المؤتمر القومي العربي
ARAB NATIONAL CONFERENCE
المؤتمر الخامس والعشرون التوزيع: محدود
20 – 21 حزيران/يونيو 2014 الرقم: م ق ع 25/وثائق 6
بيروت - لبنان التاريخ: 20/6/2014
في الاستقلال الوطني والقومي **
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* نائب الأمين العام للمؤتمر القومي العربي.
** لا تعبر هذه الورقة بالضرورة عن رأي الأمانة العامة للمؤتمر القومي العربي.
*** لا يجوز نشر هذه الورقة كلاً أو جزءاً إلا بموافقة تحريرية من إدارة المؤتمر.
في الاستقلال الوطني والقومي
د. يوسف مكي
تمهيد:
تلتزم هذه الورقة، بمفهوم الاستقلال الوطني والقومي، الذي تبناه مركز دراسات الوحدة العربية، كأحد العناصر الستة للمشروع النهضوي العربي. ونعني به الانجاز الكامل للاستقلال الوطني والقومي، بما يعنيه، من قدرة الأمة في الهيمنة على ثرواتها ومقدراتها، وسيادتها على كل أراضيها، ورفض التبعية للخارج بكافة أشكالها وصورها. ولا شك أن تحقيق ذلك، هو رهن بتحرير الأرض العربية، وعلى رأسها فلسطين، وهزيمة المشروع الصهيوني، وخلو البلدان العربية من الوجود العسكري الأجنبي، وإنهاء الهيمنة الاقتصادية والسياسية والثقافية، وشيوع ثقافة المقاومة.
خلال العام، الذي مضى، منذ انعقاد دورة المؤتمر القومي العربي، السابقة في أرض الكنانة، حتى يومنا هذا جرت أحداث كثيرة، في عدد من الأقطار العربية، أشاعت شيئا من التفاؤل بأن الأمة تتجه نحو الإمساك بزمام مقاديرها، رغم قتامة المشهد ووعورة الدرب. وتزامنت محاولات الانعتاق هذه، باشتداد الهجمة الصهيونية والإمبريالية والرجعية على المنطقة، والعمل على إجهاض تلك المحاولات. كما شهد العام، تحولات رئيسية، في السياسة الدولية، أنهت حقبة الأحادية القطبية، بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية، التي استمرت قرابة ثلاثة عقود، بما يتيح لدول العالم الثالث، ومن ضمنه الوطن العربي، حق اختيار المناهج والطرق السياسية والاقتصادية التي تؤمن مصالحها، وتصون سيادتها..
نحاول في هذه الورقة، تقديم رصد، وقراءة سريعة، للأحداث التي شهدتها الأمة العربية، والتحولات الإقليمية والدولية، ذات العلاقة المباشرة بمستقبل الأمة، وتحليلها واستخلاص النتائج منها، على أمل أن تشكل هذه القراءة إضافة وإن تكن متواضعة، على طريق تعزيز الوعي، والتنبه للمخاطر التي تحدق بالأمة، وبمحفزات نهوضها وتقدمها.
القضية الفلسطينية:
شهد هذا العام، تحركا أمريكيا محموما، تجاه تسوية القضية الفلسطينية، اتساقا مع مزاج إدارة الرئيس أوباما، في إغلاق الملفات الساخنة، والتوجه نحو ملفات أخرى. وقد أنيطت مهمة التسوية لوزير الخارجية الأمريكي، جون كيري الذي تمكن من انتزاع قبول الرئيس الفلسطيني، أبو مازن بالدخول في المفاوضات، والتخلي عن مطلبه السابق بتجميد بناء المستوطنات، كشرط لاستمرار المفاوضات مع الصهاينة.
تعامل كيري مباشرة مع القضايا التي تسببت في تعطيل الحل السياسي، وعلى رأسها حق العودة، والمستوطنات، وعروبة القدس. المشروع الذي اقترحه للتسوية ليس حلا نهائيا، بل فترة اختبار، تستمر عشرين عاما، تبدأ مع انقضائها المرحلة النهائية. وستستند على قيام دولة فلسطينية منزوعة السلاح وناقصة السيادة فوق الأراضي التي احتلتها إسرائيل عام 1967. وحل قضية اللاجئين الفلسطينيين، بالتعويض والتوطين خارج فلسطين، واستيعاب عدد محدود منهم بالدولة الفلسطينية المستقلة. ويتطلب ذلك تسوية أوضاع الفلسطينيين في المخيمات بالأردن ولبنان وسوريا. وينتظر أن يتبنى المجتمع الدولي، دمج اللاجئين في المجتمعات التي يقيمون فيها، وتجنيسهم، واعتبارهم مواطنين بالبلدان التي يقيمون فيها.
ورغم كل التنازلات التي قدمتها السلطة الفلسطينية، فإنها فشلت في التوصل إلى تسوية سياسية، مع العدو الصهيوني. وقد دفع ذلك الفشل، بوزير الخارجية الأمريكي للمطالبة بتمديد المفاوضات. ويأتي هذا الفشل، ليؤكد أن التخلي عن المقاومة والكفاح المسلح، لن يؤديا بأي شكل من الأشكال، إلى تحقيق صبوات الشعب الفلسطيني في الحرية واستعادة الأرض وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، حتى ضمن الحدود الدنيا، التي قبلت بها منظمة التحرير الفلسطينية، والمتمثلة في إقامة دولة فلسطينية مستقلة، على ما لا يتجاوز خمس مساحة فلسطين التاريخية.
********
أمام تراجع دور المقاومة الفلسطينية، وتخاذل النظام العربي الرسمي، صعد المفاوض الصهيوني من مطالبه، لتشمل التنكر لحق اللاجئين الفلسطينيين بالعودة إلى ديارهم، بل ومطالبة السلطة بالاعتراف بيهودية الكيان الغاصب، بما يعني تعبيد الطريق لطرد الفلسطينيين، الذين تمسكوا بأرضهم، وقبلوا بالعيش تحت وطأة احتلال عنصري غاشم، والذين سيكونون تحت طائلة يهودية دولة الكيان الغاصب، ووفقا لقوانينه غرباء في أرضهم، وتحت طائلة التهديد المستمر باقتلاعهم من وطنهم.
وبالمثل، عمل العدو على ترسيخ وجوده بالضفة الغربية والمدينة المقدسة، من خلال التوسع الكبير في بناء المستوطنات، ومطالبة السلطة بالقبول بمبدأ تبادل الأراضي، بما يعني استبدال الأراضي التي تقع عليها المستوطنات، بأراض أخرى في صحراء النقب. والقبول بالمطلب الصهيوني هذا، لن يكون له معنى، سوى قتل الذاكرة الفلسطينية، واعتبار ذلك مقدمة لتنفيذ المشروع الصهيوني المعروف بالوطن البديل.
