المؤتمر القومي العربي
ARAB NATIONAL CONFERENCE
المؤتمر السابع والعشرون
19 – 20 نيسان/أبريل 2016
الحمامات - تونس
التوزيع: محدود
الرقم: م ق ع 26/وثائق 9
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
التجدّد الحضاري العربي**
الأباتي د. أنطوان ضو*
ــــــــــــــــــــــــــــــ
* أمين عام اللجنة الأسقفية للحوار الإسلامي - المسيحي
** لا تعبر هذه الورقة بالضرورة عن رأي الأمانة العامة للمؤتمر القومي العربي.
التجدد الحضاري العربي
الأباتي أنطوان ضو
التجدّد الحضاري في زمن العولمة هو الإسم الجديد للنهضة، نهضة العالم العربي، النابعة من الروح الإنسانية ومن روح الإسلام والمسيحية والعروبة الحضارية المبدعة، والمتفاعلة مع الحضارات والثقافات والحداثة والعولمة.
التجدد الحضاري العربي الإسلامي لم يعد ينبع من روح الإسلام وحضارته فقط، كما لم يعد في خدمة المسلمين فحسب، إنما أصبح تجدداً حضاريًا جديدًا ومتفاعلاً مع العولمة التي طالت الحياة الإنسانية بمجمل قضاياها. تجدد يسعى الى التغيير بدون تمييز، وإلى تحقيق الوحدة في التنوع.
من حق المسلمين أن يسموا حضارتهم باسم الإسلام، وأن يعتزوا بها، ويفاخروا بأمجادها، وينهلوا من روحها، ويستنيروا بأنوارها، ويعيشوا قيمها، ويحملوا رسالتها. ولكن لا يحق للمسلمين أن ينسوا أن هذه الحضارة هي من صنع المسلمين والمسيحين معًا، وغيرهم من شعوب الشرق. وهي لم تتمكن من متابعة مسيرتها دون انفتاحها وتواصلها وتعاونها وتفاعلها مع العولمة.
لأنها كانت حضارة منفتحة وجامعة لكل المبدعين، ومتفاعلة مع كل الشعوب والمناطق، فهي مدعوة اليوم الى أن تكون حضارة الرحابة الإنسانية والمسكونية والكونية لخير الإنسانية كلها. وبقاؤها وتتطورها ورسالتها متوقفة على مدى قبولها للآخر والتكامل مع سائر الحضارات.
العودة الى الإسلام وعودة المسلمين الى دينهم هو حق وواجب. ولكن ليس من حق المسلمين أن لا يعترفوا بغير المسلمين في العالمين العربي والإسلامي، لأن هذا يتنافى مع روح الإسلام الذي يعترف بالأديان السماوية وحضاراتها، كما يعترف بالحرية الدينية.
نحن نعيش في عالم جديد يشهد تطورات كبرى، وتحولات عميقة وسريعة. بحيث أنها غيرت الكثير من المفاهيم والأفكار والسلوكيات والسياسات. فالوجود الإنساني وشواغله المركزية في المجتمع المعاصر، والمنجزات الإنسانية الهائلة التي تحققت، عليه أن يحمل معه الطمأنينة الداخلية، والسعادة الحقة، والتوازن المنشود في الكيان الإنساني لتأمين السعادة لكل إنسان في داخله وعلى أرضه.
هذا العالم الجديد هو عالم العولمة التي هي من علامات الأزمنة والمشروع الحضاري الكوني الجديد، الذي طال الإنسانية بمختلف أوجهها الثقافية والحضارية والدينية والسياسية والإقتصادية والإجتماعية والعلمية والإعلامية والتنموية. كل هذا كان بفضل الإنسان، وإرثه الحضاري والديني، وعقله الخلاّق وثورة التكنولوجيا والتواصل الإجتماعي. عولمة ألغت الحدود، وفتحت العالم على بعضه، ووحدته من خلال نشر قيمها الجديدة.
العالم العربي، بكل مكوناته، دخل في العولمة، وتبنى منظومة قيمها ومشروعها السياسي فتجسدت مفاهيمها في فكر وحياة جميع المواطنين، لاسيما في عقول وقلوب الأجيال الجديدة وبدأت تغيرهم في كل مجالات الحياة. ولكن، رغم إنجازات العولمة الهائلة، ورغم انخراط شعوب الأرض في مشروعها لاسيما جيل الشباب، فإنها ظلت عولمة مادية مفروضة على الإنسان، وهي بدون روح ولا رحمة.
