المؤتمر القومي العربي
ARAB NATIONAL CONFERENCE
المؤتمر السابع والعشرون
19 – 20 نيسان/أبريل 2016
الحمامات - تونس
التوزيع: محدود
الرقم: م ق ع 26/وثائق 7
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
التنمية المستقلة
الأهمية المنسية للقضايا الدنيوية في النزاعات والفتن العربية **
د. جورج قرم *
ــــــــــــــــــــــــــــ
* مفكر ووزير لبناني سابق.
** لا تعبر هذه الورقة بالضرورة عن رأي الأمانة العامة للمؤتمر القومي العربي.
الأهمية المنسية للقضايا الدنيوية في النزاعات والفتن العربية
جورج قرم
المقدمة: كيف يحول توظيف الدين في السياسة دون فهم القضايا الدنيوية الاقتصادية والاجتماعية
منذ زمن الحرب الباردة ونحن دخلنا في زمن قلق حيث أخذت النقاشات الدينية الطابع حيزاً واسعاً من القدرات الفكرية العربية وكأن جميع مشاكلنا تتعلق بقضايا دينية وفقهية ولاهوتية وقد تمّ تدريب عشرات آلاف من الشبان العرب للذهاب الى القتال في أفغانستان في الثمانيات بحجة محاربة الملحدين السوفيات وكأن قضيتنا المركزية وهي فلسطين الواقعة تحت قبضة الصهاينة لم تعد ذي أهمية فالكيان الصهيوني كان قد احتل مزيد من الأراضي العربية باحتلاله جزء كبير من جنوب لبنان عام 1978 ومن ثمّ احتلال عاصمة لبنان بيروت في عام 1982. فلم تحرّك الأنظمة العربية ساكناً وهي أصبحت منشغلة في القتال في أفغانستان التي لم يكن للعرب أي مصلحة حيوية يجب الدفاع عنها في هذا البلد.
وفي نفس الفترة التاريخية انشغلت الأنظمة العربية والمثقفين العرب بإقامة نظام دستوري إسلامي في إيران التي أصبحت تُعادي الامبريالية الأميركية والصهيونية كبديل من جهة وبما سُمي "الصحوة الإسلامية" وما نتج عنها من دعم العديد من الحركات العربية الإسلامية كبديل للفكر القومي العربي الذي دخل بالتالي في مسار تراجعي. وقد رأى العديد من المثقفين العرب، ومنهم تقدميين سابقين بان الدين الإسلامي قد يكوّن المخذون الهويتي الذي يحتاج إليه العرب بعد سوء أداء الأنظمة العربية التي كانت ترفع راية القومية العربية. وفي الفترة نفسها زاد الاهتمام بالعمل على انتشار هذه الصحوة الإسلامية وتصديرها الى جميع الدول العربية والى دول افريقية وآسيوية .
والجدير بالذكر أيضا ان هذا الزمن كان زمن إنشاء المصارف الإسلامية وانتشار التشدد في تطبيق مبادئ الشريعة الإسلامية. كما لا بد من التذكير بإنشاء مؤتمر الدول الإسلامية والمنظمة الإسلامية للعلوم والثقافة ومؤسسات دولية إسلامية أخرى مختلفة خلال نفس الفترة الزمنية، مع العلم ان ، كل هذا لم يمنع الاقتتال الشرس بين دول إسلامية، مثل الحرب العراقية - الإيرانية ومن بعدها غزو الكويت من قبل العراق، وكذلك الحروب الأهلية الفتّاكة في أفغانستان وفي الصومال وفي الجزائر ومؤخرا في ليبيا وسوريا على سبيل المثال. وفي كل هذه الأوضاع العنفية نرى توظيف شعارات دينية ومذهبية وكأن للعرب قضية واحدة ألا وهي الاتفاق على الأمور الدينية لكي تستتب الأوضاع.
والحقيقة ان هذه الموجات من العنف الفتّاك لها مصادر غير دينية قلّما تبحث بجدية لكي نخرج من المحنة التي نعيشها منذ عقود، بل يبدو ان التجاهل المتواصل لمصادر الفتن الدنيوية الطابع، وخاصة الاقتصادية والاجتماعية، هي التي أدّت الى أوضاع الفتن المتنقلة من بلد عربي الى آخر، واعني هنا الفشل التنموي الذريع في كل أنحاء العالم العربي الذي أدّى الى تهميش فئات اجتماعية واسعة جداً من المجتمعات العربية، خاصة في غياب فرص العمل اللائقة للعنصر الشاب من الذكور والإناث. ومن المستغرب في هذا الخصوص بأن موجة الانتفاضات الشعبية العربية التي اجتاحت كل المجتمعات العربية في بداية سنة 2011 لم تنتج أي نموذج تنموي بديل عن النموذج الذي نسير عليه منذ سياسة الانفتاح الاقتصادي الذي بدأ بها الرئيس المصري الراحل أنور السادات والذي تعمم الى كل المنطقة العربية في ظل هيمنة النظام النيوليبرالي المعولم.