وفي سياق نهجه التوسعي، واصل العدو الصهيوني، تهويد المدينة المقدسة، متوسعا في بناء المستوطنات، وقضم المزيد من أراضيها. وتقدم النائب في الكنيست الإسرائيلي، يدعى موشى فيغلين، باقتراح سحب الوصاية الأردنية عن المسجد الأقصى، وإخضاعه لسيادة دولة الاحتلال. والهدف الرئيس من ذلك، هو تهويد مدينة القدس، والقضاء على هويتها العربية، وعناصر ومقومات، من شأنها تثبيت فكرة الدولة الفلسطينية المستقلة، على الأراضي التي احتلها الصهاينة في حرب يونيو/ حزيران.
وقد جاءت هذه الخطوة بعد اقتحامات متكررة من زعماء العصابات الصهيونية للحرم القدسي، بدأت منذ تم احتلال المدينة المقدسة في حرب يونيو/ حزيران عام 1967م، وتواصلت حتى يومنا هذا. وقد تزامن اقتراح، فيغلين بمطالبات من قبل المتطرفين الصهاينة، بتأمين وصول المصلين اليهود إلى جبل الهيكل.
ولا شك أن استمرار الأراضي الفلسطينية، تحت وطأة الاحتلال، هو الوجه الأخر، للعجز العربي، عن التصدي للمشاكل والأزمات التي تواجهها الأمة، ومن ضمنها عجزها عن لجم النزعات التوسعية، والتدخلات الخارجية في شئون الوطن العربي. ومادام العرب عاجزون عن الفعل، وفرض احترام المجتمع الدولي للقرارات التي تصدرها مؤسساته، بما فيها القرارات المتعلقة برفض الاحتلال الصهيوني للأراضي العربية، فإن الكيان الغاصب، سيواصل تمسكه بحيازة الأرض العربية، وستفشل كل المبادرات، لتسوية عادلة للقضية الفلسطينية، لأن توازنات القوة العربية الراهنة، لا تتيح تحقيق ذلك.
فالمطالب الأخيرة، بتجريد الأردن من الوصاية على المدينة المقدسة، تتزامن بتصعيد كبير في انتهاكات الصهاينة لحقوق الشعب الفلسطيني، والحديث مجددا، عن يهودية الكيان الغاصب والعودة لمشروع الوطن البديل، ودمج الضفة الغربية بالأردن، لتكون معبرا للتسلل الصهيوني الاقتصادي والسياسي لبقية أنحاء الوطن العربي.
والأنكى من ذلك كله، أن الغضب الشعبي والرسمي العربي تجاه نزعات التوسع، لم ترقى لمتطلبات ردع العدوان. فمجلس النواب الأردني اكتفى بقرار غير ملزم طالب بطرد السفير الإسرائيلي احتجاجا على هذه الخطوة، والدعوة لاجتماع عاجل لجامعة الدول العربية، لمناقشة الانتهاكات الإسرائيلية بالأراضي الفلسطينية المحتلة. وإلى هنا تنتهي الأمور عربيا، وتعود الأمور إلى سابقها.
*******
هذه الصورة القاتمة من المشهد الفلسطيني، يقابلها مشهد آخر، هو عودة اللحمة بين الضفة الغربية وقطاع غزة، وإعلان حكومة فلسطينية، موحدة للشطرين. فقد فرضت العزلة التي عانت منها حركة حماس، بعد سقوط حكم جماعة الإخوان في مصر، وفشل السلطة الفلسطينية، برام الله بقيادة الرئيس أبو مازن في تحقيق أية خطوة عملية، من خلال التسوية السياسية مع الكيان الصهيوني، باتجاه الاعتراف بالدولة الفلسطينية المستقلة، على الجانبين، العودة إلى وحدة الضفة والقطاع، كسبيل لتجاوز أزمتيهما.
بمعنى آخر، إن تحقيق الوحدة الفلسطينية، لم يكن استجابة لمطلب استراتيجي، بل ضرورة تكتيكية، فرضتها طبيعية الظروف التي مرت بها سلطتا الضفة والقطاع. إن نجاح تجربة الوحدة هو رهن للانتقال بها، من المطلب التكتيكي إلى الضرورة الاستراتيجية. وذلك يقتضي تحقيق الاندماج الكامل بين الشطرين، وفك الهياكل التي جسدت حالة الانفصال، وإعادة تركيبها، بما يتسق مع الحالة الوحدوية الجديدة.
أرض الكنانة:
لم تمض سوى فترة قصيرة، على انعقاد دورة المؤتمر القومي العربي بالقاهرة، وبعد ما يقرب من عام على صدور نتائج الانتخابات الرئاسية في مصر المحروسة، إلا وصفحة حكم الإخوان المسلمين، تطوى بطريقة لم يتوقعها أحد. لقد استغرقت رحلة الإخوان للوصول للسلطة قرابة خمسة وثمانين عاما، منذ تأسست حركتهم. وحين بلغوا مأربهم وتسلموا السلطة، لم يتمكنوا من الاحتفاظ بها لأكثر من عام.
ورثت جماعة الإخوان المسلمين، عن النظام السابق تركة ثقيلة من أزمات اقتصادية وسياسية واجتماعية وفساد عم معظم مرافق الدولة وأجهزتها، وانفلات أمني عم معظم المحافظات بعد انتفاضة 25 يناير عام 2011، وبطالة تتفاقم كل يوم، ونقص في المواد الغذائية والسلع الاستهلالية، وتضخم كبير في الأسعار.
وبدلا من التحالف مع القوى التي شاركت في الثورة، وأوصلت الإخوان إلى السلطة، تصرفوا بطريقة مخالفة لأبسط قواعد المنطق. لقد عملوا على السيطرة على السلطات الثلاث: التنفيذية والتشريعية والقضائية. وسطروا دستورا جديد للبلاد على مقاسهم. وطيلة الفترة القصيرة التي سيطروا فيها على الحكم، ظلوا مسكونين بهواجس الخوف من فقدان سلطة انتظروا اقتناصها طويلا، وكانت الخشية من ضياعها، هي عقب إيخل الذي تسبب في الثورة عليهم، وفقدانهم لصولجان الحكم، في مصر، لأمد يبدو غير منظور، وربما للأبد.