إن نقد العولمة وتحريرها من كل التباساتها ومادّيتها هو من جوهر رسالة التجدد الحضاري العربي. وإذا كانت قد غيرت الكثير من فكر وأخلاق الأجيال الطالعة الإيجابية، فإنها في الوقت ذاته قد أغرتهم بماديتها وضعف أخلاقها، وقادتهم باللاوعي إلى التنازل عن الكثير من قيمنا الشريفة التي لا يجوز أن نُغيبها أو نُضيعها بل علينا استرجاعها مهما كلف الأمر.
آفاق الحوار واحترام الحريّة والهويّة
الحوار هو الاسم الجديد للمحبّة: محبّة الله ومحبّة الانسان، كل انسان، وصولاً الى محبّة الاعداء. أما المحبّة المتبادلة بين المسيحيين والمسلمين فهي أولوية وأسمى الفضائل والمقدسات.
الحوار هو ثقافة وعلم وأدب وفن ولاهوت وفقه وتربية وتواصل وإعلام. إنه لغة العالم، ومسعًى حسن ونبيل، للتعّرف على الآخر، الذي هو انسان مثلي، له كرامته وحقوقه وحرّياته وشخصيته وفكره ودينه، فما عليّ إلا ان احترمه وأعيش معه بأمان وسلام. علمًا انه ليس من شخص مرفوض من الحوار، ولا محرّماتٌ في الحوار إطلاقًا. إنّه دعوةٌ إلهيّة لجميع النّاس وحاجةٌ ضروريّةٌ للإنسان، ورسالة مهمّة صعبة وليست مستحيلة. إنّه خيار حرّ، وثقافة تتطلب معرفة الذات والآخرين معرفة حقيقيّة، وأيضًا هو تفكّر وبحث ونقد ومقاربات لتسوية الأمور الافتراقية. إنّه مسؤولية يجب تحمّلها بشجاعة ووعي والتزام، من اجل ازالة سوء الفهم، وتنقية الذاكرة، ورفض القطيعة، ووأد الفتنة التي تدّمر البشر والحجر.
من جوهر الحوار احترام الحريّة وحقّ الإختلاف. حريّةُ الفكر والتعبير والمُعتقد والضمير والإبداع. جاء في القرآن الكريم: "ولو شاء ربُّك لآمن مَن في الأرض كلٍّهم جميعاً أفأنت تكره النّاس حتى يكونوا مؤمنين" (يونس 99)، وأيضاً: "لا إكراه في الدّين" (البقرة 256)، وأيضاً: "إنّك لا تُهدي مَن أحببتَ ولكن الله يُهدي من يشاء" (القصص 56)، والقرآن يدعو إلى المساواة بين المتحاورين "وإنَّا وإيّاكم لَعَلَى هُدىً أو في ضلال مَبين" (سبأ 24)، ويحرّم الإكراه: "أفأنت تُكره النّاس حتّى يكونوا مؤمنين". ويقول في النهاية: "لكم دينكم ولي دين" (الكافرون 6)
إنّ التعدديّة الدينيّة والحضاريّة والثقافيّة والسياسيّة هي أولويّة في عصر العولمة، وحقيقة يجب الاعتراف بها واحترامها وإدارتها والتعامل معها بروح إيجابية لتصبح وحدة في التنوّع.
الشرق فيه تنوّع هويّات. نحن شعوب متنوعة متآلفة تغتني بالتنوع وتعيش على المشتركات. والهوية الدينية لها أهمية قصوى. وغالبًا ما تكون فوق الهويات الأخرى التي يحملها الإنسان. من هنا ضرورة بذل الجهود العلمية الواعية والمتواصلة لفهم الهويّة الدينيّة، في الإطار الثقافي والسياسي والقانوني والاجتماعي والأخلاقي والتربوي، لا سيما في إدارة النقاش الموضوعي للقضايا الدينيّة، في الظروف السياسيّة التي يسود فيها التوتّر والتشدّد والتعقيد والانقسام.