نجد أنفسنا اليوم كعرب خارج كل قنوات إنتاج العلوم والتقنيات والتكنولوجيات والابتكارات التي تؤمن كرامة الشعوب في النظام الدولي. فنحن العرب نتكّل اليوم على الخارج لتأمين معظم احتياجاتنا من الغذاء والتجهيزات الصناعية الأساسية ومن السلع والأدوات الاستهلاكية الشائعة ومن السلاح. وفي نفس الوقت تتواصل هجرة الأدمغة والكفاءات العربية الى خارج الوطن بحثاً عن العيش الكريم والحياة المهنية اللائقة، كما ان موجات هجرة عائلات فقيرة ومهمّشة بكاملها عبر المتوسط وتعرّض حياة أفرادها الى الغرق في البحر لهي دليل إضافي على فقدان الإنسان العربي لأي ارتباط عميق بالبيئة العربية التي يعيش فيها والتي لم توفر له الحدّ الادنى من الكرامة الاقتصادية الاجتماعية.
وهنا تُطرح مجدداً مسألة هذه الأهمية الاستثنائية المُعطاة للقضايا الدينية في المنطقة أو لقضايا إرساء الديمقراطية الشكلية أو بالمطالبة بتجدد الخطاب الديني وكأن الإصلاح الديني لم يحصل في بلادنا خلال فترة النهضة العربية في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين: كل هذه الأمور التي تُناقش بلا هوداه في كل الأندية ووسائل الإعلام والأكاديميات هي لا جدوى فيها بل قد تواصل حجب الحقائق الاقتصادية والاجتماعية التي نتجنب تناولها بالحد الادنى من العمق والجدية. وهذا ما يسمح لشبكات الاستغلال الريعي للموارد العربية بأن تكمل في احتكار الثروات العربية وسوء استعمالها لصالح قلّة قليلة من الدائرين حول الحاكمين وكذلك لصالح الدوائر الاقتصادية الخارجية.
وهذا يدلّ بما لا لبس فيه على دور توظيف الدين في السياسة في حجب رؤية المشاكل الحقيقية والدنيوية الطابع التي تتخبط فيها الشعوب العربية وإيهام الرأي العام بأن المشاكل والفتن فيما بين العرب واو المسلمين هي محصورة في أمور دينية ومذهبية أو في قلة أو كثرة التديّن ومظاهرها الخارجية.
وطالما لن نعالج الأسباب الدنيوية الحقيقية لعهد الانحطاط والفتن والتدمير الذاتي الذي نعيشه منذ بدايات الحرب الباردة وتوظيف الدين فيها من قِبَل الدوائر الحاكمة الأميركية، فإننا لن نتمكّن من السيطرة على هذه اللعبة البشعة التي تصبّ لمصلحة دوائر القرار السياسي والاقتصادي لحلف الـ"ناتو". لذلك على مؤتمر القومي العربي ان يعمل من أجل تغيير الثقافة السياسية الحالية تغييراً جذرياً والدخول في تفكير معمّق من أجل تغيير السياسات الاقتصادية والاجتماعية المعمول بها في منطقتنا العربية لكي نقضي على البيئة الحاضنة للفتن فيما بين العرب.
وهذا يتطلب أموراً عديدة سنسعى هنا الى تحديدها وتلخيصها لكي ننتقل الى ثقافة سياسية تركّز على القضايا الموضوعية الدنيوية الحقيقية للشعوب العربية وتجد لها الحلول المناسبة التي يجب ان يعتمدها العنصر الشاب الذي عليه ان يبني مستقبلاً أفضل خارج أطر النيوليبرالية وعدم إعطاء القضايا الدينية أهمية مصطنعة مما يؤجّج الايديولوجيا السامة لـ"صراع الحضارات" وهي ايديولوجيا وقع ضحية لها العديد من المثقفين العرب الباحثين عن مخزون هويتي وتراثي بدلا من ان يبحثوا عن أساليب تملّك العلوم والتكنولوجيا وتوطينهما في المجتمعات العربية لكي يصبح لكل عربي فرصة إيجاد العمل اللائق والمنتج ولكي تتحول الاقتصادات العربية من نظام ريعي ظالم وفاشل الى نظام إنتاجي وابتكاري كما فعلته مجتمعات أخرى في ظل نفس ظروف العولمة الاقتصادية.
