المؤتمر القومي العربي
ARAB NATIONAL CONFERENCE
من اجل تفعيل التكامل الإقليمي العربي **
د. رغيد الصلح *
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* كاتب، عضو المؤتمر القومي العربي.
** لا تعبر هذه الورقة بالضرورة عن رأي الأمانة العامة للمؤتمر القومي العربي.
*** لا يجوز نشر هذه الورقة كلاً أو جزءاً إلا بموافقة تحريرية من إدارة المؤتمر.
من اجل تفعيل التكامل الإقليمي العربي
رغيد الصلح
28/05/2013
I-مقدمة
ينعقد المؤتمر القومي العربي للنظر في حال الأمة ومناقشة قضاياها الحيوية، كما جاء في رسالة الدعوة. وعندما تفضل الأمين العام للمؤتمر الأستاذ عبد الملك المخلافي وكلفني بإعداد بحث حول الوحدة العربية، اقترحت عليه ووافق شاكرا على ان اعد ورقة عن التكامل الإقليمي العربي الذي هو، في تقديري، واحد من أهم قضايا المصير العربي لأنه يؤثر على كافة المصالح والطموحات العربية في مجالات السياسة والاقتصاد والعدالة الاجتماعية والثقافة والأمن والسيادة الوطنية. ولكن على الرغم من أهمية هذه القضية فإنها لم تنل ما تستحقه من الاهتمام والمتابعة. وكثيرا ما يحدث أن تبحث مسألة التكامل الإقليمي العربي بصورة تبادلية أو ملحقة بمسألة الوحدة العربية وهذا خطأ لان لكل من المفهومين تقاليد فكرية مستقلة يندرج في إطارها. في كافة الحالات فان بحث مسألة الأقلمة بصورة مستقلة لا يقلل على الإطلاق من أهمية المسألة الوحدوية التي استأثرت ولا تزال تستأثر بالاهتمام العربي والدولي لأكثر من قرن من الزمن.
قبل الانتفاضات والثورات العربية كثيرا ما قيل عند بحث أي هدف من نهضوي عربي أن تحقيقه يتطلب توفر الإرادة السياسية لدى الذين يملكون التأثير على المنطقة وتسيير أوضاعها ولدى النخب الحاكمة العربية بصورة خاصة لأنها هي التي تملك مقاليد السلطة، وأنها هي التي تستطيع تحقيق التكامل او التباعد بين الدول العربية. هذه النظرة كانت تنطوي على شيء من الصواب، ولكن ليس كله لان مسألة بهذا الحجم لم تستأثر باهتمام قوة واحدة من القوى المؤثرة في المنطقة بل كانت موضع صراع بين قوى متعددة ومنها أو في مقدمتها النخب الحاكمة العربية، إلى جانب أطراف أخرى، داخلية وخارجية، رسمية وغير رسمية لها مواقف متنوعة ومتباينة تجاه مسألة التكامل العربي فمن هي هذه القوى؟ وما هو موقفها تجاه هذه المسألة؟ وأين يقف المتعاطفون مع التكامل الإقليمي العربي من هذا الصراع؟ وهل يملكون تحسين فرص تحقيقه في المستقبل؟
ينتمي المعنيون بالأقلمة في العالم وفي المنطقة العربية الى مدارس فكرية مختلفة. فهناك المدرسة الواقعية والقومية في السياسة الدولية. ويقول المنتمون الى هذه المدرسة ان القرارات والمشاريع التي تنفذها الدول، ومنها مشاريع التعاون والتكتل الاقليمي تهدف الى تعزيز امنها ومصالحها ومكانتها القومية. وان هذه المشاريع لا تعني الكثير للدولة الترابية لذلك فانها تحرص على ابقاء التعاون مع الدول الاخرى في مستويات متدنية بحيث يمكن التخلي عنه متى حان اجله ولم تعد هناك من حاجة ماسة اليه.
وتتفق المدرسة الوظيفية مع المدرسة الواقعية من حيث اعتبارها ان الحافز القومي هو الذي يدعو ’الحكومات التي تعمل بموجب حسابات عقلانية‘، الى انشاء التكتلات الدولية والاقليمية اذا وجدت ان الدولة التي تحكمها باتت عاجزة عن الاضطلاع بالمهام الامنية والمعيشية المطلوبة منها، كما كان الامر في اوروبا بعد الحرب العالمية الثانية. ولكن انصار هذه المدرسة مثل دافيد ميتراني، المؤرخ وعالم السياسة البريطاني الجنسية، اختلفوا مع انصار المدرسة الواقعية اذ اعتبروا ان المنظمات الاقليمية والدولية مثل منظمة العمل الدولية سوف تكتسب وجودا مستقلا عن الدول القومية التي اسستها بحيث انه بمجرد ظهورها وبدئها العمل. عندئذ تنبأ الوظيفيون بان هذه المنظمات سوف تنتشر ويتسع نطاق نشاطها فتتخطى الهياكل القانونية والاطر والحدود القومية من خلال تفاعلها مع بعضها البعض. وخلال زمن قصير وبحكم الاحتكاك وظروف العمل سوف تنشأ بين العاملين فيها علاقات تعاون وتفاهم افقية تتجاوز حكومات الدول التي يتبعونها والهويات القومية التي ينتمون اليها وتتكون عندهم ثقافة ونظرة مشتركة ومتجانسة. ومع مضي الوقت توقع الوظيفيون بان تنتقل هذه الروحية التي تظلل العاملين في المنظمات الاقليمية والدولية الى عقول المواطنين العاديين بعد ان تدخل هذه المنظمات حياتهم العادية واليومية. وتوقع الوظيفيون ان تندمج هذه المنظمات، علاوة على ذلك وفي نهاية المطاف، في كيان عالمي تذوب معه الدول القومية والتكتلات الاقليمية، فتذهب العولمة بالقومنة وبالأقلمة معا.
