المؤتمر القومي العربي
ARAB NATIONAL CONFERENCE
حول العلاقات بين التيارين القومي والإسلامي**
أ. منير شفيق *
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* المنسق العام للمؤتمر القومي - الإسلامي، عضو المؤتمر القومي العربي، كاتب وسياسي
** لا تعبر هذه الورقة بالضرورة عن رأي الأمانة العامة للمؤتمر القومي العربي.
*** لا يجوز نشر هذه الورقة كلاً أو جزءاً إلا بموافقة تحريرية من إدارة المؤتمر.
حول العلاقات بين التيارين القومي والإسلامي
أ. منير شفيق
تنويه
كان من المقرر أن تكون هذه الورقة "حول التجدّد الحضاري"، ولكن إلحاح ما يجري من خلافات وصراعات وانقسام بين تيارات الأمّة القومية والإسلامية والوطنية واليسارية، ولاسيّما بين التيارين الكبيرين القومي والإسلامي، فرض عليها أن تعطي الأولوية في هذه الورقة لموضوع العلاقات بين التيارين القومي – الإسلامي لأهميته الراهنة القصوى، وهو على كل حال جزء من هموم التجدّد الحضاري للأمّة العربية.
أولاً: العلاقة التاريخية بين التيارين القومي والإسلامي
أثبتت التجربة العربية التاريخية المعاصرة، منذ نهاية الحرب العالمية الأولى إلى اليوم، أن اتحاد الشعب وتوافق قواه المناضلة على اختلاف توجهاتها الإسلامية والقومية والوطنية واليسارية، سمحا بالصمود أمام أعتى التحديات، كما أديا إلى انتصارات كلما سمحت موازين القوى.
أ. مرحلة الاستعمار المباشر والاستقلال
لقد تجلّت هذه الموضوعة، البدهية في تجارب النضال الوطني ضدّ الاستعمار المباشر في الصمود وفي الانتصارات، وهو ما أكّدته تجارب الأقطار العربية في مقاومة الاحتلالات والأنظمة العميلة.
أما تجربة مرحلة الاستقلال والنضال ضدّ الاستعمار الجديد والأحلاف العسكرية والمشروع الصهيوني، فقد مرّت بمراحل وحالات متفاوتة، لاسيّما من ناحية توافق تلك القوى السياسية، كما من جهة انقساماتها وما نشأ من صراعات في ما بينها. فقد كان التوافق يسمح بالهجوم والتقدّم، حتى لو كان موضوعياً أو تقاطعاً عند نقطة معينة. أما الانقسامات فقد كانت عامل إضعاف، وأحياناً كانت عامل استنزاف وإرباك شديدين.
ب. المرحلة الناصرية:
إن التفاف الجماهير العربية العريضة مصرياً وعربياً خلف التجربة الناصرية كان يقلّل نسبياً من سلبيات ما كان ينشب من صراعات وتناقضات في ما بينها وبين قوى إسلامية أو قومية أو وطنية قطرية أو يسارية، لكن مع ذلك كانت تلك السلبيات تأخذ مداها في حالات، وأخطرها مرحلة الانفصال بين سورية ومصر في ضرب الوحدة، وكذلك في ما بعد عدوان حزيران/يونيو 1967.
فإلى جانب الانتصارات التي تحقّقت خلال الخمسينيات ضدّ الاستعمار القديم والمعاهدات الاستعمارية والأحلاف العسكرية، وذلك بتحقيق استقلال أغلب الدول العربية وسقوط حلف بغداد، والانتصار على عدوان 1956، وتحرير الجزائر، وما تحقّق من انجازات على صعيد تصفية الإقطاع والتأميمات والعدالة الاجتماعية (نسبياً)، وصولاً إلى الإنجاز الأكبر بتحقيق الوحدة بين مصر وسوريا، كانت هنالك انتكاسات تمثّلت بضرب وحدة مصر وسوريا وتكريس الانفصال إلى يومنا هذا، وكان هنالك ما نشب من صراعات حادة في ما بين القوى القومية نفسها، أو في ما بينها وبين القوى الإسلامية، وقد حدث مثل هذا مع القوى اليسارية.
