئة سايكس – بيكو نفسها.
كذلك كان انصراف العديد من هذه القوى عن المساجد وبيوت العبادة التي يحتشد فيها معظم أبناء الأمة، والتي يمكن أن تكون ساحات تفاعل وتلاقح أفكار وتعبئة نضالية، تماماً كما يمكن لموسم الحج أن يكون مؤتمراً سنوياً يضم ملايين المسلمين من كل أنحاء العالم، كما لاحظ القائد الخالد جمال عبد الناصر قبل ما يقارب الستين عاماً.
وفي هذا الإطار أيضاً ينبغي أن نسجل تقصيراً فادحا، لاسيّما في السنوات الأخيرة، في اهتمام العديد من القوى القومية العربية بالشرائح الاجتماعية الاكثر فقراً من فلاحين وعمال وصغار الموظفين والكسبة والحزبيين، والمهمشين اقتصادياً واجتماعياً، بالإضافة إلى الطبقة الوسطى نفسها التي بدأ التغّول الاحتكاري والربوي يدفعها إلى مجاورة خط الفقر أيضا.
واللافت في هذه المستويات الثلاث، أنها جميعاً موضوع اهتمام خاص في أدبيات التيار القومي العربي القديم والمعاصر ولكن قلّة من قوى هذا التيار سعت إلى ترجمة هذا الأمر بشكل عملي سواء عبر نضال سياسي وعقائدي ونقابي واجتماعي، أو عبر آليات ومؤسسات تضمن التواصل مع هذه الشرائح والتكافل الاجتماعي والتضامن الإنساني بين الناس، وهو ما أدى الى وقوع العديد من هذه القوى والشخصيات أسر "نخبوية" متعالية عن هموم الناس، هي بدون شك مسألة ضرورية لإطلاق الأفكار والمبادرات، لكنها ليست كافية لترجمة أفكارها ومبادراتها إلى آليات عملية فاعلة في حياة الأمة.
في الإطار الاجتماعي ينبغي أن نسجل ظاهرة بالغة الخطورة هو عدم الاهتمام بتوفير ضمانات لائقة تؤمن حياة كريمة لقدامى المناضلين ممن يداهمهم العمر وهم في غمرة العطاء وإذ بهم يجدون أنفسهم في قلب حالة من الإهمال أو الإنكار لما قدموه وما يحتاجونه.
خامس هذه العوامل يكمن في وجود فجوة واسعة بين أطر العمل القومي العربي على اختلافها الشباب، ما عدا حالات نادرة، رغم أن كل تجارب الأمة في المقاومة كما في حركات التغيير تثبت الدور الهام والكبير الذي لعبه الشباب ويلعبونه في المراحل المتعددة، كما تثبت قدرتهم على ابتداع الآليات والوسائل التي تمكّنهم من أداء هذا الدور.
وعلى الرغم من أن التيار القومي العربي قد أدرك منذ عقدين ونيّف أهمية الشباب في مشروع النهوض وأطلق مبادرات وآليات ناجحة في هذا الاتجاه، لاسيّما مخيمات الشباب القومي العربي ومثيلاتها، وعلى الرغم من أن معظم الحركات القومية قد انطلقت من بين الطلاب والشباب، إلا أن مسافة كبيرة ما زالت قائمة بين الأجيال في هذا التيار تعمّق منها نظرة حذرة من الكهول والشيوخ إلى الشباب، ونظرة لا تقل حذراً واحباطاً يحملها الشباب نحو من سبقهم من الأجيال وهي مسافة تسللّت عبرها جهات متعددة بنوايا ومشاريع مثيرة للريبة، من أجل استغلال حماسة الشباب وحيويتهم لوضعها في سكك اخرى.
وهنا علينا أن نقرّ بأن نظرة ما يمكن تسميته بالشيوخ إلى الشباب تحكمها ثغرتان أولها روح عالية من الإملاء والوصاية على حركة الشباب، بدعاوى الحرص والاستفادة من الخبرات، ثانيها بالمقابل تملّق شكلي للشباب دون التنبه الى نوعية هؤلاء الشباب ومدى نضجها والتزامها والأخلاقيات التي تحكم أداءها. فالشباب ليس مجرد سنوات عمرية فقط، بل هو تلك الحيوية المتدفقة، والاستعداد العالي للعطاء والبذل، والانفتاح الحر على كل فكر وتجربة، ما يتطلب مساعدة الشباب على إيجاد آلياتهم الخاصة بتحركهم، والسبل الخاصة بهم وتراكم خبراتهم وتنقية صفوفهم. وهو أمر ليس متوفراً حتى الآن.