اعتبر بعض الوظيفيين ان هذه التنبؤات تنطوي على ثغرات ومبالغات. لقد اتفق هؤلاء الذين أطلق عليهم الوظيفيين الجدد مع الوظيفيين الكلاسيكيين حول اثر المنظمات الدولية الإقليمية على العاملين فيها، وحول توقعاتهم بانتقال ولاء المواطنين وتطلعاتهم ومحط اهتماماتهم بصورة تدريجية من الدول القومية/الترابية الى مركز جديد يقع خارج هذه الدول كما لاحظ ارنست هاس، احد ابرز مفكري المدرسة الوظيفية الجديدة. الا ان الوظيفيين الجدد اختلفوا مع الوظيفيين التقليديين من حيث اقتناعهم بان الاندماج يبدأ وينتهي بالإقليم ولا يتجاوزه إلى الوحدة العالمية.
ولتفسير ثبات هذه المنظمات وتطورها ابتكر الوظيفيون الجدد مفهوم التداعي spill over وهو واحد من اهم مفاهيم الأقلمة. وبموجب هذا المفهوم فان قطار الأقلمة يبدأ في قطاع محدد ثم لا يلبث ان يصل الى محطة جديدة بحيث انه اذا دخلها خرج عن مخططه الاصلي واصطدم بحاجز سيادة الدول، واذا بقي في مكانه او حاول التراجع فانه يضيع على البلدان المعنية كل الجهود البشرية والمادية التي انفقت في تحريك القطار وايصاله الى تلك المحطة. عندها تضطر الحكومات الى التدخل من اجل السماح للاقلمة بالانتقال الى القطاعات الجديدة حتى لا يعاقبها الرأي العام والناخبون لانها اهدرت الجهود دون طائل. وهكذا تتعمق الأقلمة وتترسخ بحيث تتحول مع توالي التداعيات الى اتحادات وفدراليات.
ومع التداعيات، تصبح الديمقراطية شرطا لازما لتعميق التكتل الاقليمي. فالنظام الديمقراطي هو الذي يفسح المجال امام الشفافية والمحاسبة والمساءلة وبالتالي معاقبة الحكومة اذا حاولت ايقاف قطار الاقلمة وتسببت باهدار المال العام. بالمقارنة فان الانظمة المطلقة التي لا تعبأ كثيرا بالرأي العام ولا تخشى غضبة الناخب، لا تمانع في القضاء على كل ما انجزته في مجال التعاون مع الدول الاخرى والتكامل معها، اذا ما شجر الخلاف بينها وبينهم خاصة اذا ما طال هذا الخلاف امن النخبة الحاكمة واستقرارها.
II-الفاعل الاقليمي
من هذا العرض السريع لبعض مدارس الاقلمة في العالم، وبالمقارنة مع واقعنا الراهن نجد ان المنهج الاقرب لقراءة واقع العلاقات بين الدول العربية هو المنهج الذي تتبعه المدرسة الواقعية. فالحكومات العربية، رغم التحولات الاخيرة، لا تزال هي التي تضبط ايقاع العلاقات العربية-العربية، وان نظير الدولة القومية الغربية في المنطقة العربية هو ما يوصف احيانا بالدولة القطرية الترابية. اخذا بعين الاعتبار هذه الملاحظات يمكننا تقسيم القوى المعنية بالعلاقات بين الدول العربية وباقلمة هذه الدول الى طرفين رئيسين:
اولا، القوى العظمى والكبرى
تفاوتت سياسة القوى العظمى والكبرى تجاه مشاريع الاقلمة العالمية بين التبني والدعم، من جهة، والاهمال وحتى المعارضة والمحاربة، من جهة اخرى. فالادارة الاميركية اضطلعت بدور قاطرة التعاون الاوروبي عندما نفذت مشروع مارشال في الاربعينات. ويضطلع الاتحاد الاوروبي بموقف ايجابي وفاعل اليوم تجاه سوق اميركا الجنوبية المشتركة (ميركوسور). بالمقابل اتسم موقف القوى العظمى والكبرى تجاه مشاريع التكتل الاقليمي العربي مثل مشروع الحلف العربي في الثلاثينات وجامعة الدول العربية في الاربعينات بالسلبية والمعارضة. وكان من مظاهر هذه المعارضة التدخل المسلح لتدمير اية ’قوة عظمى‘ عربية تشكل قاطرة للتكامل في المنطقة.
يتخذ البعض من هذا الموقف الدولي تجاه مسألة الاقلمة العربية مبررا للجزم بان هذا الهدف غير واقعي لان القوى الكبرى لن تسمح للعرب بتأسيس تكتل اقليمي فاعل . ويعزز اصحاب هذا الاستنتاج رأيهم بالاشارة الى المصالح الكبرى التي سوف تتعرض الى الضرر فيما لو نجح العرب في بناء تكتل اقليمي قوي يملك اهم الموارد النفطية ويسيطر على قسط مهم من الممرات الاستراتيجية في العالم. ولا ريب ان اصحاب هذا الرأي يملكون الكثير من الوقائع التاريخية التي تدعم وجهة نظرهم. ولكن بالمقابل، فانه من المستطاع العودة الى العديد من الامثلة الهامة التي تدل على ان العرب استطاعوا بالتعاون مع الشعوب الطامحة الى اقامة نظام دولي عادل، التأثير على الاوضاع الدولية لصالح هذه الشعوب والعرب.