وبكلمة، بين أيدينا خلال الخمسينيات والستينيات جبل متراكم من الصراعات الداخلية في ما بين القوى التي يفترض التقاؤها في الخندق الواحد، أو اتحادها في الجبهة العريضة، وقد نجم عن ذلك الكثير من السلبيات على مجال التحرّر العربي والوحدة العربية ومواجهة الكيان الصهيوني، كما على مستوى حقوق الإنسان أو الهيبة العامة والسمّعة لتلك القوى.
فقط، هنا يجب أن نتذكّر ما وصلته الانقسامات من ألوان العداء والتشهير والتخوين، وكان كل طرف يحسب نفسه على جانب الصواب واليقين. أما اليوم، وبعد الابتعاد عن تلك الظروف والحالات لا يستطيع أحد أن يفكّر بمثل تلك اليقينية والاطمئنان، بل ذهبت الأغلبية للمراجعة والنقد الذاتي سواء أكان علنياً أمّ داخلياً. بل لا أحد يحب أن يتذكر تلك الصراعات وما كان يقال أو يحدث فيها.
الأمر الذي يوجب ونحن نخوض اليوم انقساماتنا أن نتذكّر ونعتبر.
ج. مرحلة السبعينيات والثمانينيات
أما في السبعينات وفي ظلّ عدوان 1967 ونتائجه باحتلال القدس والضفة الغربية وقطاع غزّة، والجولان وسيناء، وفي ظلّ المقاومة الفلسطينية وحرب تشرين/رمضان 1973، فعلينا أن نتذكّر الصراعات والانقسامات داخل فصائل المقاومة في ما بين اليسار وفتح والعروبيين، أو في ما بين المقاومة وعدد من الدول العربية، وأخطرها الانقسام البعثي – البعثي بين سوريا والعراق.
هنا أيضاً لا بدّ من وقفة وتذكر واعتبار.
وفي الثمانينيات، برغم انتصار الثورة الإسلامية الإيرانية وسقوط شاه إيران الذي أزال صخرة كبيرة عن الصدر العربي والشعب الإيراني، استمرّت صراعات مرحلة السبعينيات وانقساماتها، لاسيّما تفاقمها داخل منظمة التحرير الفلسطينية، كما تفجّرت صراعات حادة جديدة إزاء الحرب العراقية – الإيرانية التي دامت أكثر من ثماني سنوات.
ولكن يجب أن يذكر هنا أهمية المراحل، ولو القصيرة، التي كانت تحدث فيها التقاطعات في ما بين القوى القومية والإسلامية والوطنية واليسارية، مثل حرب تشرين أو انطلاق الانتفاضة الأولى في فلسطين، كما يجب أن يذكر لأواخر الثمانينيات بداية إطلاق مرحلة جديدة لعلاقات تحالفيه بين التيارين القومي والإسلامي. وهذا الأخير أخذ يتعزز ويعود إلى الساحة بقوة مع إرهاصات المقاومتين في لبنان وفلسطين وتشكّل صحوة إسلامية عامة.
ثانياً: مرحلة التسعينيات وعشرية ق 21
أ. ففي الوقت الذي انهار فيه المعسكر الاشتراكي السوفياتي وسبقته الحرب الأمريكية – العالمية العدوانية التي شنّت على العراق، ومن ثمّ الهجوم الأمريكي على العالم لإقامة نظام عالمي أحادي القطبية وتكريس مرحلة جديدة في سيطرة الرأسمالية الإمبريالية العالمية التي حملت اسم العولمة، أي في وقت ما بعد 1990 – 1991، من مرحلة التسعينيات والعشرية الأولى من القرن الواحد والعشرين م، الموافق عشرينيات القرن الخامس عشر الهجري، ففي هذا الوقت وامتداده لعقدين عرفت العلاقات بين التيارين القومي والإسلامي ما يمكن أن يسمى عصرهما الذهبي، وكان من بين تعبيرات ذلك مبادرة مركز دراسات الوحدة العربية في أواخر الثمانينيات لعقد ندوة حوار قومي – إسلامي في القاهرة، ثم مبادرة المؤتمر القومي العربي مع عدد من القوى الإسلامية لتأسيس المؤتمر القومي – الإسلامي، ومن ثمّ انطلاقته ليكون عنواناً معلناً عن التقاء التيارين القومي – الإسلامي. وذلك على مستوى عربي عام، كما على مستوى قطري، وقد توازى معه تشكّل المؤتمر العام للأحزاب العربية الذي وحّد بين التيارين كذلك.