تصرف الرئيس مرسي، كعضو بجماعة الإخوان المسلمين، وليس كرئيس لكل المصريين. وجرى الاستيلاء على جميع أجهزة الدولة، وسارعت قيادات الإخوان في أخونة الدولة، معتبرة مصر غنيمة، لا ينبغي التفريط فيها. فتمت إلى حد كبير، أخونة الجيش والاستخبارات، وبقية الأجهزة الأمنية، وجرى هجوم إعلامي مكثف، على القضاء، انتهت بالاعتداء عليه. وبدأ التعرض، من قبل بعض العناصر المحسوبة على الإخوان، بأسلوب بذئ وغير متسق مع الثقافة الإسلامية والعربية، على المبدعين والفنانين، وشمل القدح أعراض الناس وشرفهم. وتزامن ذلك مع تسعير طائفي ومذهبي وديني، انتهى بالقتل والسحل على الهوية. ولم يسلم الإعلاميون، ولا الصحافة والفضائيات من هذه الهجمة.
وضاعف من الأزمة، فقدان الكرامة الإنسانية، وتعطل محطات وقود السيارات، بسبب انعدام السولار. ومع تصاعد أزمة الانفلات الأمني تراجعت السياحة، ومعها انخفضت العملة المصرية، وتفاقمت أزمة السكن، وكبرت معاناة العوائل المصرية البسيطة. وخرج المصريون مجددا إلى الميادين، طلبا للحل.
وعلى صعيد السياسة الخارجية، تراجع دور المصري، العربي والدولي. وفيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، قضية العرب المركزية، تكشف للجميع أن الشعارات التي رفعها الإخوان أثناء وجودهم خارج السلطة، لم تكن تعني شيئا. فالشعار الذي تعودوا الهتاف به تجاه الكيان الصهيوني، والذي يعد بالقضاء على اليهود، وبأن جيش محمد سيعود، انتهى برسالة من رئيس الجمهورية، محمد مرسي إلى رئيس الكيان العبري شمعون بيريز يصفه فيها بالصديق الوفي. وأكدت حكومته تمسكها بمعاهدة كامب ديفيد وبالتطبيع مع "إسرائيل".
وإثر حرب غزة، غدت الحكومة المصرية وسيطا بين حركة حماس الفلسطينية، والكيان الصهيوني. وتعهد الرئيس المصري، برعاية وقت إطلاق النار بين الفلسطينيين والإسرائيليين. وتبخرت كل شعارات الماضي.
ما حدث في الثلاثين من يونيو من خروج شعب مصر هو تعبير عن غضب لم يكن بالإمكان تداركه، بعد الفشل في معالجة الأزمات المتراكمة، التي أودت بموقع مصر ومكانتها. وهو استعادة مصر لهويتها العربية، ولدورها التاريخي.
*********
في مواجهة الأزمات الكبرى التي تمر بها الأمم، تطرح العلوم السياسية جملة من المعالجات، منها ما هو جذري، ويأخذ شكل إلغاء الهياكل والأدوات القديمة، وهو ما يطلق عليه بالتحول الثوري، ومنها ما هو تدرجي، يعمل على تطوير الهياكل والأدوات القديمة. وتدعى هذه المعالجات إصلاحاً.
في المعالجة الثورية، يتم التوجه مباشرة نحو نواة الجوزة، ويجري تحييد أغلفة النواة، والحل هنا لا يبني على التراكم. أما في المعالجة الإصلاحية، فإنها ترى في الأزمة كتلة هائلة ومعقدة، ليس بالإمكان التعامل مباشرة مع جوهرها. بل ينبغي العمل على تقليص حجم الكتلة، من محيطها الخارجي ابتداء بالقشرة، إلى ما يليها في العمق، في عمل طويل ودءوب، بهدف بلوغ نواة الكتلة.
في حالة مصر، هناك عوامل، لن يكون بالمقدور تجاهلها، أدت إلى اختيار المصريين، وإن بنسب مختلفة، حل الإصلاح واختيار التغيير التراكمي بديلاً عن الانتقال النوعي.
في انتفاضة الخامس والعشرين من يناير عام 2011، اختزل شعار إسقاط النظام في رأس هرم الدولة، وتحديداً في شخص رئيس الجمهورية، مع أن الهتاف المدوي عبر عن إرادة شعبية في إسقاط النظام، بالمعنى الشامل. ولا شك في أن انحياز الجيش، الذي هو جزء أساسي وحيوي في تركيبة النظام، للحراك الشعبي قد اختزل هذا الحراك، في مطلب تنحي الرئيس عن سدة الحكم.
والنتيجة، أن مرحلة ما بعد 25 يناير أصبحت تدار بقوانين ولوائح وآليات ودستور، كان تغييرها من الأهداف الرئيسية للثائرين. ولا شك أن انحياز الجيش المصري، تجاه الحراك الشعبي في يناير 2011 قد أدى إلى تمكينه من قيادة المرحلة الانتقالية، التي أعقبت تنحي الرئيس مبارك، وتوليه الإشراف على الانتخابات النيابية ومجلس الشورى، والانتخابات الرئاسية. وليتقاسم لاحقاً السلطة مع المؤسسة المدنية، التي غنمها الإخوان المسلمون، في ظل غياب حركة سياسية فاعلة، تسبب فيه تجريف للحركة السياسية من قبل “النظام السابق”، واستمر لعقود عدة.
انتفض شعب مصر، ومرة أخرى انحاز الجيش للحراك الشعبي، المطالب بخلع الرئيس محمد مرسي، عن كرسي الرئاسة، وإنهاء حكم الإخوان المسلمين. وكانت النتيجة، سقوط حكم الإخوان المسلمين في مصر المحروسة، بعد عام واحد فقط على تسلمهم السلطة.
ومجددا على الحديث عن الديمقراطية والحداثة وكأنهما وصفتان سحريتان لحل جميع مشكلات مصر. والأمر ليس كذلك. فكرامة الإنسان، ترتبط ابتداء بتلبية حاجاته الأساسية، من سكن وصحة وتعليم وكهرباء وحق في العمل. وهذه الحقوق ليست مما يمكن الاستغناء عنها، أو تأجيلها لمصلحة التحولات السياسية والديمقراطية، بما في ذلك نزاهة الانتخابات وتعديل الدستور وما يطلق عليه مجازاً بالحكم الرشيد.
ذلك ليس تقليلا من أهمية الدولة المدنية، ولا حق الناس بالمشاركة في صنع القرارات المتعلقة بمستقبلهم، فتلك أمور أصبحت من بديهيات هذا العصر، ولكن أمر الحريات لا يستقيم مطلقاً، مع غياب العدل الاجتماعي، وهيمنة الفقر والأمية، وانتشار العشوائيات، وارتفاع مستوى الجريمة، ووقف التنمية الصناعية والزراعية، وفتح الأبواب مشرعة للسلب والنهب، بما يجعل سيادة مصر على ثرواتها وقراراتها منقوصة.