فابتداء، كانت للعرب علاقات واسعة وممتازة مع كافة القوى البازغة في العالم اليوم كما يشهد تاريخ النضال من اجل تصفية النظام الاستعماري العالمي، وتاريخ حركة عدم الانحياز. ورغم التغير الكبير في سمات النظام الدولي فانه ما هو ايجابي منها اليوم اكثر مما هو سلبي. ومن المرجح ان تتمكن القوى العربية المعنية بموضوع التكامل ان تحصل على تأييد العديد من دول العالم لدعم هذا الهدف، وخاصة دول محور بريكس. هذا لا يعني ان يعتبر المعنيون بالاقلمة العربية تأييد هذه القوى امرا بديهيا، بل ان ينظروا اليه باعتباره ممكنا وقابلا للتحقيق شرط ان يعملوا من اجل تحقيق هذه الغاية.
اما القوى العظمى والكبرى في الغرب، فان التأثير عليها او تحييدها ايضا ليس بالمستحيل. لقد نجحت مجموعة الدول العربية بقيادة مصر، على سبيل المثال، خلال النصف الاول من الاربعينات في تأسيس جامعة الدول العربية، رغم ان هذا المشروع اصطدم بمعارضة الحكومة البريطانية والولايات المتحدة وحركة فرنسا الحرة خلال الاربعينات.
كذلك تمكنت مجموعة الدول العربية، ممثلة بمصر ، بالتعاون مع دول اميركا اللاتينية ممثلة بالبرازيل من ادخال تعديلات جوهرية على ميثاق هيئة الامم المتحدة عام 1945 في مؤتمر سان فرانسيسكو تجلت في اضفاء بعد اجتماعي واقتصادي على الهيئة وتأكيد حق الدول الاعضاء في تكوين تكتلات اقليمية مستقلة عن سيطرة القوى العظمى والكبرى .
ان هذه الامثلة تدل على ان تغير مواقف القوى العظمى والكبرى او التأثير عليها ليس مستحيلا. وقد نكون اليوم امام فرصة جديدة للتأثير على بعض الدول الاوروبية ففي الآونة الاخيرة، وبعد المتغيرات العربية الكبرى، تدور مناقشات واسعة داخل مؤسسات الاتحاد الاوروبي وخارجه حول ضرورة مراجعة سياسة الجوار الاوروبية خاصة تجاه الجوار العربي بعد فشل هذه السياسة في تحقيق الاهداف المتوخاة منها. فقبل سنوات دعا يوشكا فيشر، وزير الخارجية الالماني الاسبق، وزعيم حزب الخضر، العرب الى اقامة اتحاد عربي قائلا ان البلاد العربية تحتاج الى ’جان مونيه عربي‘. وقبل اشهر نشرت انباء تقول ان كاترين آشتون، مسئولة الخارجية في الاتحاد الاوروبي، نصحت زعماء عرب في جولتها في المغرب العربي بتنمية التعاون الاقليمي مع دول الجوار العربي، كما نشرت انباء مماثلة تقول بان ميشال بارنييه، مسئول الاسواق الداخلية في الاتحاد الاوروبي، اقترح على رئيس الجمهورية اللبناني خلال زيارة قام بها الى بيروت في نهاية العام الفائت بالعمل على تكوين نواة مع بعض الدول العربية لانشاء سوق عربية مشتركة مع وعد بتأييد الاتحاد الاوروبي لهذا المسعى.
ان هذه التعبيرات والمواقف ليست مؤكدة ولا نعرف مدى جديتها، فقد تكون من التصريحات العابرة التي لا تحمل دلالات بعيدة المدى. ولكن من الخطأ ان يقف منها المعنيون بتطوير التعاون والتكامل الاقليمي العربي موقف الاهمال، وان يعتبروا سلفا انها لا تخدم قضيتهم، وان لا يتقصوا حوافزها واهدافها.
ثانيا-القوى الاقليمية
المقصود هنا هو الدول التي تمارس تأثيرا على مستوى الاقليم ككل. ولقد حددت المؤسسة الالمانية للدراسات العالمية والمناطقية مواصفات القوى/الدول الاقليمية بدرجة عالية من الدقة اذ اعتبرت بانها تلك التي تمتلك بالخصائص التالية:
1- بانها تعتبر نفسها قوة اقليمية.
2- بامتلاكها طاقات متفوقة عسكرية واقتصادية وديمغرافية وسياسية وعقائدية.
3- بانها تضطلع بدور حاسم في وضع الاجندة الامنية للاقليم، وفي ترسيم حدوده الجغرافية وفي صنع عقيدته المسيطرة.
4- بانها مندمجة اندماجا حقيقيا في الاقليم، وبانها تمتلك علاقات جيدة في الاقليم وخارجه.
5- بان القوى الاقليمية في الاقليم وخارجه تعترف بمكانتها الاقليمية.