إنّ احترام الهويّات، وفهم المسيحيين للمسلمين والمسلمين للمسيحيّين، وفهم العالم للإسلام والإسلام للعالم، هو شرط أساسي لإحلال السّلام بين الأديان وبين الشرق والغرب.
لاهوت اللحظة وفقه اللحظة
لاهوت اللحظة وفقه اللحظة، فكر نيـّر لتقريب الناس في عصرنا، الى الله الخالق المّحب والمخلّص، من خلال ثقافتهم ودينهم وحضارتهم وعلومهم وابداعهم، لتحريرهم من أسر الماضي وظلامه وتخلّفه وعيوبه وخطاياه وكفره. وللتأكيد على ان الله حاضر وفاعل في كل زمان ومكان. وهو يحّبنا اليوم كما أحبّ الذين سبقونا. والروح الحّي والمحيي ينير طريقنا اليوم للالتزام بديننا، والتعبير عنه بلغتنا المعاصرة، وادبنا، وفننا، وابداعنا، وعدم تكرار ما فهمه وانجزه الآخرون.
صحيح اننا ننهل من كتبنا المنزلة، وتراثنا الاصيل، ومن السلف الصالح، ونحن ابناء التاريخ وورثته. انما الله يطالبنا اليوم بتجديد خطابنا الديني، وبالاجتهاد والتفسير العلمي والتأوين من أجل صنع التاريخ. والله سيحاسبنا على ما فعلناه في زماننا وما سنفعله في كل لحظة لكي نكون شهودًا حقيقيين، في عالم اليوم لحضور الله فينا واولويته، بالنسبة الينا.
فقه اللحظة هو دعوة الى المحّبة، والتعالي على الجراح، والتفكّر بخلاص الانسانية، والمراجعة النقدية، والتوبة والتسامح والغفران والمصالحة وتطهير النفس. وهو عمل مشترك بين الجميع، لإحياء القيم الإلهية والإنسانية والاخلاقية والاجتماعية والحضارية والعلمية في عالمنا، لانّ قضايا الانسان المعاصر هي واحدة، وهمومه ومشاكله وتطلعاته وآماله واحدة.
إن فقه اللحظة هو الطريق الحضاري لتجديد العالم الإسلامي، واسترجاع وحدة المسلمين، والمشاركة في الابداع. اذا كان الاسلام، في بداياته، قد سعى الى اقامة مجتمع مختلف ومتقدّم، فإن المسلمين لديهم القدرة اليوم على بناء مجتمع جديد، يكونون فيه شركاء فاعلين في صنع العولمة واقامة الدولة الحديثة.
نحن في زمن العولمة، عصر جديد نريده افضل كثيرًا من الماضي، يغلب فيه الحوار وليس الصراع او النزاعات الدامية والكراهية، ويسعى الى آفاق جديدة، بالرغم من كل سلبياته، لتحقيق التغيير الديمقراطي والعدالة الاجتماعية والسلم الاهلي.
في هذه الأزمنة الجديدة، علينا بناء عالم إلهي وانساني لا انفصام فيه، بل انفتاح وحّرية وتفاعل وتكامل وشراكة ووحدة في التّنوع، يؤسس لمشروع حضاريّ دينيّ ثقافيّ سياسيّ اقتصاديّ اجتماعيّ جديد، ويحدث التغيير الحقيقي على قاعدة الحّرية والحّق والمواطنة والعدالة والمساواة.
اللحظة التاريخيّة تتطلّب منّا الانفتاح على الاسلام والمسلمين، من إسلام الاعتدال والوسطية والتسامح، الى اسلام الحركات الإسلامية، وهم مسلمون، على تنوعهم، للتلاقي والحوار والدعوة الى التهدئة الشاملة، وإشاعة مناخات التقارب المسيحي الإسلامي وفضاءاته، والمواطنة، والمساواة، وبحث القضايا الخلافية، بإيجابية، بعيدًا عن العنف، وتقديم الحلول الايجابية لها لنعود الى وحدتنا الحقيقية وموّدة بعضنا.
في هذه اللحظة التاريخية الصعبة لا يجوز للمسيحيين أن يفتقدوا الرؤية الصحيحة، والمعرفة والوعي والارادة الصالحة، ليقفوا وقفة ضمير ووجدان ومسؤولية ومحّبة، متّخلين عن الخوف الذي يقودهم الى التلاشي والاضمحلال والغياب. عاملين بثبات على تجاوز الصعوبات والهموم والتحدّيات، وبناء الثقة والرجاء الذي لا يخيّب صاحبه.
