كلمة الأمين العام للمؤتمر القومي العربي الأستاذ عبد الملك المخلافي
في افتتاح الدورة الخامسة والعشرين للمؤتمر القومي العربي
20-21 يونيو/ حزيران 2014
بيروت - لبنان
الإخوة والأخوات أعضاء المؤتمر. الحاضرون جميعا
أرحب بكم جميعا في بداية كلمتي باسمي وباسم إخواني أعضاء الأمانة العامة.. وبعد.
بين دورتي المؤتمر الرابعة والعشرين في القاهرة العام الماضي، وهذه الدورة في بيروت، جرت مياه كثيرة في الأرض والبحار العربية من المحيط إلى الخليج، وذلك أمر طبيعي، ولكن المقلق والمخيف والمزعج أن دماء كثيرة قد جرت أيضاً على الأرض العربية، وأواصر قد مزقت وأثماناً قد دفعت من وحدة دول الأمة ووحدة أوطانها، وجرى الابتعاد عن ثوابت الأمة، وأولويات صراعها مع عدوها الاستعماري الاستيطاني، ممثلا بالكيان الصهيوني، ومن يقف وراءه من قوى الاستعمار والهيمنة وفي مقدمها الولايات المتحدة الأمريكية، نحو دروب فرعية وصراعات جانبية؛ إما داخل الأوطان أو مع الجوار الحضاري، وكل ذلك على حساب مركزية الصراع مع العدو الصهيوني، ومركزية القضية الفلسطينية، واستبدلت فكرة المقاومة للعدو والقتال معه إلى فكرة النزاع مع الآخر الشريك في الوطن، والاقتتال معه، وأحيانا مجرد قتله.
ولهذا فإن انعقاد مؤتمرنا القومي العربي في دورته الخامسة والعشرين، وهذا الحضور اللافت إلى هذه الدورة، يعكس استشعار أعضاء المؤتمر، ومن يمثلون، وما يمثلون، للمخاطر التي تحيط بالأمة، والحاجة لاستنهاض المشروع القومي الوحدوي والتيار القومي في هذه الظروف، باعتبار أنهما -المشروع والتيار- هما البديلان الموضوعيان للمشاريع التمزيقية دينية وطائفية ومذهبية. وما أحوج القوى الوطنية والقومية في كل قطر، مثلما على صعيد الأمة، إلى طرح مشاريع وطنية وقومية لاستعادة وحدتها، بديلة للمشاريع التمزيقية طائفية ومذهبية وجهوية وعرقية. فلا يمكن مواجهة هذه المشاريع التفتيتية إلا بمشروع وطني وقومي، ولا يمكن أن يشكل بديلا منها إلا مشروع كهذا لا مشاريع طائفية وتفتيتية أخرى تتماهى معها حتى ولو جاءت من الطرف الآخر المظلوم. فالمظلوم سيتحول إلى ظالم جديد، والوطن سيبقى ممزقا ومنقسما.
الإخوة والأخوات:
إن المشروع البديل الذي ندعو له، وتمثله ثوابت المؤتمر والمشروع النهضوي العربي بعناصره الستة، هو أيضاً مشروع يتأسس على أساس متين من المصالحة الوطنية ورفض إقصاء وتهميش أطراف من أبناء الوطن، ويتأسس أيضاً على حرية الوطن وحرية المواطن بدون مقايضة بينهما أو استبدال، فلا يمكن أن نفرط بحرية الوطن من أجل حرية المواطن، فلا مواطن حر في وطن مسلوب الحرية والإرادة، ولا يمكن أيضاً أن نفرط بحرية المواطن وكرامته تحت حجة الدفاع عن حرية الوطن، فلا حرية لوطن أبناؤه مسلوبو الحرية فاقدو الكرامة. وهو مشروع بوصلته فلسطين بإدراك عميق أن كل ما يحدث في أقطار الأمة شديد الصلة بما جرى ويجري في فلسطين على امتداد قرن من الزمان، مهما ظن هذا القطر أو ذاك أنه بعيد عما يجري في فلسطين، فكل مشاريع التفتيت والتمزيق والحروب الأهلية والتطرف والدمار والقتل... كلها تهدف لخدمة الوجود الصهيوني العنصري والسرطاني، وإدامة بقائه، وشرعنة وجوده، العدو الذي يحتل فلسطين العربية، ويشكل خنجرا في قلب أمتنا الدامي. وحتى عندما تكون الأيادي التي تنفذ هذا المخطط عربية، فإن تطبيع وجود العدو الغريب والشاذ في قلب أمتنا وأرضنا، هو الهدف لخلق شرق أوسط جديد، كما يسعى أعداء الأمة، يستبدل وجود أمة عربية واحدة من المحيط إلى الخليج، كما هي حقيقة هذه المنطقة وتاريخها، بفسيفساء من الطوائف والمذاهب والأعراق، يصبح فيها ما يسمى بدولة إسرائيل اليهودية طبيعيا.