وهذه الخصائص تصلح ككاشف لمكانة ولدور كيانات المنطقة التي توصف بانها قوى اقليمية وهي تنطبق على النوعين التاليين من هذه القوى:
ا-القوى الاقليمية غير العربية
يطلق هذا الوصف عادة على تركيا وايران واسرائيل. واذا طبقنا التعريف المشار اليه اعلاه، فاننا نجد اكثر من فارق بين تركيا وايران، من جهة، واسرائيل من جهة اخرى. فاسرائيل ليست مندمجة اندماجا حقيقيا في الاقليم. انها تملك علاقات وثيقة مع بعض دوله، ولكن من الصعب ان تعتبر هذه العلاقات طبيعية ومستقرة. والنظرة السائدة في البلدان العربية وفي العديد من بلدان العالم هي ان اسرائيل جسم غريب عن المنطقة، وانها نتاج عدوان عليها واحتلال استيطاني لاراضيها، وانها تشكل خطرا على دوله وليس كيانا يمتلك مكانة خاصة فيه. وتضطلع اسرائيل بدور كبير في وضع الاجندة الامنية للاقليم وفي ترسيم حدوده وصنع عقيدته، ولكن على نحو سلبي، اذ ان النظرة السائدة بين كثيرين من علماء السياسة والعلاقات الدولية ولدى العديد من الشعوب بما في ذلك في اوروبا، هي ان ادخال اسرائيل في المنطقة عطل تحويلها الى منطقة امان. ، كذلك ينتشر الشعور بان اسرائيل هي عدو قومي لاكثر سكان الاقليم وان عقيدتها تشكل خطرا على عقائدهم لانها تشحذ التعصب الديني والعرقي في المنطقة..
بينما ينتشر الشك في صحة تنسيب اسرائيل الى المنطقة، فان تركيا وايران تتمتعان باكثر المواصفات المطلوبة لكي تكونا طرفين في شراكة مع الاقليم العربي مثل التشابه في المعتقدات الدينية والدنيوية واعتراف المجتمع الدولي بمكانتهما في منطقة الشرق الاوسط. وتمتلك تركيا مقومات عديدة للزعامة الاقليمية، فالاقتصاد التركي يحتل المركز السابع عشر من حيث الحجم في العالم، وهو اسرع الاقتصاديات الاوروبية نموا، وتحتل تركيا المركز الحادي عشر بين دول العالم من حيث تقييم القوة العسكرية اي قبل اسرائيل التي تحتل المركز الثالث عشر. وتمتلك ايران ايضا ميزات ديمغرافية واقتصادية وعسكرية وبشرية وتاريخية تؤهلها لكي تكون واحدة من قوى الشرق الاوسط الاقليمية، فهي تحتل المرتبة السادسة عشر بين دول العالم من حيث قوتها العسكرية، وتمتلك ثروات طبيعية كبرى.
اعرب الايرانيون والاتراك عن رغبتهم في الاشتراك بصفة مراقب في القمة العربية، ووجهت الدعوات احيانا الى زعماء البلدين لحضور مثل هذه المناسبات. ان هذه المبادرات الآتية من البلدين لا تعبر بالضرورة عن رغبة في دعم مساعي العرب من اجل تحقيق التكامل الاقليمي العربي. فايران اليوم مثلها بالامس ترى نفسها زعيمة لمنطقة الشرق الاوسط. وتركيا تظهر طموحا الى تحقيق نفس الغاية في ما يدعوه وزير الخارجية التركي، داود اوغلو ب "الشرق الاوسط: الحديقة التي لا غنى عنها" اذا ان هذه الحديقة تتمتع، من وجهة نظر تركية، كل مقومات وخصوصيات الاقليم، بينما تملك تركيا جميع مميزات القوة الاقليمية الكبرى.
وكما تلعب الاعتبارات الواقعية دورا مهما في بلورة سياسة القوى العظمى تجاه التكتلات الاقليمية في المنطقة العربية، فانها تلعب دورا مهما ايضا في تحديد خيارات تركيا وايران تجاه التكامل الاقليمي العربي.
ولعل الاعتبار الواقعي الاكثر اهمية هو ان البلدين يتطلعان الى صعود سلم الزعامة الاقليمية في منطقة تعاني من فراغ كبير وترزح قواها الاقليمية تحت اعباء كبيرة، وخاصة في المشرق العربي حيث تم تحجيم دور مصر القيادي في المنطقة بعد معاهدة كامب دافيد، ودمر العراق في الحرب والاحتلال ويجري تدمير سوريا في الحرب الدائرة فيها، وتحيط السعودية التحديات من كل جانب هذا فضلا عن استنزاف المغرب والجزائر في حرب مغاربية باردة. في مطلق الحالات ينبغي ان يبتعد الايرانيون والاتراك عن التصرف على نحو يشبه سلوك بعض دول البلقان خلال مرحلة اجتياح الجيوش الهتلرية لاراضي تشيكوسلوفاكيا السابقة عام 1938. فعندها حاول التشيكوسلوفاكيون مقاومة الغزو النازي، وتطلعوا الى جيرانهم في المنطقة لمساعدتهم على الوقوف بوجه الغزاة. ولكن بدلا من تأتي تلك المساعدة تبين للتشيكوسلوفاكيين ان تلك الدول المجاورة كانت تتهيأ لاقتطاع نصيبها من اراضي تشيكوسلوفاكيا وثرواتها بعد ان ينال هتلر الحصة الكبرى من الغنيمة.