إرادة المسيحيين الثابتة هي أنّهم لن يغادروا ارضهم، ولن يتخّلوا عن حرّياتهم وكرامتهم وحقوقهم ووطنهم وانتمائهم وتراثهم، ولا عن عيشهم الحضاري المشترك مع إخوانهم المسلمين، مدافعين عن الإسلام والمسلمين، وملتزمين بإحياء النهضة الجديدة التي يطمح اليها المسلمون والمسيحيون معًا.
الكنيسة والحوارا وعلاقتها بالمسلمين
الحوار هو خدمة ورسالة تقوم بها الكنيسة، عن طريق المحبّة والتواضع والسلام واحترام هويّة كل إنسان وثقافته وحضارته ودينه وخصوصيّته. فالكنيسة تعتبر أن هناك عناصر صحيحة ومقدّسة في الأديان الأخرى وشرائعها وفيها "شعاع من تلك الحقيقة".
كان للمجمع الفاتيكاني الثاني (1962 – 1965) دوره المشرق في بعث الحوار بين أتباع الأديان، لاسيّما مع المسلمين وهو يتحدث عن الإسلم في موضعين، الأول يقول فيه: "بيد أنّ تدبير الله الخلاصي يشمل أيضاً أولئك الذين يؤمنون بالخالق، وأولهم المسلمون الذين يعلنون أنهم على إيمان إبراهيم، ويعبدون معنا الله الواحد، الرحمن الرحيم، الذي يدين الناس في اليوم الآخر" (دستور عقائدي في الكنيسة، رقم 16).
إذا كانت العلاقة بين الإسلام والمسيحية تقوم على أساس الإيمان بالله تعالى وعبادته وطاعته، واحترام كل خلائقه، ومحبّته فوق كل شيء، وإلى محبّة جميع الناس، فالمجمع يعلن قائلاً: "وتنظر الكنيسة أيضاً بتقدير إلى المسلمين الذين يعبدون الله الواحد الحيّ القيوم، الرحمن القدير الذي خلق السماء والأرض، وكلم الناس. إنهم يسعون بكل نفوسهم إلى التسليم بأحكام الله، وإن خَفية مقاصده، كما سلم لله إبراهيم، الذي يفتخر الدين الإسلامي بالانتساب إليه، وإنهم على كونهم لا يعترفون بيسوع إلهاً، فإنهم يكرمونه نبياً، ويكرمونه أمه العذراء مريم، ثم أنهم ينتظرون يوم الدين الذي يجازي فيه الله جميع الناس، بعدما يبعثون أحياء. من أجل هذا يقدرون الحياة الأبدية ويعبدون الله بالصلاة والصدقة والصوم خصوصاً.
ولئن كان قد وقع، في غضون الزمن، كثير من المنازعات والعداواة بين المسيحيين والمسلمين، فإن المجمع يحرضهم جميعاً على نسيان الماضي، والعمل، باجتهاد صادق، في سبيل التفاهم فيما بينهم، وأن يحموا ويعزّزوا، كلّهم معاً، العدالة الاجتماعية والقيم الروحية والسلام والحريّة، من أجل جميع الناس"، (بيان في علاقة الكنيسة بالأديان غير المسيحية، رقم 3).
نحن ملتزمون بطاعة الله، والإصعاء إلى كلامه الحيّ، والاستجابة لدعوته إلى التلاقي والتعارف والتفاهم، والعمل في خدمة المحبّة: محبة الله ومحبّة الإنسان، ومحبّة إخواننا المسلمين، ومحبّة المسلمين لإخوانهم المسيحيين، واحترام هويّة كل إنسان وحضارته وثقافته ودينه وخصوصيّته، من أجل تحقيق الشركة في المحبّة والوحدة في التنوّع.
العيش المشترك المسيحي الاسلامي
التشارك والمشاركة فعلٌ إراديّ وعهدٌ وميثاق وشرف والتزام بالمشاركة بين المكوّنات المختلفة واستيعاب قضاياها بالوعي. فالتنوّع الإثنيّ والثقافيّ والدينيّ والطائفي والمذهبي والفكري والسياسي والإجتماعي يجب الإعتراف به، وحُسن إدارة الإختلاف بالحوار الدائم.