لا يتحقق مستقبل مصر، حين تظل البلاد رهينة لصندوق النقد الدولي، وللقروض والمنح والمعونات الخارجية، ولا يتحقق بثورات برتقالية وبنفسجية، تلون فضاءاتها، من دون بعثها الدفء والبهجة في نفوس الجياع والمعدمين المتلفحين تحت الكباري بالأسمال. شرط انتصار مبادئ الثورة، هو انتصارها للعدل الاجتماعي، والمساواة في الحقوق، وسيادة القانون، وتوفير السكن والتأمين الصحي، وخروج الملايين من فقراء مصر من خط الفقر. وما لم يتحقق ذلك، فسيكون لقوانين الدورة التاريخية حضورها. وسوف يعيد التاريخ تمظهراته السابقة، التي شهدتها مصر خلال العامين السابقين، في أشكال وصيغ، ربما تكون أسوأ بكثير مما شهدناه في 25 يناير و30 يونيو.
مصر العربية بحاجة إلى أن تنهض من تحت الركام، وتعيد بناء مجدها، كما قال رفاعة الطهطاوي، “من خلال الخبز والفكر والمصنع والحرية”، لتواصل مجدداً قدرها التاريخي في بناء نهضة الأمة.
********
مؤخرا تسلم المشير عبدالفتاح السيسي موقع رئاسة الجمهورية في مصر، بعد فوز ساحق على منافسه الأستاذ حمدين صباحي. ولا شك أن دور المشير في الثلاثين يونيو، بالإطاحة بالرئيس محمد مرسي، وما تلاه من إنجاح خطة الطريق، قد عبد له الطريق إلى رئاسة الجمهورية. وقد ساعد على ذلك، ما تواجهه مصر من انفلات أمني، وارتفاع في معدلات الجريمة. وتصاعد ظواهر الارهاب في سيناء صارت تلقي بلهيبها على معظم المدن والبلدات والريف المصري، بما يهدد وحدة البلاد وأمنها واستقرارها.
إن المشير السيسي الذي اثبت شجاعة وبسالة في التصدي للإخوان المسلمين، ومحاربة الإرهاب في سيناء، منذ تسلم منصبه كوزير للدفاع، هو الأقدر، من وجهة نظر غالبة المصريين في هذه المرحلة العصيبة، على قيادة السفينة.
إن هذا التأييد الواسع لترشيح المشير لموقع رئاسة الجمهورية، هو مبهج ومفرح له، ولكنه يضع أمامه مهام جسام، ربما يكون من المستحيل التوفيق بينها. تقف خلفه الآن وتسنده قوى تمتد من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار: لبرالية وقومية ويسارية ووطنية ودينية، ولكل منها برنامجه الخاص ومطالبه الخاصة. فكيف سيتمكن الرئيس من مقابلة مطالبهم واستحقاقاتهم.
كيف سيتصرف المشير لمضاعفة موارد مصر، وتلبية الاستحقاقات التي وعد بها، أثناء حملته الانتخابية. سؤال صعب ومن المبكر الإجابة عليه. لكن المؤكد أن سياساته ستكون مختلفة، وبشكل جوهري عن السياسات التي شهدتها مصر في العقود الثلاثة، وربما الأربعة التي مضت.
لقد وضعته المقادير في مرحلة دقيقة من تاريخ مصر، ورأى فيه الشعب قائده المنقذ الذي سوف يغير احواله من حال إلى حال. وهو بخلاف اسلافه ممن قادوا السلطة في العقود الاخيرة يمتلك الشجاعة وإرادة صنع القرار. ومن حسن طالعه انه يأتي في ظل انتفاء الآحادية القطبية وتغير واضح في موازين القوى الدولية. لقد اوضح المشير بجلاء انه لن تستأذن أحد حين يتعلق الأمر بحماية أمن مصر واستقلالها وفي ذلك مؤشر على أن مصر الجديدة ستكون رافعة للكفاح العربي ولنهضة الأمة وليس علينا سوى الانتظار.
********
لم يصل الرئيس الجديد، إلى السلطة، في ظل أوضاع سياسية مستقرة، فيكون عليه مواصلة السير بالطريقة التراتبية التي تعود عليها الذين سبقوه. لقد وصل السيسي للسلطة بعد "ثورتين". والثورة عادة تأخذ مكانها احتجاجا على واقع قائم، متطلعة لغد أفضل، تتحقق فيه الأهداف بطريقة غير تقليدية. طريقة خلاقة ومبدعة، تحفز فيها القدرات الذاتية، وتتحقق فيها الأهداف، بذات الروح التي عبرت عنها الثورة.
يضاف إلى ذلك، أن السيسي أصبح بطلا قوميا، في عيون المصريين، قبل أن يتسلم دفة السفينة. وقد غدا في وعيهم الرجل المنقذ، الذي قاد عملية خلاص مصر، من حقبة قصيرة مظلمة في تاريخها. لقد سكن في اللاوعي لدى غالبية المصريين، أن القائد الذي تمكن من قيادة السفينة، وإنقاذ مصر من الاستبداد الإخواني، سيكون هو الأكثر قدرة على مقابلة استحقاقات المصريين، والانتصار لكرامتهم، وحريتهم في المرحلة القادمة.
ولا شك أن هذا اليقين الذي رسخ في عقول المصريين، سيرتب على الرئيس القادم مهمات أخرى، تتسق مع الدور الكبير الذي لعبه في إنجاح ثورة الثلاثين من يونيو.
وهنا تواجه الرئيس الجديد، مهمة الإجابة على أي طريق سوف يختار: طريق الثورة أم طريق الدولة؟. والإجابة على هذا السؤال عملية مضنية وشاقة، لأن كل طريق له آلياته وعناوينه، وحوامله الاجتماعية، وهو مرتبط إلى حد كبير بالوعي والإرادة والقدرة على التنفيذ. ومجالات أي من الطريقين، ليست محلية محضة، بل لها انعكاساتها على التحالفات المحلية والعربية والإقليمية والدولية. ولكل منهما إيجابياته وسلبياته، وكلفه وتبعاته الخاصة.