رغم هذه المحاذير وىالمخاوف فان الحكمة السياسية والتجارب التاريخية تقتضي الافتراض بان ارساء العلاقات العربية مع تركيا وايران على قواعد الشراكة بين اطراف متعاونة ليس امرا مستحيلا. فللعرب كيانهم الاقليمي المتمثل بمؤسسات العمل العربي المشترك، ولايران ولتركيا تكتلهما الاقليمي المتمثل بمنظمة التعاون الاقتصادي (ايكو) التي ولدت عام 1985 واتخذت من طهران مقرا لها التي تضم البلدين جنبا الى جنب مع باكستان وافغانستان وجمهوريات آسيا الوسطى. ويستطيع التكتلان تحقيق درجة عالية من التعاون والتساند في كافة المجالات على نحو يعمق العلاقات بين الدول المنتمية اليهما.
بالمقابل فان استغلال وهن وتراجع النظام الاقليمي العربي من اجل بسط الهيمنة على المنطقة العربية يثير ردود فعل سلبية عربية متنامة ويقود الى توتر متفاقم في العلاقات بين الدول العربية، من جهة، والجارين التركي والايراني، من جهة اخرى. هذا فضلا عن ان التنافس بين الجيران انفسهم على استغلال الفراغ في المنطقة العربية وعلى تزعم الاقليم العربي سوف يؤدي الى احتدام الصراع فيما بينهم على نحو يذكرنا بالعوامل التي ادت الى الحربين العالميتين وبالصراع بين القوى الاوروبية على تقاسم الامبراطورية العثمانية. ان هذا الواقع جدير بان ينبه القيادات الايرانية والتركية الى اهمية مراجعة السياسة التي يسلكونها تجاه المنطقة العربية، والى انه افضل لهم ان يساندوا المساعي الرامية الى تحقيق الاقلمة العربية حتى تستقر المنطقة ويأمن الجميع شرور الحروب والاجتياحات.
2- القوى العربية الاقليمية
تنقسم هذه القوى الى نمطين من القوى: القوى الرسمية وقوى المجتمع المدني. وينطلق هذا التنميط من الاعتقاد الشائع بين العاملين في الحقل العربي العام .بان لكل من هذه القوى موقفها الخاص تجاه التكامل الاقليمي العربي.
أ- القوى الرسمية
تميز بعض المدارس المعنية بدراسة التكتلات الاقليمية بين النوعيين التاليين من هذه القوى:
• النخب الحاكمة
يقارن بعض المعنيين بالاقلمة النظام الاقليمي العربي بنظام الدول الوستفالي الذي نشأ عام 1648 في اوروبا بعد ان توصل ملوكها الى اتفاق يؤكد مبدأ سيادة الدول المطلقة ويمنع تدخلها في شئون بعضها البعض. فالنظام العربي هو نظام دولتي state-centric بامتياز وهو يطابق مواصفات الواقعيين للتكتلات الاقليمية. ان الغرض الرئيسي منه هو تعزيز التعاون بين الدول، بغرض ترسيخ استقلالها وسلطتها. ولئن عانت الدول العربية، كما يقول باري بوزان، استاذ العلاقات الدولية في كلية لندن للاقتصاد، بسبب الطريقة التي رسم بها الاوروبيون حدودها، من جهة، ومن تحديات التيارين القومي العربي والاسلامي، من جهة اخرى. ازاء هذه التحديات المتقابلة لجأت الحكومات العربية الى التشديد على الطابع ’الوستفالي‘ لدولها. ويعتقد بوزان ان النخب العربية الحاكمة تمكنت من تحقيق مرادها ومن تحويل التحديات العقائدية، في بعض الاحيان، الى ادوات تستخدمها حكومات المنطقة لحماية الدولة الوستفالية العربية. ولقد ارتكزت النخب الحاكمة العربية الى التطورات الهامة التالية التي طرأت على المنطقة:
• تحول اكثر دول المنطقة الى دول ريعية الطابع بعد اكتشاف النفط وانتشار نموذج الدولة التدخلية الذي لم تضبطه معايير سياسية راشدة واجتماعية عادلة. هذه التطورات افسحت المجال امام اضعاف الحوافز الاقتصادية الى بناء السوق العربية الواسعة والاعتماد المتبادل الاقتصادي بين دول المنطقة.
• تراجع الحوافز الى اقامة نظام امني اقليمي عربي نتيجة سببين، الاول، هو توقيع معاهدات السلام وتنفيذ اجراءات التطبيع مع اسرائيل. والثاني، هو انتشار الاقتناع بان الدولة العربية الترابية الوستفالية لا تحتاج الى التعاون الاقليمي الامني لاعتقاد بعض الحكومات بانها في اللحظات الحاسمة التي يتهدد فيها امنها، تستطيع الاتكال على الحلفاء والاصدقاء الدوليين.
• تراجع المشروعية التي كانت تستمدها الدولة العربية الترابية من التزامها بموجبات الانتماء العربي امام تزايد تأثير مشروعيات اخرى على حساب المشروعية العروبية لدى الرأي العام العربي.
في ظل هذه المعطيات، لم تكن لدى الدولة العربية ونخبها الحاكمة الحوافز الكافية للاهتمام بصورة جدية بمشاريع التكامل العربي، ومن المستبعد ان تبدي اهتماما بعروض المصالحة التي يمكن ان تأتيها من الجماعات المعنية بقضايا الوحدة والتعاون والتكامل بين الدول العربية كما اقترح المشروع النهضوي.