إنّ عالم اليوم يتّجه إلى الإعتراف بالتنوّع لأنّه يسعى إلى الوحدة. والوحدة لا تقوم إلاّ على أساس احترام التنوّع وليس إلغاء الآخر. والأنظمة الأحاديّة التي تدعو إلى إلغاء التنوّع والإقصاء والتكفير والعزل والإجتثاث هي أنظمةٌ لا تليق بالإنسان الحضاريّ، وهي لم يُكتب لها النجاح مهما كلّف الأمر.
إنّ العيش المشترك هو جزءٌ أساسيٌّ من تاريخنا الحضاريّ وحياتنا اليوميّة. إنّه موضوع اهتمامنا وتفكيرنا ورسالتنا. العيش المشترك هو صيغة إنسانيّة مسيحيّة إسلاميّة راقية لا يجوز التخلّي عنها إطلاقاً. إنّها صيغةٌ حضاريّة ديمقراطيّة توافقيّة تُنتجُ غنىً وليس تشنجاً. إنّها بحاجةٍ إلى حوار دائم وحسن إدارة من أجل استيعاب التنوّع القائم في المجتمع بهدف التفاعل والتكامل لأنّها من جوهر حضارتنا وحياتنا.
يقول بطاركة الشرق الكاثوليك: "إنّ العيش المشترك الذي يبدأ مع بدايات الإسلام، ويمتد قرونًا طويلة، وحتى أيامنا، هو أحد التجلّيات الحضارية الإسلامية المسيحية التي يعيش فيها الناس، بحّرية وكرامة وعدل ومساواة وسلام ومحّبة، بعيدًا عن روح الأقلية والطائفية والمذهبية والذميّة. إن الكنيسة، في لبنان والشرق، تدعو بضرورة إحياء العيش المشترك وصونه وعيشه وتطويره وتقدّمه إذ قال بطاركة الشرق، الكاثوليك في هذا الموضوع : "إن عيشنا المشترك الذي يمتّد على قرون طويلة، يشكّل، بالرغم من كل الصعوبات، الأرضية الصلبة التي نبني عليها عملنا المشترك، حاضرًا ومستقبلاً، في سبيل مجتمع متساوٍ ومتكافئ، لا يشعر فيه أحد، أياً كان، أنه غريب أو منبوذ. إننا ننهل من تراث حضاري واحد نتقاسمه. وقد أسهم كل منا في صياغته، انطلاقًا من عبقريته الخاصة. إن قرابتنا الحضارية هي إرثنا التاريخي الذي نصرّ على المحافظة عليه وتطويره وتجذيره وتفعيله كي يكون أساس عيشنا المشترك وتعاوننا الأخوي. إن المسيحيين في الشرق هم جزء لا ينفصل عن الهويّة الحضارية للمسلمين، كما أن المسلمين في الشرق، هم جزء لا ينفصل عن الهويّة الحضارية للمسيحيين. ومن هذا المنطلق، فنحن مسؤولون، بعضنا عن بعض، أمام الله والتاريخ. ولذا، يتحتم علينا أن نبحث، بشكل مستمر، عن صيغة، لا للتعايش فحسب، بل للتواصل الخلاّق والمثمر الذي يضمن الاستقرار والأمان لكل مؤمن بالله في أوطاننا، بعيدًا عن آلية الحقد والتعصّب والفئوية ورفض الآخر"(الكنائس الكاثوليكية في الشرق بين الأمس واليوم، رقم 9-10).
ويخلص البطاركة الى القول: "نحن المسلمين والمسيحيين لسنا جبهتين أو حزبين متواجهين، بل إننا جميعًا، وقبل كل شيء، أمام الله، وهو رّب العالمين، وليس ملكًا لأحد. وكلّنا منه وله وإليه. لا نقدر بتاتًا أن نقبل الآخرين الذين يضعهم الله في طريقنا، ما لم نقبل الله أوّلاً في حياتنا.