لقد اتخذت العلاقة القومية – الإسلامية ألواناً مختلفة من التنسيق والجبهات تفاوتت من قطر لقطر، وكان أقواها في اليمن، وقد ضمّت الجبهة هناك القوى القومية والإسلامية والوطنية والاشتراكية كذلك، فيما تجلّت العلاقات بين التيارين، على سبيل المثال أيضاً، في الأردن من خلال التنسيق بين الأحزاب القومية والوطنية واليسارية والإخوان المسلمين، وذلك إلى جانب تنسيق ثنائي أو تحالفي ما بين حزب البعث العربي الاشتراكي في سوريا وكل من حزب جبهة العمل (الاخوان المسلمون) في الأردن، وحزب العدالة والتنمية في المغرب.
المهم، وبرغم التفاوت في مستوى التنسيق أو التحالف أو التعاون بين التيارين وفقاً لخصوصية كل قطر، إلاّ أن مواجهة تحديات الهجمة الأمريكية – الصهيونية – العولمية في مرحلتيها الديمقراطية الكلينتونية في التسعينيات، والجمهورية البوشية في 2001 – 2009، قدّ تمّ التصدي لها وإحباطها عموماً من خلال دور فعال وقيادي للتيارين القومي والإسلامي وعبر جبهات ضمت أيضاً وطنيين ويساريين.
ففي مرحلة التسعينيات، وبرغم انتكاسة منظمة التحرير الفلسطينية بانتقالها من مواقع المقاومة إلى إستراتيجية التسوية مع أمريكا والكيان الصهيوني، وتوقيعها لاتفاق أوسلو 1993، وبرغم معاهدة وادي عربة التي أكملت طريق المعاهدة المصرية – الصهيونية في كمب ديفيد (وهذه كلها كانت اختراقات خطيرة في مصلحة أمريكا والكيان الصهيوني، لاسيّما في ما يتعلق بالكيان الصهيوني والعلاقات به)، إلاّ أن تعاون التيارين القومي والإسلامي مع التيارات الوطنية واليسارية أسهم في عرقلة مسار التسوية وأحبط مشروع بيريز – كلنتون لإقامة شرق أوسط جديد عبر تصفية القضية الفلسطينية والاعتراف بالعدو والتطبيع معه والدخول في العولمة (هنا أحبط أيضاً مشروع المؤتمرات الاقتصادية العالمية التي انطلقت في الدار البيضاء من المؤتمر الاقتصادي العالمي المنبثق من دافوس).
يجب أن يسجّل هنا الدور الكبير الذي لعبته المقاومة بقيادة حزب الله لتحرير جنوب لبنان، وقد تكلّل بانتصار دحر الاحتلال بلا قيد أو شرط عام 2000، ويجب كذلك أن يسجّل للمقاومة الفلسطينية حماس والجهاد بإبقاء راية المقاومة ضدّ الاحتلال مرفوعة بالرغم من اتفاق أوسلو ووجود السلطة الفلسطينية التي غرقت في مفاوضات فشلت فشلاً ذريعاً في كمب ديفيد 2. وكانت قد فشلت أيضاً مع نهاية التسعينيات، المفاوضات السورية في جنيف 1999، وقد عاد كلينتون منها إلى البيت الأبيض يضرب كفاً على كف.
صحيح أن ثمّة إنجازات قد تحققت بإحباط مسار التسوية والتطبيع، إلاّ أن هذا المسار حقّق عدّة خطوات خطيرة.
هذا ويجب أن يذكر هنا بأن الفضل في الإنجازات لا يعود للمقاومة والمعارضة والنضالات الشعبية والدور الذي لعبه التياران القومي والإسلامي فحسب، إنما أيضاً أسهم المحور المصري – السوري – السعودي الذي تشكّل خريف 1994 إلى 2001، في الوصول إلى تلك النتيجة الهامة جداً.