سادس هذه العوامل هو انصراف التيار القومي العربي بشكل عام في العقود الأخيرة عن المسألة التربوية وعدم الاهتمام بالطفولة والفتوة عبر توفير المناهج والوسائل الكفيلة بتنمية وعيهم القومي ومعرفتهم بأحوال وطنهم وأمتهم.
وفي هذا المجال يبرز النقص الكبير في آليات العمل للدفاع عن اللغة العربية وتطويرها وتقديمها بشكل جذّاب للأجيال الجديدة، رغم |أن الإنصاف يقضي الإقرار بوجود أكثر من مبادرة في أكثر من قطر، لكنها ما زالت محاصرة وضعيفه الأثر.
وفي هذا المجال لا بد من الإشارة إلى نقص كبير في تنمية قيم تنموية ونهضوية في مجتمعاتنا كإبراز قيم الإنتاج على حساب الريع، والجهد على حساب الإفراط في الاستهلاك، والتكامل في مواجهة الإقصاء، والتواصل في مواجهة القطيعة، والتراكم في مواجهة التنكر لجهود وخبرات سابقة.
سابع هذه العوامل هو تراجع دور الأبحاث والدراسات في تجديد فكرنا النهضوي وتطويره وتعميقه، والاكتفاء بشكل عام بترداد شعارات عامة على حساب المضامين العلمية، واجترار مقولات أيديولوجية قديمة على حساب التجديد المستمر في ضوء الحقائق التي يفرزها الواقع.
وإذا كان الإنصاف يقتضي الإقرار بدور رائد لمركز دراسات الوحدة العربية، وبعض المبادرات الجادة سواء على مستوى مؤسسات أو أفراد، في لفت الانتباه إلى أهمية البحث العلمي والدراسة الميدانية في الواقع العربي، فان الموضوعية تقتضي أيضاً أن هذا الجهد، على أهميته، لا يستطيع وحده، دون دعم ومراجعة وتطوير، أن يسد الثغرات الكامنة في هذا المجال.
ومن الثغرات الكبرى في جبهتنا الثقافية العربية عموماً، وجبهتنا الثقافية القومية خصوصاً، هو أن العديد من مثقفينا ما زال أسير المرجعيات الفكرية الغربية، بمصطلحاتها ونمط عملها ومناهج تفكيرها، متجاهلاً الإرث الفكري والثقافي والعلمي الضخم الكامن في مخزون أمّتنا الحضاري، والذي شكل في قرون سابقة مرجعيات رئيسية للثقافة والفكر والعلوم في الغرب، وهذا يؤكده دائماً بعض أبرز مثقفي هذا التيار دون أن يجد الاهتمام المطلوب.
إن الاستعانة بهذه المرحعية الفكرية العربية من شأنه أن يحقق أمرين رئيسين، أولهما تحرير ثقافتنا من الاستتباع ووضعها على طريق اكتشاف الخصوصيات المحركة لقوانين تطورنا ذاته، وثانيهما تحصين هذه الثقافة من خطرين، اولهما الاستلاب الثقافي الأجنبي من جهة، وثانيهما التحجر في نظرتنا إلى تراثنا الروحي والحضاري الذي قام أساساً على الدعوة إلى التجدد الدائم ورفض كل أشكال الصنمية، بما فيها الهيمنة العقائدية والفكرية.
ثامن هذه العوامل هو النقص في تجديد وسائل وآليات العمل والتواصل بين أبناء الأمة وطلائعها المناضلة، خصوصاً مع التطور المذهل والمتسارع في وسائل الإعلام الجديد ووسائل التواصل العصري.
فلقد وفرّ هذا التطور قدرة على التواصل والاتصال على مستوى الأمة لم تنجح قوى التيار القومي العربي في الاستفادة منها بالقدر الذي استفاد منها أعداء الأمة في إحكام سيطرتهم على عقولنا وأفكارنا ومحاولة جذب شبابنا إلى أجندات مختلفة عن أولويات النهوض والتحرر في الأمة.