وكلّما اكتشفنا الله، اكتشفنا أيضًا قدسية الإنسان. لأن كل وجـه إنسانيّ يمثّل خليقة فريدة، خلقها الله لتكون "خليفته على الأرض". إن عيشنا المشترك هو من صميم وقوفنا أمام الله. فلنقف معًا أمامه، ونبحث عمّا يريده لمجتمعنا، ومن خلاله، للبشرية جمعاء، فنتّحد بعضنا ببعض اتّحادًا روحيًا باسم الله، وبهذا الاتحاد نمّجد اسمه تعالى في شرقنا العزيز، الذي ندعو الله أن يكون دائمًا أرضًا طيّبة لعبادة الله، ولرقيّ الإنسان"(العيش المشترك، رقم 48).
رسالة المسيحيين العرب الى العالم
ركّز بطاركة الشرق الكاثوليك على دور المسيحيين الايجابي في التقريب بين الشرق والغرب وبين المسيحية والإسلام، فقالوا: "وفي مجال التلاقي الاسلامي المسيحي، على الصعيد العالمي، يحدّد المسيحيون موقفهم بكل وضوح. فهم مع العرب المسلمين أبناء أوفياء لاوطانهم وأبناء حضارة عربية، واحدة بجميع مقوماتها، في ما يحقّق خير الانسانية جمعاء. وهم، في الوقت نفسه، مسيحيّون، ومع جميع المسيحيّين في العالم، مؤمنون بالسيّد المسيح، كلمة الله الازلي. ومن هذا المنطلق، يرون ان لهم دورًا في تقريب المواقف بين العالم المسيحي والعالم الاسلامي، وفي تحويل الصراع الى تعاون ايجابيّ مبنيّ على الاحترام المتبادل.
وهم يقولون للعالم الغربي إن الإسلام ليس العدّو، بل هو أحد أطراف الحوار الذي لا يمكن الاستغناء عنه في بناء الحضارة الانسانية الجديدة..
ويقولون القول نفسه للشرق المسلم : ان المسيحية في الغرب ليست عدوًّا بل هي طرف أساسي في حوار لا بدّ منه لبناء عالم جديد.
إنّ المسيحيّين في العالم العربي يتطلعون الى ان يكونوا جسور حوار وتفاهم بين هذين العالمين المتقابلين. فالقرابة الحضارية التي تجمعهم بالمسلمين في الشرق، والشركة الايمانية التي تجمعهم بالمسيحية في كل مكان، تؤهلّهم احسن تأهيل ليقوموا بهذا الدور الحضاري" (العيش المشترك بين المسلمين والمسيحيين في العالم العربي، رقم 40).
ندين ونرفض العنف
اننا ندين العنف، ونرفض الحرب، ونقاوم الارهاب لأنه عدوان على الانسان والمجتمع والوطن والدين وعلى المواطنين والمؤمنين جميعاً.
نرفض العنف الفكري والكلامي والديني والجسدي والنفسي لأنه يُشعل روح الكراهية، ويثير الغرائز، ويُعلي من شأن الخطاب الديني السياسي التصعيدي الذي يعقّد الأمور ولا يحلّها. ويستعمل الدين في خدمة مآرب سياسيّة، وأغراض إقتصاديّة، وتفسير النصوص الدينيّة في خدمة المصالح الخاصة. إن ربط الدين بالعنف يتنافى مع حقيقة الدين ورسالته، لأنّ الدّين هو ايمان بالله تعالى، وعامل تقريب وتقارب ومحبّة ووحدة وليس مصدر عنف وكراهية وانقسام.
نرفض القتل، لأن وصيّة الله تعالى للانسان واضحة وهي تقول :"لا تقتل". حياة الانسان مقدسة، والله وحده سيّد الحياة، وليس لأحد في أي ظرف من الظروف ان يدّعي لنفسه حقّ قتل انسان بريء.
السيد المسيح يقول: "سمعتم انه قيل للأقدمين: "لا تقتل" فإن من قتل يستوجب المحاكمة". أما أنا فأقول لكم: "انّ كلّ من غضب على أخيه يستوجب المحاكمة". (متى 5، 21-22)
إذًا الانجيل واضح في وصيّة لا تقتل، ويضيف اليها منع الغضب والضغينة والخصام والعداوة والثأر، ويطلب من تلاميذه اكثر من ذلك فيقول: "من ضربك على خدّك الأيمن، فاعرض له الآخر" (متى 25 ، 39).