ان العدو بفضل المقاومة الباسلة في فلسطين ولبنان وبفضل الديمغرافيا الفلسطينية والعربية يعيش مازقه التاريخي فيختفي وراء جدر ووراء قوانين عنصرية بحجة يهودية الدولة تفضح طبيعية الحقيقية وتجعل داعمية في تناقض واضح مع كل ادعائتهم وتورق الضمير الإنساني الذي يعيش مأزق أخلاقي صارخ ' ولهذا تجري محاولات الهروب من هذا المأزق بنقل الصراع الى أقطار امتنا وتمزيقها لإخراج العدو ووجوده الغاصب من مصيره المحتوم.
أيها الإخوة والأخوات:
نحن ندرك بحقائق التاريخ والجغرافيا أن مشروع تمزيق وجود الامة وإلغاء وهويتها وهم، ولكن كم من الأثمان ستدفع أمتنا وشعوبها وأوطانها قبل أن يدرك أدوات هذا المشروع -إن كانوا لم يدركوا أنهم أدوات- هذه الحقيقة، فيتوقفوا عن خدمتهم للعدو بتمزيق أوطانهم وتدميرها..؟
الإخوة والأخوات:
إن وعي الأمة ومقاومتها لمشاريع التفتيت والتمزق، ومقاومة العدو، وفي مقدمتها المقاومة في فلسطين المحتلة ولبنان ضد العدو الصهيوني ومقاومة الاحتلال والعدوان الأمريكي والأطلسي في العراق وليبيا، هو وحده الكفيل بإفشال المخطط واستعادة الأمة لروحها وثوابتها.
الإخوة والأخوات:
قبل خمسة وعشرين عاما عندما تأسس المؤتمر القومي العربي، وعقد مؤتمره الأول في تونس العربية، آذار/مارس ١٩٩٠، كانت البشرية والمنطقة تدخل منعطفاً جديداً، كان الاتحاد السوفيتي ينهار، ثم جاء دخول العراق للكويت، وما سمي بحرب الخليج الثانية أو حرب تدمير العراق، وحينها كان هناك من الحكام العرب وأنصار المارينز من يقول إن القومية العربية ماتت، وإنها موضة قديمة، واستطاع المؤتمر القومي العربي أن يكون صوت وأداة الحركة القومية العربية، باذلا الجهد ليحقق هدفه ليكون مرجعية شعبية عربية. ونظن أن كثيراً من الجهود قد أثمرت، وعدداً من الطموحات والأهداف قد تحققت. ونحن الآن في اليوبيل الفضي لتأسيس المؤتمر، لا زال أمامنا الكثير لنحققه، اعتمادا على تقويم لتجربتنا، وبتحديد واقعي ودقيق وواعٍ لأهدافنا وطموحاتنا، وأن نقف في مواجهة المشاريع الطائفية والمذهبية، وأن نستعيد المشروع القومي إلى الصدارة.
انطلاقا من ذلك كله، فإن أمام دورتنا هذه الكثير لتقف أمامه في برنامج عملها، فبالإضافة إلى بحث حال الأمة، من خلال عرض التقرير الذي سيكون خلفية المناقشات، فإننا مطالبون بأن نقف بعمق ومسؤولية أمام حال المؤتمر بعد عقدين ونصف من قيامه، نقوّم التجربة بسلبياتها وإيجابياتها، ونصيغ رؤية مستقبلية نسترشد بها في عملنا للفترة القادمة. على أن يكون في قلب هذه الرؤية الجديدة تطوير أساليب العمل، والاهتمام بالشباب والمرأة، الذي كان ولا يزال لهما دوراً كبيراً في حركة الشارع العربي وفي التغيير الإيجابي المنشود، وإعداد جيل جديد من القوميين لحمل الراية، منطلقاً من ميادين الممارسة والعمل، ومسلحاً بقدرات فكرية متجددة تلبي مستجدات الواقع، ومزودا بأساليب جديدة في التواصل والحركة والتفاعل، تتناسب مع تطورات العصر وأدواته الجديدة.
الإخوة والأخوات:
ولأن الوحدة العربية هي البديل الموضوعي لحالة التمزق والضعف الذي تعيشه الأمة، وهوانها على الأمم الأخرى وعلى الناس، فإن المؤتمر الذي أطلق العام الماضي، في ذكرى الوحدة المصرية السورية وقيام الجمهورية العربية المتحدة، نداء صنعاء للوحدة العربية، يضع أمام أعضائه في دورته هذه ورقة خلفية لفكرة دستور اتحادي عربي.