ب. أما العشرية الأولى من القرن الواحد والعشرين ميلادي والموافق للعشرية 1420 – 1430 من القرن الخامس عشر هجري، فقد اتسمت بمواجهة الهجمة الأمريكية – الصهيونية العسكرية الأخطر في عهد بوش الابن وشركائه من المحافظين الجدد 2001 – 2009.
فقد عرفت هذه الهجمة حرباً أمريكية احتلت أفغانستان عام 2001، وهجوماً شارونياً لاحتلال مناطق (أ) في الضفة الغربية والقطاع 2002، وحرباً أمريكية – دولية احتلت العراق 2003، ثمّ حرباً صهيونية مدعومة أمريكياً علناً ضدّ حزب الله 2006 في لبنان، وأخرى ضدّ حماس في قطاع غزّة 2008 – 2009 (طبعاً الحربان استهدفتا كل لبنان وكل قطاع غزّة بكل ما فيهما من مقاومات وممانعات وتيارات قومية وإسلامية ووطنية ويسارية).
كما حملت الهجمة أيضاً ضغوطاً سياسية مشفوعة بالتهديد والوعيد على كل الدول العربية بما في ذلك تلك التي خضعت سريعاً وشكّلت ما سمي بمحور الاعتدال العربي، فالهجمة بالرغم من ذلك الخضوع السياسي، واصلت الضغوط عليها (دول الاعتدال العربي) لتغيير مناهجها الإعلامية والسيطرة على مؤسساتها الخيرية والمدنية وتغيير طبيعة جيوشها والوقوف العلني إلى جانب العدوان الصهيوني ضدّ المقاومتين في لبنان وقطاع غزّة، والسكوت إن لم يكن التواطؤ على غزو العراق واحتلاله.
وقد تعاظمت هذه الضغوط بعد احتلال العراق على كل من سوريا التي صمدت في وجهها، وعلى ليبيا واليمن حيث تراجعا أمام هذه الضغوط إلى حدّ بعيد، فضلاً عن الضغوط التي تعرض لها السودان، وأدّت إلى انفصال جنوبه وتهديده بالمزيد من التجزئة.
لكن في المقابل تشكّل محور المقاومة والممانعة وجبهات معارضة عريضة للتصدي لهذه الهجمة على مستوييها العسكري والسياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، وكان للتيارين القومي والإسلامي على مستوى دول ومقاومات وحركات معارضة ومؤتمرات دور حاسم ليس في التصدي والصمود في مواجهة هذه الهجمة الأمريكية – الصهيونية، فحسب، وإنما أيضاً في تحقيق انتصارات وإنجازات، ويكفي أن يذكر هنا الدور الذي لعبته المقاومة العراقية في التصدي للاحتلال الأمريكي العسكري، والدور الذي لعبته الانتفاضة والمقاومة الفلسطينية 2000 – 2005، ثم على مستوى أعلى انتصار المقاومة في حرب تموز 2006 في لبنان، وانتصار المقاومة 2008 – 2009 في قطاع غزّة، وكان الانتصاران الأخيران في الميدان العسكري كما في الميدان السياسي.
وإن هذه المقاومات وجدت دعماً واسعاً من التيارات المتحالفة أو المتعاونة أو المتقاطعة القومية والإسلامية والوطنية واليسارية والنقابية والهيئات الشعبية على طول البلاد العربية والإسلامية وعرضها، وكذلك من رأي عام عالمي أخذ يتشكّل ضدّ السياسات الأمريكية – الصهيونية.
ثالثاً: حول موازين القوى
لقد كانت المحصلة لهذه العشرية الأولى من القرن الواحد والعشرين تغييراً عميقاً في ميزان القوى الفلسطيني – العربي – الإسلامي، في غير مصلحة أمريكا والكيان الصهيوني، فبدلاً من أن يبنى شرق أوسط جديد على قياس المحافظين الجدد الصهاينة، أخذ يتشكّل وضع عربي وإسلامي جديد مالت موازين القوى الإقليمية لأول مرة منذ الحرب العالمية الأولى في مصلحته.