والقرآن الكريم يقول: "إنه من قتل نفسًا بغير نفس أو فساد في الأرض فانما قتل الناس جميعًا ومن أحياها فكأنه أحيا الناس جميعاً (المائدة 32). العنف ليس من الاسلام ولا من قيمه ومبادئه بل هو تشويه للإنسان المسلم وغير المسلم. كما لا يجوز خلط الاسلام بالإرهاب والعنف. الله لا يقتل من يخالفه الرأي ولا يطيعه، لأنه غفور رحوم ومحبّ للبشر. لا دينونة لأحد على يد انسان لأن الله هو الديّان الأوحد. لا حرب مقدّسة، ولا السيف سيف الله، ولا البندقية بندقية الله. لا كفر ولا تكفير. الانجيل يقول لنا: "كل من يقول لأخيه يا كافر يستحقّ نار جهنم". الله هو اله السلام. والاسلام والمسيحية هما دين التسامح والعدل والسلام والمحبّة.
نرفض كلّ أشكال الإرهاب والتطرّف وصراع الحضارات والثقافات والأديان. ونرفض إقتلاع المسيحيّين من أرضهم وحرمانهم من حقوقهم، كما نرفض إشعال الفتنة السنيّة الشيعيّة وكلّ أنواع الفتن الطائفيّة التي تهدّد السلم الأهلي والسّلام العالمي.
نرفض أن يُصبح العيش المشترك بدون المسلمين والعالم العربي بدون المسيحيّين. نرفض التخلّي عن الوحدة الإسلاميّة الإسلاميّة والوحدة الإسلاميّة المسيحيّة في عالمنا العربي والمشرقي.
إنّنا نُدين بكلِّ وعيٍ وعقلانيّة ونقاوم بكلّ جديّة المشروع الصهيوني العنصري الإستيطاني الذي حوّل فلسطين إلى دولة إسرائيل اليهوديّة وعاصمتها الأبديّة القدس قدسنا الشريف الذي ينادينا إلى الوحدة من أجل خلاص عاصمة فلسطين العربية والإسلامية وكل فلسطين.
نرفض كلّ مشروع سياسي على صورة إسرائيل ومثالها وكلّ تقيّاته وفكره وعنصريّته. نحن مع ثقافة الوحدة والسّلام والمحبّة، وضدّ ثقافة الفتنة والتقسيم والكراهيّة. نحن ضدّ تعريب المشروع العنصري الصهيوني بأيّ شكلٍ من الأشكال لأنّه حرب دائمة ضدّ النهوض والوحدة والسّلام.
دعاء
أيّها الأخوة إن الله هو رّب العالمين الرحمن الرحيم. والإسلام يتّسع لكل أبناء البشر. والمسيحيّون أخوة وأخوات وهم يعانون معكم من أية حرب مدمّرة. هلّموا الى التلاقي والحوار والتهدئة والتفاهم من أجل وقف الحروب والخصومات والإنقسامات والخوف والرعب والموت والتهجير. تعالوا نجتمع معاً، من أجل هدم جدران العداوة التي تفصلنا عن بعضنا. وبدل أن نُشعل نار الفتن، فلنشعل روح المصالحة والغفران والحبّ فينا.
جمال حياتنا شوّهها العنف والعداء المتبادل والإرهاب. نحن نصالح الكل، ونسامح الكل. ونغفر للكل، ونحّب الجميع وندعو الى محبّة بعضنا بعضًا محبّة صافية ومجانيّة. نقول لكم ليس لنا أن نحكم العالم لأن الحاكميّة هي لله بل علينا وقف حروبنا التي هي ضدّ الله وضدّ بعضنا، والعمل على خلاص الانسان والانسانية، وترسيخ السلام والوئام بين المسلمين أوّلاً وبين المسلمين والمسيحيّين تالياً، وفي العالم كلّه.
فعلى هدى ما ورد آنفاً، نرى أنّ القرآن الكريم يدعو المسلمين والمسيحيين الى التلاقي، والى كلمة سواء، من أجل استقامة الإيمان، وحسن السّلوك، وحلّ قضايانا بالحوار: "قل يا اهل الكتاب تعالوا الى كلمةٍ سواء بيننا وبينكم ألاّ نعبد إلاّ الله ولا نُشْرِك به شيئًا ولا يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا من دون اللهِ" (آل عمران 64) .
|