ان هذه الاوضاع قابلة للتغير. ففي المستقبل غير البعيد من المرجح ان تتعرض الدولة العربية الريعية الى المنافسة على اسواق النفط وخاصة من الولايات المتحدة مما يعرض مداخيلها العالية الى الانخفاض. هذا المتغير جدير بان يضعها، مجددا، امام الحاجة الى تنويع اقتصادها وتنمية قطاعاتها الانتاجية والى تصدير منتجاتها الى خارج اسواقها الصغيرة. اما الاتكال على مظلة الامان الحليفة فلم يعد مضمون النتائج كما كان الانطباع السائد قبل السابقة السورية. ويجدر بالذكر ان العديد من السوابق في التاريخ العربي الحديث تفضي الى نفس النتائج. ففي عام 1958 طالب الرئيس اللبناني كميل شمعون دول الغرب بالحاح التدخل لانقاذ نظام حكمه الموالي لها، ولكن دول الغرب رفضت طلبه هذا. لقد جرى التغاضي في اكثر الاحيان التغاضي عن هذه الامثلة، ومن ثم تجاهل دروسها ومنها الحاجة الى نظام امني اقليمي نابع من المنطقة. غير ان تفاقم الازمة السورية ومضاعفاتها وانتشار اللهب الى الدولة المجاورة من شأنه ان يؤكد الحاجة الماسة الى بناء مثل هذا النظام. تبقى المشروعية العروبية وهي على حالها ما دامت لا تزال تبحث عن حامل اجتماعي وسياسي يعقلنها ويعيد اليها الالق والريادة.
• البيروقراطية الاقليمية
تلعب البيروقراطية الاقليمية، كما ذكرنا اعلاه، دورا مهما في تنمية الاقلمة الى درجة ان البعض درج على اطلاق وصف ’المؤامرة البيروقراطية والتكنوقراطية‘ على المشروع الاوروبي، فهل يمكن للبيروقراطية التي تضم الاشخاص والمصالح والجماعات العاملة في مؤسسات وشبكات التعاون الاقليمي العربي الاضطلاع بمثل هذا الدور؟ ترشح اللجنة المستقلة لاصلاح جامعة الدول العربية التي شكلها الامين العام للجامعة خلال الفترة المنصرمة الى البيروقراطية الاقليمية المتمثلة بالجهاز الاداري للجامعة والتابع لامانتها العامة، للاضطلاع ببعض هذا الدور كما نستنتج من التقرير الذي قدمته مؤخرا الى الامانة العامة للجامعة.
من الضروري الاخذ بعين الاعتبار هنا ان الظروف التي تعمل بها البيروقراطية الاقليمية العربية، حيث تنتشر الانظمة الاوتوقراطية، تختلف اختلافا كبيرا عن ظروف عمل البيروقراطية الاقليمية في الديمقراطيات المتقدمة كما هو الامر في دول الاتحاد الاوروبي او في بعض دول اميركا اللاتينية. ففي الاتحاد الاوروبي تعززت مؤسسات الاتحاد مثل الرئاسة والمفوضية الاوروبية والبرلمان وممثل الاتحاد للشئون الخارجية والامن واصبحت تعمل بصورة مستقلة عن الحكومات، وباتت ’بروكسل‘، اي عاصمة الاتحاد الاوروبي تتعرض الى النقد لانها تنتهك سيادة الدول الاعضاء احيانا والى العجز الديمقراطي الذي يظهر في علاقتها مع هذه الدول احيانا . اما في مؤسسات العمل العربي المشترك، فان العاملين فيها مضطرون الى مراعاة الدول الاعضاء التي تختارهم لتمثيلها في نظام اقليمي دولتي الطابع.
انطلاقا من هذا الواقع، ولما كانت اكثر الحكومات العربية ترغب في بقاء النظام الاقليمي العربي على وضعه الراهن، فانه من المتوقع ان تبقى البيروقراطية الاقليمية العربية فاعلا محافظا يعمل على الحفاظ على الوضع الراهن ولا يسعى الى اصلاحه. ولكن التجربة الشخصية تؤكد بان قسما من العاملين في البيروقراطية الاقليمية العربية يتمنى الاضطلاع بدور ملموس في انهاض مؤسسات العمل العربي المشترك وفي تحقيق التكامل الاقليمي العربي. ومن الارجح انه لو تغيرت موازين التأثير بين مؤيد الاقلمة ومعارضها للوصول الى شيء من التكافؤ المفقود بين الطرفين، لامكن للمتعاطفين مع الاقلمة العربي ان يعززوا دورهم في البيروقراطية الاقليمية لصالح القناعات التي يحملونها.
ب- قوى المجتمع المدني
في ظل الاوضاع العربية الراهنة حيث تبرز المفارقة الكبرى بين مشاريع الاقلمة ومؤسساتها التي وصلت الى ادنى مستوياتها، وفي ظل الواقع العربي الحالي حيث ادت المتغيرات العربية الهامة في اكثر من بلد عربي الى افساح المجال امام قوى المجتمع المدني العربي للتعبير عن نفسها بدرجة ملحوظة من الحرية، تقع على عاتق هذه القوى الاخيرة، وعلى عاتق المعنيين بالنهوض العربي، بصورة خاصة، مسئوليات كبرى واستثنائية في احياء مشاريع الاقلمة العربية وتفعيلها. فمن هي هذه القوى؟
يقترح المشروع، جوابا على هذا السؤال، قائمة تضم كافة القوى صاحبة المصلحة في الارتقاء بالعلاقات العربية-العربية او بتعبير آخر "الامة بمعظم طبقاتها وفئاتها، وبمعظم احزابها ونقاباتها وجمعياتها وتياراتها الفكرية المختلفة". ويبدو الاندفاع الى تحقيق الهدف الوحدوي كاسحا بحيث لا تعود المشكلة التي تواجه اصحاب المشروع هي كيفية اقناع المواطنين بتبني هذا الهدف والعمل من اجله، وانما منع الاستحواذ عليه من قبل ’المحتكرين والاقصائيين‘. ولكن لو كان هذا الحال صحيحا لما كنا في حاجة، على الارجح، الى ادراج مسألة التكامل الاقليمي العربي على جدول الاعمال. ولكن الحال غير هذا مما يفرض علينا العمل على استقصاء مواقف قوى القطاعين الخاص والمدني بدقة. تسهيلا لهذا الامر نجد انه من المفيد التمييز بين نموذجين من هذه القوى: الاول هو القوى المنتفعة من تحقيق التكامل، والثاني هو القوى المطالبة به والفرق بين الاثنين قد يكون شاسعا الى درجة التضاد.