وقد اتّضحت أهمية الاستفادة من هذا التطور الهائل في وسائل الاتصال والتواصل في ما رأيناه في حركة الميادين والساحات الثورية التي كان يملؤها الشباب بأوقات قياسية بسبب هذه الوسائل، وهو ما كانت الأحزاب الثورية تحتاج إلى أسابيع وأشهر إلى تحقيقه.
إن التركيز على أهمية الاستفادة من هذا التطور يحتاج في الوقت ذاته إلى دراسة معمّقة لمجمل المخاطر والسلبيات التي قد ينجم عنها الاعتماد الوحيد الجانب عليها، لأنه قد يؤدي إلى دفع شبابنا إلى العيش في عالم افتراضي يبعدهم عن العالم الحقيقي الذي يعيشون فيه، كما يدفعهم إلى اعتماد هذا العالم ووسائله كبديل عن التواصل الحي مع حركة المجتمع والتفاعل مع همومها الحقيقية، ناهيك عن سهولة تشويه هذا العالم الافتراضي الجميل بجملة من الأكاذيب والافتراءات والمعلومات التي كثيراً ما تربك وعي الشباب وتشل إرادة الأمة.
تاسع هذه العوامل هو ما يسميه المتحاملون على التيار القومي العربي "بالخطاب الخشبي" الذي تقع فيه بعض أحزاب وقوى ورموز هذا التيار.
لا شك أن المستهدف من التحامل هنا ليس الجمود وإنما المبادئ التي يحملها الخطاب القومي وتمسكه بثوابت الأمة، وذلك كي نبقى دون أهداف واضحة، وتطلعات سليمة، وبوصلة تحدد لنا المسار.
لكن هذا الاستهداف لا يعفينا من ضرورة المراجعة المستمرة لخطابنا السياسي في ضوء ما تفرزه متغيرات من حولنا، ووقائع يحملها إلينا العصر، وتحولات تحملها لنا الأيام.
التطوير المطلوب هنا هو في الشكل وليس في المضمون، في الأداء وليس في الجوهر، فلا نكتفي بترداد شعارات قديمة بل نسعى إلى تحميلها معلومات وأرقام وحجج متجددة فلا نبدو أمام الناس متخلفين عن روح العصر فيما نحن نحمل أفكاراً متقدمة وتعبر عن روح عصرية حقيقية، ولا نبدو متحجرين في وقت يشكل مشروعنا القومي دعوة دائمة إلى التجدد، ولا نكتفي بمخاطبة من هو مقتنع بوجهة نظرنا بل نتوجه إلى آخرين مضللّين فنسعى إلى إقناعهم لا إلى تصنيفهم كأعداء.
إن نقطة البداية في سلامة أي خطاب سياسي وصحته وفاعليته تكمن في قدرته على كسب أكبر عدد من المؤيدين لأصحابه، بل في أن يترجم أحد أبرز قوانين حركات التحرر الذي يقول : علينا ما أمكن أن نحيّد الخصم ونكسب المحايد إلى صفّنا، ونشد أزر الحليف أو الصديق، ولا شك أنّكم قد لاحظتم على مدى العقود الماضية كيف أن بعض خطابنا القومي كان يقوم على مقولة معاكسة: خسارة الحليف، تحويل المحايد إلى عدو، وتزويد الخصوم بقوة إضافية.
عاشر هذه العوامل هو النقص الفادح في اعتماد المراجعة الدائمة لأدائنا الفكري والسياسي والنضالي بحيث نتخلص من السلبيات باكراً، ونعزز الايجابيات باكراً ايضاً. ولولا بعض المحاولات القليلة، والتي كان أبرزها ما جرى في ندوة الحوار القومي/الديني التي نظّمها مركز دراسات الوحدة العربية في القاهرة في أواخر أيلول/ سبتمبر 1989، حيث أجرى ممثلو التيارين القومي والاسلامي نقداً ذاتياً لتجاربهما ولأخطائهما بحق بعضهما البعض، لم نسمع إلا نادراً بأحزاب ومؤسسات وشخصيات تقوم بمراجعة نقدية لتجريتها والاستفادة من الإيجابيات والسلبيات فيها والاعتذار الحضاري عن أخطاء ارتكبتها أو خطايا وقعت بها.