كانت عوامل الاحتقان، وفشل إدارة الرئيس مبارك في حل المعضلات الكبيرة التي تواجهها مصر، وتراجع مكانتها العربية والدولية قد دفعت بالشباب المصري للنزول إلى الميادين والساحات، وتمكن من إزاحة رئيسين في ثورتين شعبيتين. وكان أهم إنجاز حققه الشعب المصري، هو كسره لحاجز الخوف.
المعضلات التي انتفض من أجلها الشعب المصري كثيرة، ليس أقلها الانفلات الأمني وشيوع ظاهرة الإرهاب، والانفجار السكاني، وبلوغ البطالة مستوى غير مسبوق، وتصاعد مديونية مصر، وتغول مظاهر الفساد، وارتفاع معدلات الجريمة، وفقدان المأوى، وانتشار العشوائيات، في المدن الكبرى. وتصاعد نسبة الأمية، واتساع الفروق بين الغنى والفقر...
بالتأكيد لا يتطلع المصريون، أن يواجه الرئيس الجديد هذه المعضلات، بذات الطريقة التي انتهجها أسلافه. فقد تأكد فشل المحاولات التي انتهجوها، وثبت أنها ضاعفت من المصاعب والمشاكل. وإذا فالمطلوب هي حلول أخرى، تكون متماهية مع الحالة الثورية، التي شهدتها مصر، في الثلاث سنوات المنصرمة، والتي يستمد الرئيس الجديد مشروعيته منها.
ولأن الاقتصاد، هو كلمة السر، في التصدي لمعظم المعضلات، فإن من المهم أن يحدد الرئيس الطريق الاقتصادي الذي سيختاره. هل سيتواصل الاقتصاد الريعي، والاعتماد على القروض والمعونة الأمريكية، والمساعدات التي تقدم من الأشقاء العرب، وبشكل خاص دول الخليج العربي، وكذلك من الاتحاد الأوروبي، أم أن الخيار سيتركز على تحفيز القدرات الذاتية، وحماية الصناعة الوطنية، والولوج في عصر تنمية حقيقي جديد، قادر على وضع مصر في مكانها اللائق بين الأمم.
سؤال، يبدو في الطرح بسيطا، لكنه ليس كذلك. فليس بمقدور مصر، بجرة قلم أن تنتقل من حال إلى حال. ولن يكون موقفا موفقا، في هذه اللحظة التاريخية، على الأقل، أن تحرق القيادة المصرية كل سفنها، في وقت هي أحوج ما تكون فيه لأي دعم مالي واقتصادي. لكن الآخرون لا يقدمون صدقات لمصر، بل يطلبون منها مقابل ذلك أسواق وسياسات وولاءات. وأهم ما يتمسك به المانحون والمقرضون، وعلى رأسهم صندوق النقد الدولي، هو أن تواصل مصر السير على طريق الاقتصاد المفتوح، الذي تقيد فيه سلطة الدولة على الاقتصاد، وتفتح أبواب التنافس الاقتصادي على مصراعيها. لكن السلبي في ذلك، أنه لا يوفر أي سقف لحماية الصناعات الوطنية، كما أنه يضع استقلال مصر وحريتها في اتخاذ قراراتها، في مهب الرياح. وقد جرب ذلك بالعقود السابقة، وفي ظل أربعة رؤساء سابقين، وكانت نتائجه على الصعيد المحلي، غياب التنافس، إن من حيث النوع أو الكم، بين المنتجات الوطنية، والمنتجات الوافدة، سواء من الشرق أم الغرب.
وخلال أربعة عقود من تاريخ مصر، تركزت أنشطة الاستثمارات الأجنبية على القطاعات الخدمية، والسياحية، فكانت النتيجة أنها استنزفت ثروات مصر، من غير أن تقدم لها شيئا يستحق الذكر. يضاف إلى ذلك أنها وضعت سيادة مصر، واستقلالية قرارها رهينة لدى القوى الدائنة، ورسخت نوعا من التبعية الاقتصادية والسياسية.
فهل تختار مصر اقتصادا موجها، يتيح الدولة الإشراف على العمليات الإنتاجية، والسيطرة على الفعاليات الاقتصادية. وبدلا من الاعتماد على الدعم المالي الخارجي، يكون البديل الاعتماد على القدرات الداخلية، وتحفيز الاقتصاد المحلي. ولن يكون بالمستطاع مقابلة حاجات الناس وتلبية استحقاقاتهم، إلا بزيادة الضرائب، بشكل تصاعدي، بما يعني مواجهة مؤكدة مع القوى المستفيدة من تركة الماضي. وربما يؤدي ذلك إلى هروب رؤوس الأموال الأجنبية والمحلية. لكن ذلك، ومع سلبياته، يتيح للدولة، تحديد الأولويات في خطط التنمية، ويجنب الاقتصاد مخاطر الفوضى. ولا شك أن النجاح في البناء الاقتصادي الذاتي، سيمنح مصر قدرة الاحتفاظ على قرارها السيادي، ويضمن استقلالها، ويحد من تبعية سياساتها للخارج.
أي طريق ستختار مصر، الثورة أم الدولة?. يبدو أن الموازنة الدقيقة بين الطريقين هي الحل، على الأقل في هذه المرحلة، إذا أريد لمصر أن تدخل التاريخ، من أوسع بواباته
الوطن العربي رازحا تحت التفتيت:
هناك خمسة أقطار عربية على الأقل، دخلت فيها مشاريع التفتيت مرحلة التنفيذ هي: السودان والعراق واليمن وليبيا وسوريا. وهناك مخاطر تعرض أقطار أخرى لمشاريع مماثلة.
في السودان اقتطع الجزء الجنوبي، وأقيمت عليه دولة جديدة، لا تملك مقومات مفهوم الدولة. ويهدد هذا الجزء بتفتيت آخر، في متتاليات مفتوحة. ويواجه السودان في جزئه الغربي، في منطقة دارفور احتمال انفصاله عن الوطن الأم. ولا شك أن ذلك يضيف تحديا كبير على الاستقلال الوطني والقومي العربي، ويسهم في تآكل الأطراف العربية. ويحدث ذلك في ظل تفسخ النظام السياسي القائم، وعجزه عن تحقيق المصالحة الوطنية، مع بقية الأطراف السياسية الفاعلة.
إن وجود سودان قوي، هو رهن لتحقيق مصالحة وطنية حقيقية، بين المكونات السياسية والاجتماعية في البلاد، والسير في تنمية حقيقية، لمواجهة حالة التخلف، والجوع والبطالة، وتلك ليست مسؤولية السودانيين وحدهم، بل هي مسألة قومية، وحيوية لحماية الأمن القومي العربي، والدفاع عن أجنحته.