تحت عنوان النفع تأتي عناوين فرعية كثيرة. هناك النفع الامني حيث ان جماعات من المواطنين تشعر ان بلادها مهددة الا اذا تمكنت من بناء منظومة امنية اقليمية توفر للدولة الترابية درعا اقليميا يحميها من العدوان الخارجي، ومن الحروب الاقليمية. وهناك النفع الثقافي الذي تحققه الجماعات الدينية-الثقافية او الاثنية-الثقافية من جراء تطبيق التكامل الاقليمي لانه يحقق التوازن بين التنوع والتوحد، ويبعد شبح الصهر الثقافي والتطهير الديني عن دول الاقليم. . وهناك نفع سياسي يعود على نخب حاكمة ضمن الاقليم. فتحقيق التكامل يعزز مكانة هذه النخب الدولية ويقوي مواقعها التفاوضية مع الحكومات الاخرى. وهناك منافع سياسية تفيد الاقطار الصغيرة لان مشاريع الاقلمة جديرة بالحد من ميل ’الاشقاء الكبار‘ الى استخدام الهيمنة في معاملتها للدول الاخرى. اخيرا لا آخرا، هناك النفع بمعناه الاقتصادي البحت، ولسوف نتوقف عند هذا النفع حيث ان اكثر النقاشات حول مسألة التكامل الاقليمي تنصب على الجانب الاقتصادي.
في هذا المجال تقول مدارس كثيرة ان الطبقة البورجوازية تفيد، بصورة عامة، من التكامل الاقليمي وانها تميل بصورة تلقائية الى العمل على تحقيقه. وهناك الكثير من الشواهد التي تؤكد هذه النظرة. فلقد كان طلعت حرب، احد ابرز اعلام الاقتصاد المصري في التاريخ الحديث، رائدا في حفر الذي التعاون بين مصر وبلدان المشرق العربي بحيث انه لعب دورا مهما في تأسيس غرف تجارية في هذه البلدان. وفي ايامنا هذه يؤكد "الاتحاد العام لغرف التجارة والصناعة والزراعة العربية" هذه الصفة التي تسم الطبقة البورجوازية كداعم لتوسيع السوق. ونحن لا ننتقص من هذه الحقائق بل نؤكدها عندما نقول انه لا يفيدنا كثيرا ان نعالج مسألة علاقات الطبقات الاجتماعية بقضايا التكامل العربي بالابتسار. ذلك انه عند التدقيق، وعند وضع الدراسات الحقيقية حول مسألة التعاون والتكامل الاقليمي العربيين، سوف نجد ان البورجوازية تتشكل من شرائح قد يقف بعضها الى جانب الاقلمة بينما تقف شرائح اخرى ضدها. بل ان فئة بورجوازية معينة قد تكون، هي نفسها، مع التعاون في مجال وضده في مجال آخر.
ما ينطبق على الطبقة البورجوازية ينطبق على العديد من الطبقات والفئات الاجتماعية الاخرى. فالتكامل الاقليمي العربي يفيد المهنيين والعمال العرب فيعزز مداخيلها ويخلق فرص عمل جديدة للملايين من الشباب بمقدار ما يحسن الاحوال الاقتصادية والاجتماعية العربية. ولكن البعض قد يتضرر من جراء منافسة مهنيين او عمال عرب وافدين الى بلده من اقطار عربية اخرى، عندئذ ينقلب التأييد الى معارضة ونقمة وتدفع قضية التكامل الثمن.
ولكن هناك علاجات ومقاربات تكاملية لكل من هذه المشاكل. هناك علاجات تنبع من فكرة ان كل مشروع تكاملي يحمل معه خسائر وارباح، وانه من واجب السلطات المعنية ان تعوض ما يخسره البعض من الارباح التي يحققها البعض الآخر عبر الادوات الضريبية والتعويضية. لولا هذه الآليات والتدابير لثار المزارعون الفرنسيون ضد السوق الاوروبية المشتركة بعد سنوات قليلة من قيامها. ولولا هذه الآليات لما دعم صناعيو الارجنتين والبرازيل سوق اميركا الجنوبية المشتركة (ميركوسور).
بمقدار ما تتسع قائمة المستفيدين الموضوعيين من مشاريع الاقلمة العربية، تضيق قائمة المؤيدين الجديين لهذه المشاريع. وحتى لا نخطئ في تقييم مدى انتشار الطلب على الاقلمة العربية، فان هذه الورقة لا تقلل من حجم التأييد الذي تلقاه فكرة التكامل العربي. فمن الارجح انه لو جرت استفتاءات بهذا الشأن لكانت النتائج في صالح هذه الفكرة. ولكن هذا التأييد المفترض يبقى مثل الشك غير القابل للصرف. وحتى يتمكن صاحب هذا الشك من صرفه فلا بد له من اقناع المصرف، اي اصحاب القرار من النخب العربية السياسية، بتحويل مشاريع التكامل الى واقع حي.