والحديث عن المراجعة هنا لا يعني أبداً ذلك النقد الذي يأخذ طابع التجريح والذي يقوم به عادة خصوم أو أعداء لهذه الجهة أو تلك، كما لا يعني ذلك النقد الحافل بالتهشيم الذي يمارسه بعض من كان عضواً في حزب أو مؤسسة ثم خرج منها حاقداً عليها. كما أن الحديث عن المراجعة هنا لا يعني أبداً إفساح المجال لأعداء التيار الاستفادة من المراجعة للانقضاض على التيار برمته وتدميره بشكل كامل، فالمراجعة هنا هي شرط أصحابها على أنفسهم قبل أن تكون شرط أحد عليهم.
إن الأمة بحاجة إلى خطاب قومي يوحد ولا يفرّق، يصون ولا يبدد، يشد أزر الصديق ويرد كيد العدو، تماماً كما جاء يوماً في إعلان قيام الجمهورية العربية المتحدة في 21 شباط/فبراير 1958.
كما أن الأمة بحاجة إلى خطاب يعالج مشكلاتها برؤية يغلب فيها التوازن على الأحادية، والمصلحة الوطنية والقومية على المصلحة الفئوية والذاتية، وروح الانفتاح على الآخر على روح الانغلاق، خطاب يلتزم المقولة التاريخية لأحد أبرز علمائنا: رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأيك خطأ يحتمل الصواب، فنؤسس بالفعل لخطاب تتلازم فيه وحدة الامة مع احترام تعددية الآراء فيها.
سبل الاستنهاض
(الطريق إلى الجماهير)
في ضوء هذه الأسباب على تنوعها، والتعقيدات المحيطة بها على تعددها، لا بدّ من التأكيد على أن مشروع استنهاض التيار القومي العربي هو مشروع متكامل ومركّب ومتحرك على عدّة مستويات في آن، وكل تلكؤ عن إنجاز المهام المطلوبة في أحد هذه المستويات، أو أحدى الدوائر التي يتحرك بها، سوف ينعكس سلباً على مجمل المشروع.
الدائرة الأولى هي الدائرة الفكرية التي تنطلق بداية من الارتباط الوثيق بين مشروع استنهاض التيار القومي العربي والمشروع النهضوي العربي، إذ أن مشروع الاستنهاض يكاد يكون التجسيد العملي والعملياتي للمشروع النهضوي، بل إنه الترجمة التفصيلية لعناوين مشروع النهضة وأهدافه، وبالتالي فإن جهداً فكرياً حقيقياً يجب أن ينكب عليه لتحقيقه.
وفي هذه الدائرة ينبغي التركيز على بلورة منظومة معرفية عربية تتفاعل مع منظومات معرفية أخرى، لكنها ترتكز على تراث الأمة المعرفي وهو غني، كما على أمم أخرى في العالم لاسيّما أمم آسيوية وأمريكية لاتينية وإفريقية، إن هذه البلورة لا تتم إلا عبر جهد تراكمي منظم تشارك فيه مراكز البحث والدراسات ومثقفون مؤهلون للانخراط في ورش عمل حول هذا الأمر.
كما ينبغي في هذا الإطار التركيز على تعزيز البحث العلمي بكل فروعه، والسعي لتشجيع دراسات ميدانية تمكّننا من فهم طبيعة المشكلات والتطلعات لدى أبناء الأمة.
الدائرة الثانية: هي الدائرة الثقافية التي ينبغي التحرك في إطارها لتحصين العمل السياسي والقومي بقدر من الثقافة والوعي تحول دون محاصرته بالجهل أو التسطيح أو التضليل.
في هذا الإطار ينبغي توسيع نطاق المنتديات وأندية الشباب، والبرامج الثقافية في القنوات التلفزيونية والصفحات الثقافية في الصحف، وإقامة دورات تثقيفية للشباب وكوادر الأحزاب وجمعيات المجتمع المدني، وإطلاق حملات مكافحة الأمية.