أما في العراق، فرغم أن الشمال المعروف بمنطقة كردستان، لم تعلن استقلالها بعد، عن المركز، لكن سلطتا أربيل والسليمانية، تمارسان حقوق السيادة كاملة، حيث تقام العلاقات السياسية والاقتصادية مع الدول الأخرى، بمعزل عن المركز. بل وتجرى الصفقات النفطية مع الخارج، دون موافقة من الحكومة العراقية.
وقبيل انعقاد دورة المؤتمر القومي العربي بعدة أيام، انتفضت ست محافظات عراقية، وخرجت نينوى والأنبار وصلاح الدين عن سيطرة المركز. وهناك أنباء متناقضة، عن القوى السياسية التي تصدرت المشهد في تلك المحافظات. فبينما تتهم حكومة المالكي تنظيم داعش بقيادة عملية الاستيلاء على المحافظات التي خرجت عن السيطرة، فإن قوى الانتفاضة، تشير إلى غياب داعش، وإلى أن ما جرى هو انتفاضة العشائر، التي رفضت سياسة الإقصاء والتهميش لتلك المحافظات.
وتشير مصادر حزب البعث، إلى إسهامات كبيرة للحزب وحلفائه من أتباع الطريقة النقشبندية، في الأحداث الجارية. وبغض النظر عن القوى السياسية، التي تتصدر المشهد، وبصرف النظر أيضا عن الموقف من النظام العراقي الحالي، الذي هو أحد إفرازات الاحتلال الأمريكي، فإن هناك مخاطر أن تؤدي الأحداث الأخيرة، التي اقتصرت على المحافظات الشمالية والغربية، فيما أطلقت عليه الإدارة الأمريكية بالمثلث السني، إلى تطبيق القرار غير الملزم، الصادر عن الكونجرس الامريكي الذي طرحه نائب الرئيس الأمريكي، جوزيف بايدين بتقسيم العراق، إلى ثلاث دول: دولة كردية في الشمال، وذلك ما هو متحقق فعلا على أرض الواقع. ودولة سنية، بالمثلث السني، ودولة شيعية بالوسط والجنوب.
إن اقتصار الانتفاضة العراقية، على بعض المحافظات، وعدم شموليتها المحافظات الجنوبية، من شأنه أن يعبد الطريق لتنفيذ قرار التقسيم، بما يؤدي إلى بروز جرح نازف أخر، في جدار الأمن الوطني والقومي. والوطنيون العراقيون، مسؤولون عن الدفاع عن وحدة التراب العراقي، ومنع التدخلات الإقليمية والدولية في شؤونه، والحيلولة دون تفتيت العراق.
والمطلب ذاته، ينسحب على اليمن التي تتعرض لمخاطر التفتيت، في أكثر من منطقة، وتفكيك دولة الوحدة التي بذل اليمنيون من أجل الحفاظ عليها الكثير من التضحيات، وقدموا في سبيلها آلاف الشهداء.
لقد توصل اليمنيون، بعد حوار وطني، امتد قرابة عام، إلى خارطة طريق، للانتقال بالبلاد من الحالة الراهنة، إلى الدولة المدنية، التي تعتمد على الفصل بين السلطات الثلاث. ورغم ذلك، فإن اليمن الآن يتعرض إلى حالة من الاحتراب الداخلي، حيث تشتبك الدولة المركزية، مع الحوتيين في صعدة، والقاعدة في شبوة، ويتطلع الحراك الجنوبي، إلى فصل الجنوب اليمني، عن المركز، واستعادة هوية الدولة التي سادت فيه، قبل إعلان الوحدة، بين شطري اليمن.
والسبيل إلى منع ذلك جلي وواضح، كما في بقية الأقطار العربية التي تتعرض للتفتيت: تحقيق مصالحة وطنية حقيقية، والابتعاد عن سياسة التهميش والإقصاء ومنع التدخلات الخارجية في شؤون اليمن: عربية وإقليمية ودولية. وإقامة دولة المؤسسات المستندة، على الفصل بين السلطات الثلاث، والمضي في إنجاز تنمية حقيقية، تلتزم بتنفيذ الألويات الكفيلة، بإخراج اليمن من واقعه الراهن. وتحفيز القدرات الذاتية للشعب اليمني، وتعميم ثقافة التسامح وقبول الرأي والرأي الآخر.
**********
في ليبيا، لا تقل صورة المشهد قتامة عما يجرى في العراق والسودان واليمن. فتركيبة مجتمعها، وغياب مؤسسات المجتمع المدني، وعدم ترسخ مفهوم الدولة بمكوناتها الحديثة، وأيضا فراغ البنية السياسية، التي لم تتشكل أصلاً في تاريخ البلاد، تهدد وحدة البلاد، وتجعل قضية الخروج من الأزمة الحالية بالحفاظ على وحدة التراب الليبي أمرا مشكوكا فيه.
في المشهد الليبي، يبدو أننا أمام وضع أعقد بكثير مما جرى في العراق، إثر الاحتلال الأمريكي، بما لا يرجّح القول بإمكانية الاستفادة من نموذج العملية السياسية التي نفذت بالعراق. لقد أعقب سقوط الدولة الوطنية في العراق، قيام المندوب السامي الأمريكي، بول برايمر، بهندسة وتنفيذ عملية سياسية في أرض السواد، بطريقة اتسقت مع الأهداف والاستراتيجيات الأمريكية.
في ليبيا، جرى إلغاء الدولة التي نشأت بعد الاستقلال، ولم يتبقَّ شيء من هياكلها، وتزامن ذلك مع تدمير للبنية التحتية. والوضع مختلف تماماً عنه في التجربة العراقية، فحلف الناتو لم يعلن نفسه قوّةَ احتلال لليبيا، وتوصيف ما قام به هو تنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي بحماية المدنيين الليبيين، ولذلك لم تحمل أجندته المعلنة، خريطة طريق لمستقبل ليبيا ما بعد القذافي. هذا أمر..
أما الأمر الآخر، فإن القوى الدولية التي أسهمت في القضاء على نظام العقيد، وهيأت للمعارضة الليبية الوصول إلى السلطة، غير متجانسة في أهدافها ورؤيتها لمستقبل ليبيا. ويحكم هذه القوى، سياسة الباب المفتوح، حيث تفتح أبواب التنافس على مصاريعها. وقد نتج عن ذلك وجود مناطق نفوذ داخل ليبيا، كل منطقة تخص واحدة من القوى التي كان لها الدور الأساس في إسقاط الجماهيرية، وعودة "علم الاستقلال".