لا بدّ من أن يضاف أيضاً، بسرعة هنا، أن مع نهاية هذه العشرية ضربت أزمة مالية زلزالية الاقتصاد الأمريكي – الأوروبي، وأسقطت ما خططت له عولمة التسعينيات، كما استعادت روسيا عافيتها كدولة كبرى وأخذت الصين التي عزّزت قواتها العسكرية وقدراتها التقنية تتحوّل إلى أكبر دولة تجارية، وكذلك الحال برزت دول إقليمية هامة، لاسيّما الهند والبرازيل وإيران وتركيا وجنوب إفريقيا، وقد شكّل بعضها نواة جبهة البريسك ومجموعة شنغهاي لاحقاً.
هذا وإلى جانب ذلك كله صمدت مجموعة من الدول المستقلّة أو المتحرّرة في وجه أمريكا مثل فنزويلا وبوليفيا وكوبا وعدد من دول أمريكا اللاتينية.
وباختصار: التغيير الكبير في ميزان القوى لم يكن في منطقتنا فحسب، وإنما أيضاً على مستوى عالمي، وقد جاء في غير مصلحة أمريكا والكيان الصهيوني، كما في غير مصلحة أوروبا، وفي غير مصلحة محور الاعتدال العربي الذي راهن على انتصار مشروع المحافظين الجدد ضد المقاومات والممانعات والمعارضات في البلاد العربية وصولاً إلى ضرب إيران وتطويع روسيا والصين وإنهاء أمر الدول المتحرّرة من أمريكا اللاتينية.
هذه المعادلة لميزان القوى وما حققته المقاومات من انتصارات سمحتا مع نضوج للوضع الداخلي (شيخوخة الأنظمة وانهيارات رهاناتها على أمريكا)، أن تطلّ العشرية الثانية بانتصارين عظيمين حققتهما الثورتان الشبابيتان الشعبيتان في تونس ومصر، وقد تشكّل مناخ شعبي ثوري عارم من المحيط إلى الخليج، وقد راحت ارتداداته إيجاباً وسلباً، تتفاوت في سماتها من قطر إلى قطر، لاسيّما في ليبيا واليمن والبحرين وسوريا، وبقية البلاد العربية، كما تفاوتت ارتداداته، إيجاباً وسلباً، على المرحلة الانتقالية في كل من تونس ومصر وليبيا واليمن حيث واجهت تلك الأقطار الصراعات حول إشكالات بناء أنظمتها البديلة أو الجديدة.
إلى هنا يجب أن نعود فوراً إلى الموضوع الأساسي لهذه الورقة وهو العلاقة بين التيارين القومي والإسلامي خصوصاً، والعلاقة في ما بين القوى الإسلامية والقومية والوطنية واليسارية عموماً، وذلك مع الأخذ في الاعتبار دروس المراحل التاريخية التي مرّت بها تلك العلاقات.
رابعاً: بين مشهدين
لقد بقي المشهد الرائع لتعاون التيارين القومي والإسلامي والوطني واليساري، وبمختلف فصائل أو أحزاب كل تيار، سائداً في العقدين الأخيرين، ثم استمر، بروعة، في الثورتين التونسية والمصرية حتى انتصارهما، وكان من عوامل الانتصار بلا شكّ، ولكن ما أن دخلتا المرحلة الانتقالية وحتى هذه اللحظات غاب ذاك المشهد ليحلّ مكانه مشهد مروّع من الصراع والانقسامات في ما بين قوى تنتسب للتيارين الإسلامي والقومي، وكذلك في ما بين قوى صنعت الانتصار في الميادين والشوارع.
ومضى هذا المشهد الجديد الذي عرفته السنوات الثلاث الماضية في تكريس الانقسامات والصراعات الحادة في أغلب البلاد العربية، وخصوصاً في ليبيا والبحرين واليمن وسوريا والعراق ولبنان، وسار بموازاته تدهور نسبي في العلاقات في ما بين دول عربية وإسلامية مثل تركيا وسوريا وإيران وقطر، كانت في العشرية السابقة تتسم علاقاتها بالإيجابية والعلاقات التعاونية الوثيقة في مجالات السياسة والاقتصاد.