كما ينبغي كذلك الاهتمام بالإبداع الثقافي من فنون على أنواعها، والمسرح، والسينما وغيرها باعتبارها الأقدر على إيصال الفكرة أو الموقف لأوسع الجماهير، وفي هذا الإطار يمكن وضع عدّة آليات لتحقيق هذا الأمر.
ولا يجب هنا أن نهمل دور المساجد وبيوت العبادة، والعلماء الأحبار، في تعميم الوعي والثقافة إلى حدّ كبير، خصوصاً إذا جرى التفاعل والتواصل معهم على قاعدة التكامل بين العروبة والإسلام خصوصاً، والإيمان عموماً.
الدائرة الثالثة: وهي الدائرة السياسية التي تلخص مجمل المواقف والعلاقات الواجب اعتمادها في سبيل استنهاض التيار القومي العربي.
وإذا كانت أهداف المشروع النهضوي وتلازمها مع بعضها البعض، فإن المواقف والعلاقات ينبغي أن تكون منسجمة مع هذه الأهداف وساعية إلى تحقيقها.
في هذا الإطار تبرز مجموعة سمات ينبغي أن تتسم بها المواقف والعلاقات السياسية.
أول هذه السمات هو الاستقلالية عن الواقع الرسمي والأنظمة الحاكمة، وتعريف الاستقلالية هنا أنها فضيلة بين رذيلتين: الانقياد الأعمى أو العداء المحموم العاجز عن التقييم الموضوعي.
وثاني هذه السمات هو الشجاعة في الموقف، أياً كانت التضحيات طبعاً، والشجاعة هنا أيضاً فضيلة بين رذيلتين: تهور دون تبصّر من جهة، وجبانة ذليلة من جهة أخرى.
أما ثالث هذه السمات فهو "الوحدوية"، أي أن يصبّ الموقف في توحيد التيار أو المجتمع أو الأمة، وأن يتحرّر من الحسابات الصغيرة والمريضة التي تجر صاحبها إلى الانفعال فارتكاب الخطأ أو الخطيئة.
السمة الرابعة لهذه المواقف والعلاقات أن تكون نابعة من ترتيب سليم للأولويات، فيجري التركيز على القضية المركزية كبوصلة للاتجاه السليم، فيما يتم اكتشاف عناصر الترابط بين قضايا أخرى بالغة الأهمية وبين القضية المركزية، بحيث لا تُغيّب القضية المركزية قضايا هامة أخرى وثيقة الصلة بها، ولا تلهنا القضايا الهامة الأخرى عن القضية المركزية.
وإذا كانت قضية تحرير فلسطين وكل أرجاء الأمة من احتلال الأرض واحتلال الإرادة، هي القضية المركزية التي تتوحد عبرها الأمة، وتحقق استقلالها الوطني، وتصون أمنها القومي، وتحرر مواطنها من الاستبداد والفساد والظلم الاجتماعي، وتجدد التواصل بتراث الأمة الحضاري، فإن الطريق الأسلم والأقصر إلى التحرير هو المقاومة، سلاحاً وثقافة ونهجاً.
إن ارتباط التيار القومي العربي بالمقاومة، وانخراط قواه فيها، هو أسرع الطرق دون شك ليتحول إلى تيار جماهيري على امتداد الأمة، وليست هذه الورقة هي المجال الأنسب للدخول في تفاصيل هذه الفكرة.
أما تبنّي التيار القومي العربي برنامج للعمل الوحدوي العربي يرتكز على خطوات تدريجية كالاتحادات الإقليمية، والوحدة الاقتصادية، وسكة حديد واحدة، وتطبيق قرارات جامعة الدول العربية، فهو خطوة هامة على طريق ربط الأمة بالعمل على طريق الوحدة العربية.
الدائرة الرابعة: هي الدائرة الاجتماعية التي تسعى إلى نقل اهتمامات التيار القومي وهمومه من عقول الناس إلى بطونهم، ومن النقاش السياسي إلى العمل الاجتماعي المرتبط بحياة البشر وحاجاتهم الأساسية.