ما هو البديل والممكن ليبيّاً، في ظل التنافس الدولي وصراعات القبائل؟.. هنا يطرح سياسيو الغرب، وبعض الليبيين في السلطة الجديدة، إمكانية قيام نظام لا مركزي، دون تحديد شكله. هل يكون فيدرالياً، أو ما هو أقل منها، شكل كونفيدرالي على سبيل المثال.. تلك قضية يصعب الجزم والتقرير فيها، في هذا الوقت. لكن المستبعد هو أن تعود ليبيا إلى وضعها الاندماجي الذي كانت عليه، قبل الأحداث الأخيرة . فدعاة اللامركزية قد باشروا فعلياً مهمة التنظير لها. وطرحوا اتساع رقعة الأراضي الليبية، ووجود مكونات قبلية غير متجانسة، وكيانية معاصرة للدولة ارتبطت بالاستقلال، كأسباب لإنهاء مرحلة الدولة الاندماجية .
في سقوط طرابلس شهدنا دراما هوليوودية، وفي مصرع العقيد تراجيديا وملهاة إغريقية، هكذا برز المشهدان، أو هكذا أريد تمثل صورتهما. في المشهد الأول، أحد كوادر تنظيم القاعدة يقود عملية تحرير العاصمة الليبية طرابلس، بعد توطئة من الناتو، بقصف جوي استمر عدة أشهر أحال مقر العقيد في باب العزيزية إلى ركام. واقتحام العاصمة لم يتم بجيش منظم بل بطريقة الفزعة، وبشكل أقرب إلى حروب القبائل.. كل قبيلة ترفع رايتها، ولا يوجد من جامع بين الغرماء سوى القضاء على السلطة التي احتكرت العنف في السابق، ليصبح العنف ملكية جماعية ليس من حق أي طرف احتكاره.
مصطلح التحرير الذي حظيت به "الثورة الليبية"، جرى استخدامه في حالتين فقط، كلتاهما حدثتا في العقد الأخير، هما حالتا العراق وليبيا، وكلتاهما تمتا بوسائط من الخارج. الأولى في صيغة احتلال معلن لأرض السواد، تم خارج الشرعية الدولية، ولم يصدر فيه قرار من مجلس الأمن، والثانية، تمت بدعم من مجلس التعاون الخليجي وجامعة الدول العربية، وقرار أممي صادر عن مجلس الأمن، لكن ذلك لم يغير كثيراً في تعابير التحرير.
والنتيجة أن ما جرى في العراق، من فوضى عارمة، وإسقاط للدولة الوطنية، نشهد ما يتطابق معه تماما، في ليبيا. وكما يغرق العراق في فوضى، منذ جرى احتلاله عام 2003 لا سابقة لها، تغرق ليبيا في فوضى مماثلة، منذ تم "تحريرها" على يد الناتو. وبالقدر الذي تتهدد فيه وحدة بلاد السواد، بذات القدر تتهدد وحدة التراب الليبي، وتطالعنا الأخبار كل صباح بما يؤكد قتامة المشهد، وتفكك كيانية ليبيا.
***********
في سوريا، تواصلت الأزمة، وحدث تغير في المزاج الدولي منها، بحيث صار من الممكن والمقبول البحث عن حل سياسي، مع تواجد النظام السوري. وعلى هذا الأساس، تم عقد مؤتمر جنيف2، برعاية الوسيط الأممي الأخضر الإبراهيمي. لكن المؤتمر لم يتمكن من تحقيق أي تقدم، على طريق حل الأزمة. ويعود فشل جنيف2، إلى اتساع شقة الخلاف بين المتفاوضين.
فبينما تتمسك المعارضة، بالدخول فورا في عملية الانتقال السياسي، وتسليم السلطة لها، تتمسك القيادة السورية، بضرورة التصدي للإرهاب، وإعادة الاستقرار، في سوريا. وقد أدى الفشل المتتابع للوسيط الأممي، الأخضر الإبراهيمي إلى تقديم استقالته من مهمته. ولا يزال الموقع شاغرا لوسيط آخر,
وعلى صعيد الموقف الأمريكي من الأزمة، صدرت تصريحات عديدة، لمسؤولين أمريكيين، على رأسهم، رئيس وكالة المخابرات المركزية، اعترف فيها بتعقد الوضع في سوريا، وأن ليس هناك سوى الحل السياسي للأزمة. وتصريح آخر، لوزير الخارجية جون كيري، يؤكد فيه أن النظام السوري كسب عدة نقاط بالشهور الأخيرة، وأنه متقدم في إدارته للصراع على المعارضة. كما أن انعقاد مؤتمر جنيف 2، والتهيؤ لانعقاد جنيف3 في الأيام وربما الشهور القادمة، مؤشر على عزم الإدارتين الأمريكية والروسية، على إغلاق ملف سوريا، بالتوصل إلى حل سلمي للأزمة المستعصية، لأكثر من ثلاثة سنوات في هذا البلد العريق.
هناك تطورات لافتة هذا العام، للأوضاع في سوريا. فقد تمكن الجيش من تحقيق مكاسب عسكرية كبيرة، في منطقة القلمون، وفي ريف دمشق، وحقق انتصارات في حمص. كما تمكن من فك الحصار، عن منطقة استراتيجية في حلب، حيث يقع السجن المركز. وشهد هذا العام، تحقيق مصالحات واسعة، مع المتمردين، في عدد من المدن والبلدات والقرى السورية. وجرت انتخابات سورية، بعدة مرشحين، ولأول مرة، فاز فيها بشار الأسد، فوزا مطلقا على منافسيه، بنسبة تجاوزت الـ 88%. وجرى على إثرها إعلان عفو عام، عن السجناء السياسيين، ينتظر أن يتخذ الرئيس الأسد، خطوات أخرى، بهدف الإسراع في تخفيف حدة الأزمة، بما يسهم في تآكلها.
لكن الحل الحقيقي للأزمة، يتطلب خطوات أخرى شجاعة، تنتصر للسوريين جميعا، وتنقل البلاد من وضعها الراهن، إلى مرحلة التعددية، وإقامة الدولة المدنية. وأولى الخطوات على هذا الطريق هي تحقيق المصالحة الوطنية، وتشجيع الفارين على العودة إلى ديارهم، والدخول في مفاوضات جادة مع المعارضة السياسية، في الداخل والخارج، لتحقيق الانتقال السلمي للدولة المدنية، دولة العدل وسيادة القانون.