وبسرعة، يمكن القول أن المشهد الثاني يدعو إلى التشاؤم لولا ما حدث من تغيرات في ميزان القوى العالمي والإسلامي والعربي في غير مصلحة أمريكا والكيان الصهيوني، ولولا التدهور البنيوي الأمريكي – الصهيوني، الأمر الذي يسمح للتفاؤل بأن يفرض نفسه في مدى متوسط من السنين إن لم يكن في مدى قريب.
ما يهمنا أن نركّز عليه الآن هو العلاقات التي تصدّعت بين التيارين القومي والإسلامي، هذه العلاقات التي سهر على تعزيزها في العقدين الماضيين المؤتمر القومي العربي بالتعاون مع شقيقيه المؤتمر العام للأحزاب العربية والمؤتمر القومي – الإسلامي.
خامساً: في الحوار بين التيارين القومي والإسلامي
بغضّ النظر عن الأسباب الموضوعية والذاتية الداخلية والعربية والإسلامية التي أدّت إلى ما نشهده من انقسامات وصراعات حادة على مستوى كل قطر وعلى مستوى عام، وبغضّ النظر عن الأحكام والتفاصيل التي تحملها القوى المعنية في توصيف هذا المشهد وقراءته، وما يمكن أن يحمّله كل طرف من مسؤولية في تدهور العلاقات إلى الطرف الآخر في كل قطر، وبغضّ النظر عن خصوصية الانقسامات والصراعات في كل قطر وعن أسبابها والصيرورة التي اتخذتها، يجب أن يظلّ الجواب هو ضرورة العودة إلى الحوار من أجل وقف مسار التدهور إلى ما هو أسوأ أولاً، ثمّ ثانياً من أجل استعادة التفاهم والتنسيق حتى التحالف إن أمكن ما بين القوى المعنية الإسلامية والقومية على المستوى العام بداية ثمّ على مستوى كل قطر، بما يضم معه اليوم، أو لاحقاً، القوى الوطنية واليسارية والشبابية (أصبح من الضروري اعتبارها طرفاً وقوى سياسية قائمة بذاتها).
إن فرض هذا الجواب ليس انطلاقاً من أيديولوجية أو رغبات، وإنما اعتماداً على تجارب المراحل التاريخية التي مرّت بها تلك القوى وهي مؤتلفة أو متقاطعة كما وهي مختلفة ومتصادمة. فالانتصارات الكبرى حين كانت الظروف وموازين القوى مؤاتية (يمكن اختراقها)، كما حالات الصمود العظيمة في ظلّ ظروف وموازين قوى غير المؤاتية (في الأغلب، في الماضي) كانت تتحقق من خلال وحدة الشعب أو أغلبية الكتلة التاريخية، وفي المقدّمة التقاء القوى القومية والإسلامية موضوعياً إن لم يكن مؤطراً بفعل وعي وإرادة.
وفي المقابل كانت السلبيات ونقاط الضعف والانتكاسات تتفاقم في ظلّ الانقسامات والصراعات في ما بين قوى حركة التحرّر العربي داخل التيار الواحد، كما بين التيارين الكبيرين في الأمّة: القومي والإسلامي.
من هنا جاء فرض الجواب أعلاه وهو ضرورة العودة إلى الحوار بين التيارين، لكن الأمر هنا يتطلب أن يراعي ما يلي:
1. ونحن نشدّد على أهمية الوحدة بين التيارين وأثرها في نتائج الصراعات الكبرى التي خاضتها وتخوضها الأمّة العربية ما ينبغي لأحد أن يفهم أننا نحصر الانتصارات والتقدّم أو النكسات والتراجع في العامل الذاتي مسقطين الدور الأكبر لموازين القوى والظروف والمناخات السائدة داخلياً وعربياً وإقليمياً وعالمياً، ومن ثمّ مدى هبوب رياحها في هذا الاتجاه أو ذاك.