لقد اقترح تقرير لجنة الاصلاح المستقلة اشراك منظمات المجتمع المدني في مؤسسات العمل العربي المشترك كشرط من شروط النهوض بها. وازدادت اهمية المشاركة هذه بعد التطورات الهامة التي طرأت على المجتمعات العربية خلال العامين الاخيرين. ومشاركة المؤتمر القومي العربي في النهوض بالاقلمة العربية لا تتطلب قرارا من جامعة الدول العربية، بل تتطلب قرارا من المؤتمر نفسه باعطاء اولوية لهذا الهدف. ولسوف يقف المؤتمر هنا امام تحديات كبيرة تتمثل بالدرجة الاولى في استعداده للقيام بدور المبادر والعامل بنشاط من اجل ردم الهوة بين اصحاب المصلحة في تحقيق التكامل العربي الاقليمي، وبين المقتنعين بضرورة تحقيق هذا الهدف ومن ثم تحويلهم الى مؤيدين و فاعلين وناشطين وساعين للوصول الى هذه الغاية، وفي تكوين اطار للعمل المشترك الذي يضم هؤلاء لهذا الغرض، وفي بلورة استراتيجية ترسم الطريق الى التكامل.
ان القيم بهذا العمل يبدو وكأن مهمة مستحيلة اخذا بعين الاعتبار المحاولات الكثيرة التي شهدتها المنطقة من اجل تحقيق التعاون الاقليمي العربي دون ان تحقق ولو قصة نجاح واحدة، وحجم القوى الداخلية والخارجية التي عملت على احباط هذه المشاريع او على التقليل من اهميتها. ولكن ما يشجع على الاضطلاع بهذه المهمة وعلى توقع نتائجها الايجابية هي ان الدعوة الى اقامة تكتل اقليمي عربي حقيقي وفاعل ونام لم تجد حتى الآن حاملا سياسيا واجتماعيا يضعها في مقدمة اهتماماته ويكرس لها الجهد العملي المطلوب والبذل الفكري الضروري ويستنبط منها الحلول الناجحة والمرغوبة للعديد لمشاكل الامة وعثراتها. ولقد سعت هذه الورقة الى اعطاء صورة متوازنة عن نمط من العقبات والصعوبات التي تعترض هذا الطريق، وعن بعض العلامات الايجابية التي تسم الواقع الدولي والعربي من وجهة نظر تكاملية عربية بحيث نتجنب التقليل من هذه الصعوبات والمبالغة في تقييم الايجابيات ونسير على الطريق المناسب لتحقيق التكامل العربي الاقليمي. وكمساهمة متواضعة في هذا الجهد فانني اضع بين ايديكم عددا من المقترحات الموجهة آملا ان تأخذ طريقها الى النقاش والتبني.
III- مقترحات
اولا، ان يضع المؤتمر مسألة دعم الاقلمة العربية والنهوض بها بين اولوياته وفي مقدمة مهامه.
ثانيا، ان تشكل الامانة العامة لجنة خاصة تتولى النظر في هذه المسألة ووضع تقرير شامل عنها. وان يتوخى التقرير دراسة جوانبها الفكرية والاستراتيجية وان يتولى صياغة برنامج عام لتعزيز الاقلمة العربية. وفي صياغة هذا البرنامج يمكن الاستفادة من العديد من المشاريع و المقررات الصادرة عن مؤسسات العمل العربي المشترك وخاصة مؤتمرات القمة العربية.
ثالثا، تنظيم ملتقى فكري لمناقشة هذا التقرير خلال فترة لا تتجاوز الاربعة اشهر من ومن ثم لاعتماده كاساس من الاسس الرئيسية لعمل المؤتمر.
رابعا، الموافقة على تشكيل مرصد عربي لمراقبة سير الاقلمة الذي تقدم به الاستاذ معن بشور، الامين العام السابق للمؤتمر. ويؤمل الا يقتصر عمل المرصد على مراقبة موقف الحكومات والجهات الرسمية وادائها في مجال الاقلمة، بل ان يشمل ايضا اداء الفاعلين غير الحكوميين.
خامسا، بلورة مؤشرات الاقلمة العربية حتى تكون اساسا لتقييم مواقف واداء الحكومات والمنظمات المدنية والاهلية في مجال الاقلمة.
سادسا، تكوين شبكة عربية للتكامل الاقليمي تضم مراكز البحوث والتفكير والثقافة ومعاهد العلم المعنية بمسألة تطوير وتعميق النظام الاقليمي العربي ومؤسسات العمل العربي المشترك بغرض المساهمة في نشر ثقافة التكامل الاقليمي العربي بين المواطنين والخبرات التقنية الضرورية لبناء مشاريع التكامل.
سابعا بناء التحالفات الضرورية من اجل تشكيل هيئة مطلبية ديمقراطية عربية عابرة للاقطار يجتمع فيها مواطنون ومواطنات ينتمون الى شتى الطبقات الاجتماعية والاحزاب العقائدية والجماعات الثقافية للعمل على تعزيز وتفعيل مشاريع الاقلمة وخاصة منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى.
|