الوطن العربي رازحا تحت التبعية:
إذا كان شرط التحرر الوطني والقومي، هو هيمنة الأمة على مقدراتها الاقتصادية، وقدرتها على صيانة استقلالها، وقرارها السياسي، فإن أوضاع الوطن العربي، تشير إلى أن جميع بلدانه، من دون استثناء، تعيش واقعا تنتقص فيه، بشكل أو بآخر، السيادة الوطنية. وذلك طبيعي في ظل اندماج معظم الأقطار العربية، بالاقتصاد الإمبريالي.
فما يجري في حقيقته، وبشكل خاص في الدول الغنية، المنتجة للنفط هو عملية تدوير، تصب جميعها في نهاية المطاف بالخزائن الإمبريالية، ولم تضيف شيئا على طريق النهوض بالأقطار العربية، وتحقيق تنمية حقيقية، بما يهدد مستقبل هذه الأقطار، ويضعها على طريق الإفلاس. أما الأقطار العربية الأخرى،ـ فإنها رهنت سيادتها لصندوق النقد الدولي، وللقوى المانحة، ولن تكون هناك خطوات حقيقية، على طريق صيانة الاستقلال الوطني، للأقطار العربية، إلا بتحقيق التكامل الإقتصادي بين هذه الأقطار، وفك الاندماج بالاقتصادات الدولية.
كلمات أخيرة:
وتبقى كلمة أخيرة، في سياق الأمن القومي العربي. لقد فرحنا كثيرا بالتحولات السياسية، التي عرفت بالربيع العربي، والتي أخذت مكانها في عدد من الأقطار العربية، قبل ثلاث سنوات. ورأينا فيها طريقا للأمل بمستقبل زاهر للأمة، لكننا بعد ثلاث سنوات، من هذه الأحداث، وربما باستثناء تونس، نعود إلى المربع الأول. وكأننا يا بدر لا رحنا ولا جينا.
وربما يجد فشل موسم الربيع العربي، تفسيره، في غياب شروط التحول نحو الدولة المدنية، فلا الهياكل الاجتماعية جاهزة، ولا الحياة السياسية مهيأة. فبعد عقود طويلة، من غياب الحريات، وتجريف شبه شامل للحياة السياسية، لم يكن منتظرا أن يحدث حراك منظم، ينقل الواقع السياسي القائم من حالة التردي، إلى العلاقات التعاقدية والحكم الرشيد، والدولة المدنية.
لم يمتلك الشبان اليافعون الذين قادوا الحراك في الميادين بالمدن الرئيسية، أي برنامج سياسي ومتصور عن شكل الدولة المرتقبة. فكان أن اتسم الحراك بالعفوية، وردود الأفعال المنفعلة، والتسرع في اتخاذ خطوات الانتقال من النظام السابق، إلى أنظمة جديدة لا تختلف كثيرا عن السابق، ولا تلبي المطالب الأساسية التي حملتها شعارات المحتجين، وعلى رأسها مطلب التنمية والقضاء على الفساد، وتلبية المطالب الأساسية والحياة الحرة الكريمة للمواطنين.
في ظل الفراغ السياسي، قفز الإسلام السياسي، ممثلا في جماعة الإخوان المسلمين. ولم يكن ذلك مستغربا، فهم وحدهم الذين ظلوا قوة متماسكة، طيلة العقود السابقة، بسبب تكتيكاتهم، وتحالفاتهم الخفية والمعلنة مع الأنظمة السائدة، وأيضا، بسبب تحكمهم في مؤسسات العمل الخيري والدعوي، وادعاءاتهم المتكررة، بأنهم ليسوا سوى جماعات دعوية، ليس لها مطمع في الحكم.
يضاف إلى ذلك، أن القوى الاجتماعية الحليفة للأنظمة السابقة، راكمت خبرات سياسية لعدة عقود، وتمكنت من الهيمنة على المفاصل الاقتصادية، وساعدها على ذلك أن مطالب التغيير لم تكن موجهة مباشرة نحوها. فرغم أن الحزبين الحاكمين في تونس ومصر، جرى حلهما، لكن ذلك لم يترافق مع قرارات باجتثاث أعضائهما، بل إن هناك من رأى، ضمن القوى السياسية التي تصدرت المشهد بعد التغيير، في قوة هذه المجموعات، دعما للاقتصاد المهترئ، وسبيلا للنهوض من جديد بالبلدان التي طالتها الحركة الاحتجاجية.
وقد ساعد التسرع في إنهاء المرحلة الانتقالية، من تكريس الواقع السابق، حيث لم تتوفر مناخات كافية، لبروز قوى حية جديدة، قادرة على التنافس، في ظل التحول السياسي الجديد.
إن نشوء حركات سياسية، وتحقيق تحالفات قوية فيما بينها، وعدم الاستعجال في إصدار الدساتير، ربما يمكن من خلق وضع جديد، يحقق التكافؤ بين الأحزاب المدنية، والتنظيمات السياسية الأصولية. وفي هذه الحالة، ستكون الأوضاع أفضل بكثير، سواء تمكنت جماعة الإخوان من الوصول إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع، أو فشلت في ذلك، وتمكنت الأحزاب المدنية من حصد غالبية الأصوات. فهناك فرق كبير، بين أن تحتكر الجماعة الشارع السياسي والسلطة، وبين أن تكون في السلطة فقط، وتواجه معارضة سياسية قوية في الشارع، بما يلجم تصرفاتها وسعيها المحموم نحو أخونة الدولة والمجتمع.
على أن الفشل هذا، ينبغي أن لا يغيب الإيجابيات، فقد كسر الشعب العربي حاجز الخوف، ومضى بشجاعة نادرة للإمساك بزمام مقاديره. والتاريخ لن يعيد نفسه، فهناك قوى اقتصادية حية صاعدة، وهناك نظام آحادي يتفكك، مفسحا المجال من جديد للتعددية القطبية. وسيتيح ذلك جملة من الخيارات، للأقطار التي تختار طرقا أخرى، غير الخضوع لسياسات الغرب ومناهجه الاقتصادية؟
لقد انتصرت حركة التحرر الوطني العربية، في الخمسينات والستينات من القرن المنصرم، في ظل التعددية القطبية، وانحياز أحد أطرافها لصالح حركة التاريخ، ولن يكون بعيدا اليوم، الذي يصنع فيه الشباب ربيعهم العربي، بعد أن يكونوا قد تعلموا من الدرس المرير، الذي مر بهم، ويدركوا مخاطر الانطلاقة العفوية، ويحلقوا بأجنحة الوحدة والحرية والعدل الاجتماعي، وليس ببعيد ذلك اليوم، الذي تكسر فيه الجماهير العربية المسحوقة قيودها، مرة وإلى الأبد.
|