2. لا بدّ من أن نقتنع أن وحدة القوة السياسية الممثلة للكتلة التاريخية للأمّة، وأساساً القوى القومية والإسلامية تشكّل حاجة قصوى وشرطاً ضرورياً لمعالجة كل ما أخذ يبرز من تحديات، أو يُفتح من آفاق لتحقيق الأهداف، وهذا بدوره يفرض بأن يتأكّد كل تيار أو حزب أو قوة أنه بمفرده لا يستطيع أن يواجه التحديات أو يحقق الأهداف.
3. إن الحوار لا يعني لفلفة الخلافات وعدم دفاع كل طرف عن خطه السياسي والاقتصادي وبرنامجه، ولا يعني الانتقال إلى التوافق من جديد عبر الضغوط أو المخاجلة، فالمطلوب أولاً أن يتوفر الاستعداد وتتوفر القناعة بضرورة الحوار بهدف الوصول إلى توافق أو في الأقل بهدف وضع سقف يُتفق عليه لتنظيم التنافس والصراع، ومن ثمّ ثانياً لتُفتح القلوب للنقد أو العتاب أو النقاش الجاد، فكيف يمكن الا يرتكز الحوار على ما هنالك من خلاف، فالخلافات تموج وتتصاعد في الشارع وفي العلن وفي كل أشكال التعبير.
4. لا بدّ من أن تتشكّل إلى جانب ذلك قناعة بأن ترك الصراع يمضي بلا ضوابط، لاسيّما في مصر وتونس، قد يتدهور إلى ما لا تُحمد عقباه، كما إذا تُرك الصراع في سوريا يتفاقم بلا انتقال به إلى الحوار والتسوية، فإن سوريا كلها ستواجه أضعاف ما حدث حتى الآن من دمار وتهجير وقتلى وجرحى ومآس إنسانية (دائماً هنالك ما هو أسوأ)، هذا وأن عدم وضع حدّ لما تواجهه ليبيا من صدامات ولجوء إلى السلاح أو ما تواجهه اليمن من مخاطر التقسيم، وما تواجهه البحرين من انقسام طائفي وهدر لحقوق الإنسان، كما ما تواجهه بقية الدول العربية من احتمالات الانفجارات والثورات والانقسامات المختلفة، فالعراق على شفا حرب أهلية إن لم يُستبَعد اللجوء إلى السلاح تماماً من جانب المعارضة، ومهما تكن الأسباب، كما يجب أن يُستبعد الحلّ الأمني تماماً من جانب الحكومة مهما أوردت من أسباب، وإلاّ سقط العراق في حرب أهلية لا تحل بالسلاح، وذلك مع ضرورة الحرص أيضاً على عدم تحويل الصراع السياسي إلى صراع طائفي أو اللجوء إلى تقسيم العراق والتخلي عنه وعن وحدته ووحدة كل مكوناته.
هذا وليست الأقطار العربية التي لم تذكر بمنأى عن احتمالات المخاطر والثورات والانفجارات. وأخيراً في هذا الصدد، يجب التنبه من خطورة مختلف الاتجاهات المتطرفة التي تدفع إلى الحروب الأهلية أو شبه الحروب الأهلية.
5. إن الضفة الغربية على أعتاب الانتفاضة الثالثة، ولهذا مؤشرات كثيرة، وستكون بحاجة ماسة إلى مساندة جماهيرية ودعم عربي وإسلامي ورأي عالمي لكي تنتصر في تحقيق أهدافها في دحر الاحتلال وتفكيك المستوطنات واستنقاذ القدس وإطلاق كل الأسرى، بلا قيد أو شرط.
بل يمكن التأكيد من خلال الدراسة الدقيقة لموازين القوى وما يعانيه الكيان الصهيوني وأمريكا والغرب عموماً، من تدهور ومآزق ونقاط ضعف بأن انتفاضة مصممة حازمة لا تساوم في ظلّ وحدة وطنية فلسطينية ستفرض على العدو هزيمة محققة إنشاء الله.