وفي هذه الدائرة تنتظم جملة مهام، أولها دون شك هو انخراط قوى التيار القومي العربي في النضالات ذات البعد الاجتماعي، سواء عبر النقابات القائمة أو عبر تصويب مسارها أو تأسيس غيرها، بحيث يرتبط العمل القومي العربي بمطالب الناس الحياتية في إطار العدالة الاجتماعية من جهة، والتنمية المستقلة من جهة ثانية، أو في إطار شعار (الكفاية والعدالة) الذي أطلقه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في الستينيات من القرن الماضي.
وفي هذه الدائرة يمكن أيضاً أن ندرج الاهتمام بجمعيات أهلية متخصّصة تساعد المواطنين الفقراء على مواجهة الأعباء المعيشية الصعبة المتفاقمة بدءاً من مراكز صحيّة مجانية للفقراء، أو مراكز تربوية، أو حملات عمل شعبي، بحيث يُقدّم المشروع القومي تفسه للمواطن مرتبطاً بلقمة عيشه أو حبة دوائه أو كتاب أولاده.
إن انحياز المشروع القومي العربي إلى الفقراء هو ترجمة لأهدافه، وتزخيم لفعاليته دون أن يعني ذلك الانحياز عداء للطبقات الأخرى، بل أن يترافق مع فهم لدور الرأسمال الوطني غير المرتهن في تحقيق نهضة استثمارية في البلاد.
وإذا كان الاهتمام بذوي الشهداء والجرحى والأسرى والمعتقلين مسألة يتلازم فيها الواجب الوطني والقومي مع الواجب الاجتماعي والأخلاقي، فإن ما يوازي ذلك من أهمية الاهتمام بقدامى المناضلين ممن أمضوا حياتهم في النضال من أجل أمتهم ثم وجدوا أنفسهم وحيدين في مواجهة الصعوبات، وهو ما يتطلب خططاً ومبادرات على هذا الاتجاه.
وفي هذا الإطار الاجتماعي أيضاً تتصدر قضية البيئة اهتمامات البشرية في ظلّ المخاطر التي يحملها التحول في المناخ العالمي، وهو أمر لا يجوز أن يكون بعيداً عن اهتمامات التيار القومي العربي ليكون في قلب العصر.
أما الدائرة الخامسة: فهي الدائرة الإعلامية التي كثر الحديث عنها كضرورة لانطلاق التيار القومي العربي ووصوله إلى أوسع الجماهير، وهي الدائرة التي تصطدم، كغيرها، بحاجز النقص في التمويل لاسيما حين يأتي الحديث عن قناة خاصة بهذا التيار.
هنا أعتقد أنه يمكن وبامكانيات قليلة جداً، التعاون مع وسائل اعلام مرئية ومسموعة ومكتوبة بحيث تتيح نوافذ للتيار القومي العربي، تتسع وتضيق حسب المعارك التي يخوضها رموز هذا التيار. فالاحداث رغم كل المعوقات تفرض نفسها على الاعلام وتضطر كل وسائله إلى ملاحقة صنع الحدث بدلاً من أن يلاحقوها. كما أن علينا أن ندرك ان المواطن هو الذي يلاحق الخبر أو التحليل الذي يستهويه، ولا يجوز أن نعتقد أن الإعلام منابر للوعظ أو للتثقيف ولهما وسائل أخرى.
في المجال الاعلامي أيضاً ينبغي أن يقرن التيار القومي نفسه بالإعلام الجديد، أو الإعلام البديل، الذي أثبت الأحداث فعاليته، وأن يسعى التيار إلى تعبئة طاقات الشباب في هذا المجال وبوسائل إبداعية خلاّقة.
الدائرة السادسة هي الدائرة التربوية التي تندرج في اطارها مناهج التعليم في مدارسنا وجامعاتنا، كما القضايا المتصلة بالطفولة وتربيتها، وصولاً إلى تعليم اللغة العربية كاللغة الأم بالنسبة إلى أطفالنا.
هنا يتعين على التيار القومي العربي بكل قواه أن يقود معركتين في آن واحد، معركة داخل قطره من أجل تصحيح مناهج التعليم لتصبح أكثر مواءمة مع هوية المجتمع وحاجاته، ومعركة قومية من أجل تفعيل كل القرارات والسياسات والبرامج التي جرى الاتفاق عليها في إطار المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم وغيرها ولكن معظمها لم يبصر النور.