وبالإضافة إلى أوراق حول العناصر الستة للمشروع النهضوي العربي، فإن مؤتمرنا، وفي محور القضية الخاصة، سيقف أمام قضية اللاجئين وحق العودة باعتبار ما تمثله هذه القضية من بعد محوري في القضية الفلسطينية بصورة خاصة، وقضية الصراع العربي الصهيوني بصورة عامة، في إطار ما أطلقه المؤتمر من مبادرات خلال العام الماضي، لإعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية كقضية مركزية للأمة، تمثل جوهر الصراع وحقيقته في المنطقة، وللمقاومة كخيار للتحرير والنصر واستعادة الحقوق واستعادة الوحدة الوطنية الفلسطينية والوحدة الوطنية في كل قطر، مثلما هي مرتكز التضامن العربي وأساس للوحدة القومية. وتدعيما لذلك، ولصمود أهلنا في فلسطين، فإن هذه الدورة تضمنت في برنامجها تحركاً عملياً تضامنياً مع إخواننا وأخواتنا الأسرى في سجون الاحتلال الصهيوني المجرم، من خلال تحرك في ظهر اليوم إلى مقر الصليب الأحمر الدولي، دعما لصمود الأبطال في سجون الاحتلال، ولما اختطوه وهم في أسرهم من صور المقاومة والبطولة لفضح العدو وإجرامه، وتعبيرا عن الإدانة لأساليب العدو ولوجوده الغاصب والغاشم والمجرم.
ومع ذلك كله، أعطينا في برنامج هذه الدورة مساحة واسعة لمناقشة الأوراق المطروحة أمام المؤتمر، وللمناقشة العامة، لنستمع إلى بعضنا، ونتبادل الآراء والرؤى. ويحدوني الأمل أن آراءنا ورؤانا ستكون بمستوى متطلبات الظرف الراهن وتحدياته، وأنها ستكون مثمرة وبناءة، وأنها ستسهم في إثراء ما سيخرج به المؤتمر لعمله في الفترة القادمة بصورة عامة، وما سيتضمنه البيان الختامي بصورة خاصة.
الإخوة والأخوات:
وإذا كنا في ذلك كله نستهدف إعادة تأكيد ثوابت وأولويات هذه الأمة، ومحاور نضالها الكبرى، فإننا لا يمكن أن ننسى إخوة لنا من أعضاء المؤتمر رحلوا عنا أو غيبتهم السجون العربية، أو دفعوا حياتهم ثمنا لإيمانهم بحرية أوطانهم وثوابت أمتهم، أو غيبوا قسراً، وفي مقدمتهم الأخ رجاء الناصر، عضو الأمانة العامة، أو من مُنعوا من السفر، ومنهم من مُنع من السفر لحضور هذه الدورة. لا ننساهم، ونوجه لهم التحية والتقدير، ونقف مع حريتهم، كما مع حرية كل مواطن عربي من المحيط للخليج، فالحرية لا تتجزأ.. حرية مواطن وحرية وطن.
الإخوة والأخوات:
وبعيدا عن الدخول في تفاصيل ما يجري في كل قطر، في كلمتي هذه، وهو كثير، والذي لاشك سيكون مجال كلماتكم وتداولكم ومحل بحثكم واهتمامكم، أشير إلى أنه في سورية والعراق مثلما هو في مصر وليبيا والسودان واليمن، وفي كل أوطان الأمة، ليس هناك من حل لوقف الانهيار والتمزق إلا إطلاق مشاريع وطنية بديلة للتفتيت والتمزق، تعتمد على المصالحة الوطنية، وعدم الإقصاء، وعلى الحرية والاعتراف المتبادل وحقوق الشعوب، والمحافظة على الدولة والهوية ووحدة الأوطان والوحدة الوطنية والنسيج الوطني والاجتماعي، ورفض العنف والإرهاب، ورفض التدخل الأجنبي والخارجي، واستعادة التضامن العربي على أساس مركزية القضية الفلسطينية وخيار المقاومة. إنها بعض محاور مشروعنا القومي الذي نقدمه بديلا لمشاريع الاقتتال والفتنة الطائفية والمذهبية وفقدان الهوية، وبديلاً لمشاريع الاحتلال والتبعية والحرية الموهومة القادمة على ظهر دبابة أو متن طائرات العدوان، والتدخل الخارجي أو التكفير والاقتتال الداخلي.
وإذا كانت قوى كثيرة تتطلع إلى مؤتمرنا هذا في لحظة من أشد لحظات أمتنا ظلاما وانقساماً، فإن لديّ الثقة أن مناقشاتنا وما سنخرج به سيكون على مستوى المسؤولية، وأنه من وسط الظلام الكثيف ينبثق شعاع الأمل دائماً، كما قال جمال عبد الناصر.
وفقنا الله جميعاً، وسدد على طريق خدمة أهداف الأمة خطانا..
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
|