6. يجب إعادة الاعتبار للعلاقة التبادلية التكاملية بين استراتيجية تحرير فلسطين واعتبار قضية فلسطين القضية المركزية، وبين استراتيجية تغيير الأوضاع العربية وتحرير إرادتها وتحقيق تضامنها ووحدتها لتتكامل مع الاستراتيجية الأولى لتحرير فلسطين. فلا اعتبار القضية الفلسطينية قضية مركزية يجب أن يشغل الجماهير عن أحداث التغيير الثوري في بلادها ولا الانشغال في أحداث التغيير الثوري يجب أن يشغلها عن دعم الشعب الفلسطيني ومقاومته وانتفاضاته أو تشغلها عن التصدي للمخططات الصهيونية، وبكلمة نحن أمام علاقة تبادل وتكامل، ولهذا يجب للتغيير العربي الثوري أن يأخذ وقته بعيداً عن التعجل والمزايدات وسؤ تقدير الموقف.
7. إن ما تحقق من اختلال في ميزان القوى العربي والإسلامي والعالمي في غير مصلحة أمريكا والكيان الصهيوني ما زال قائماً بالرغم مما وقع من انقسامات وصراعات ونشأ من سلبيات خلال الثلاث سنوات الماضية، ولاسيّما في هذه الأيام.
الأمر الذي يجعل هذه الانقسامات والصراعات تتم في ما بين أقوياء، فجميع التيارات الحيّة في الأمّة أصبحت أقوى وأشدّ حيوية واندفاعاً، فالشوارع أصبحت تعجّ بالحشود وبالاحتجاجات. وهذا كله غير ما كان يحصل في الماضي حين كانت الانقسامات تحدث في ظلّ الهيمنة الأمريكية والتفوّق العسكري الصهيوني وغطرسته، أو في ظلّ أنظمة قمعية وتابعة.
فعلى سبيل المثال، إن الصراع على "السلطة" أو الصراع في صوغ الدساتير ونوع النظام، أو الصراع على "الغنائم" أو على "النفوذ والقيادة" هو اليوم صراع بين أقوياء، وهذا ما يزيد من جهة صعوبة الحوار وإيجاد التوافق وبناء الوحدة (أو حتى الوساطة)، ولكنه يسمح في المقابل بأن تفتح إمكانات واسعة لحسن اقتسام "السلطة" و "الغنائم"، أو تحديد موقع كل قوة وطرف في التحالفات بما يعود كسباً على جميع الأطراف السياسية وعلى الأمّة وعلى تحقيق أهداف الحرية والاستقلال والوحدة والعدالة الاجتماعية وتحرير فلسطين ونهضة الأمّة.
خلاصة
إن كلّ ما تقدّم في هذه الورقة يحث التيارين القومي والإسلامي (والتيارات الوطنية واليسارية) على التوافق لكي يلعب التياران الكبيران في الأمّة، الإسلامي والقومي، دورهما على مختلف الأصعدة والأقطار للمساهمة بداية في وقف التدهور أو تفاقم الانقسامات ثم الانتقال إلى تحقيق أهداف شعوبنا وأمّتنا.
وهنا لا بدّ لمصر حيث ينعقد المؤتمر القومي العربي في كنفها الرحب من أن تكون هي الأوّلى بأن يصحح الوضع فيها من خلال تصحيح التيارين القومي والإسلامي لعلاقاتهما ببعضهما كما ببقية القوى، لاسيّما الجيش، وذلك لتلعب مصر دورها القيادي في تصحيح الوضع العربي كما العلاقات العربية – الإيرانية، والعلاقات العربية – التركية، والتصدي للتحديات المختلفة، بما فيها التحدي الصهيوني الذي يهدّد باستيطان الضفة وتهويد القدس، واقتسام المسجد الأقصى وتنكّيل بالأسرى.
وإذا ما تمّ ذلك وامتدت مروحة التحالفات القومية والإسلامية لتشمل البلدان العربية والإسلامية، فإن موازين القوى والظروف الإقليمية والدولية تسمح للعرب والمسلمين بإحداث قفزة كبرى بالنسبة إلى مكانتهما العالمية.
وكلمة أخيرة: هل سنتعلم كيف نتنازل لبعضنا بعضاً لنكسب جميعاً وتكسب الأمّة وتكسب فلسطين.
والله الموفق
|