وهنا أيضاً ينبغي دعوة مختصين من أجل التفكير بوسائل مبدعة تشدّ الطفل العربي إلى لغته وهويته وثقافته وتراثه وتصون شخصيته من الضياع.
الدائرة السابعة: دائرة الشباب والذين أثبت الكثير منهم جدارة وريادة وكفاءة ونضجاً في السنوات الأخيرة، بدءا بالمقاومة وصولاً إلى الحراك الشعبي القومي العربي.
إن تخصيص جهد وإمكانات ووسائل من أجل آليات تعبئ طاقات الشباب يكاد يكون أحد أهم سبل استنهاض التيار القومي، لأن استنهاض حركة الشباب في إطار قومي ينعكس على كل فئات المجتمع.
وإذا كانت مخيمات الشباب القومي العربي قد شكّلت بادرة مضيئة في هذا الاتجاه، فإن عقد مؤتمر للشباب العربي يتدارس عبره هؤلاء الشباب قضاياهم وسبل استنهاض طاقاتهم هو خطوة مهمة في الاتجاه ذاته.
الدائرة الثامنة: هي دائرة المرأة التي يشكّل انخراطها في الحياة العامة ونضال الأمة أحد مقاييس القدرة لدى الأمة ذاتها خصوصاً بعد أن أثبتت المرأة العربية جدارة نضالية عالية في أطر المقاومة العربية وفي العديد من الأحزاب والهيئات والمؤسسات العربية.
في هذا المجال ينبغي بذل جهود فكرية وعملية هائلة لتذليل العقبات المرتبطة بمشاركة المرأة، لكن ارتباط التيار القومي العربي بقضية المرأة العربية بحوله بالفعل إلى تيار شعبي كاسح.
الدائرة التاسعة: دائرة عالمية القضية العربية أو العلاقة مع دول الجوار والعالم وهي علاقة بالغة الحساسية لأنه إذا أحسن التعامل معها نجح هذا التيار إلى حدّ كبير، وإذا لم يحسن التعامل أصابه التعثر والارتباك.
إن القاعدة المقترحة في هذا الإطار هي انفتاح واسع لا يصل إلى حدّ التبعية والالتحاق، وخصوصية لا تبرر العداء.
بل إن القاعدة التي تعتقد أن تأييد الكثير لموقف هذه الدولة من قضايانا لا يعني أن نتحول إلى أدوات، وإن خلافنا مع تلك الدولة لا يعني كذلك أن يتحول إلى خصومة أبدية.
إن استكمال ندواة الحوار هو علاقة العرب بأمم الجوار، وقد لعب مركز دراسات الوحدة العربية دوراً رائداً، أمر في غاية الأهمية، كما هو توثيق الصلات على مستوى الشعوب، وبناء العلاقات مع قاعدة المصالح المحترمة والمعزّزة للسيادات الوطنية والقومية لا القائمة على حسابها.
أما على مستوى دول العالم، فينبغي دائماً أن نتذكر أن إحياء التيار القومي العربي ارتبط دائماً بإحياء كتلة عالمية مناهضة للهيمنة الاستعمارية، كما كان الأمر في مرحلة (باندونغ) 1955.
إن إحياء حركة عالمية مناهضة للعنصرية والصهيونية تشكّل دعماً كبيراً للتيار القومي العربي لأنها تسهم في إضعاف أبرز القوى والدول المعادية لهذا التيار، كما تسهم في دفعه إلى مواجهة تحديات تسهم في تطور خطابه وأدائه لكي يكون قادراً على التأثير دولياً.
لقد نجحت مراكز ومؤسسات قومية ذات بعد دولي في تهيئة الظروف بقيام مثل هذه الحركة وتطويرها، وينبغي أن يسهم الجميع في إنجاح المنتديات والمبادرات التي غالباً ما تنظلق من رحم هذه المؤسسات القومية.
التمويل
وأخيراً، الدائرة العاشرة وهي أم الدوائر الأخرى جميعاً، وهي دائرة التمويل التي إذا لم يجد العاملون في التيار القومي العربي حلاً لها، فهذا التيار سيبقى نخبوياً إلاّ في حالات واستثنائية، كما رأينا في انتخابات الرئاسة المصرية، وهي استثنائية بالفعل.
|