مكونات النمو المشوّه في الوطن العربي:
1- الطابع الريعي غير المنتج للاقتصادات العربية
ان الاقتصاد العربي هو اقتصاد ريعي يؤدي الى تشوه التنمية، وتتلخص الاقتصادات العربية بالسمة الغالبة عليها المتمثلة بقاعدتها الريعية التي تحول دون الدينامية والتنويع الاقتصادي والتصنيع الحقيقي وأنشطة الخدمات ذات القيمة المضافة المرتفعة وهي الوحيدة التي يمكن ان تؤمّن فرص العمل بالأعداد الكافية واستنفار المجتمع بكل فئاته الاجتماعية من أجل الخروج السريع من حالة التخلف الاقتصادية والاجتماعية والعلمية وبالتالي الخروج من التبعية والاتكال على الدول المتقدمة.
وليس من السهل التخلص من مصيدة النمو المشوّه الذي يعتمد أساساً على عائدات ريعية دولتية وفردية تتمحور حول تصدير المواد الأولية، ونشاطات السياحة، والاستثمارات العقارية، أرباح الاستيراد وأنشطة التجارة المحلية. ولقد ساهمت هذه الأنشطة في جمود البنية الاجتماعية الاقتصادية المتّسمة بانعدام الدينامية والتنويع والتفاوت في الدخل بين المناطق المختلفة في البلد الواحد. ويظهر هذا التفاوت في الدخل في الهوة المتزايدة بين سكان المناطق الريفية التي ما زال يعيش فيها قسم كبير من السكان في البلدان والعائلات الميسورة مادياً في المراكز المدينية الكبيرة.
ولقد أظهر التاريخ أن الاقتصادات ذات القاعدة الريعية قد أنتجت على الدوام أنظمة سياسية استبدادية، تعتبر النخب الحاكمة فيها الموارد الطبيعية والبشرية بمثابة ملكية إقطاعية موروثة لها، تستطيع التصرف بها كما يحلو لها. ولقد كان صعود الديمقراطية في أوروبا عبارة عن مسيرة طويلة على طريق تفكيك الدولة الوراثية (الباترومونيالية) وتغيير ثقافتها الاقتصادية والسياسية لوضع أسس الحريات الفردية و مساءلة النخبة الحاكمة من قبل مواطنيها.
2- أدنى معدل عالمياً من السكان العاملين الى العدد الإجمالي للسكان
تظهر إحصاءات منظمة العمل الدولية أنّ نسبة السكّان العاملين الى العدد الإجمالي للسكان في البلدان العربية والتي تبلغ في المتوسط 45 % تتعارض في شكل حاد مع المعدل العالمي الذي يبلغ 61.2% ومعدل شرق آسيا الذي يصل إلى 70%. إلى ذلك، فإنّ إحصاءات العمالة في البلدان العربية تظهر انخفاضاً كبيراً في معدل مساهمة النساء في أسواق العمل ونسبة عالية جداً من العمل غير الرسمي التي تنتج عائدات ضئيلة جداً. وتبلغ هذه النسبة 70% من مجموع العمالة في المغرب و48% في مصر .
3- أعلى معدل عالمياً بطالة بين السكّان العاملين في سن العمل
إذا كان معدّل البطالة الإجمالي في العالم العربي لا يبدو مرتفعاً جداً (نحو 10%) رغم أنه الأعلى في العالم (باستثناء اسبانيا وأوروبا الوسطى)، فإنّ معدل البطالة بين الشباب (بين 15 و35 سنة) هو أعلى بكثير (نحو 25%) فيما تراوح هذه النسبة في أماكن أخرى من العالم النامي بين 8,9% و15,7 %. ومن الخصائص الأخرى لبطالة الشباب في البلدان العربية، النسبة العالية جداً من البطالة في صفوف خريجي التعليم العالي والثانوي. وهكذا قفزت نسبة العاطلين من العمل بين ذوي التعليم العالي من 3.8% في 1994 إلى 17,5% في عام 2006 فيما ارتفعت نسبة الباحثين عن عمل من ذوي التعليم العالي من 23% في عام 2001 إلى 55% قي عام 2007، فيما كانت نسبة عروض العمل أدنى كثيراً من ذلك. وتقدّر نسبة غير العاملين من ذوي التعليم الثانوي في مصر بنحو 80% من مجموع العاطلين عن العمل. وهي تبلغ في المغرب 29,6% وتبلغ 37,8 في الجزائر و42,5% في تونس .
4- ركود الأجور الحقيقية ومؤشرات الفقر
أضف إلى ذلك، إنّ منظمة العمل الدولية تقول ان الأجور الحقيقية في منطقة الشرق الأوسط أو شمال افريقيا لم ترتفع إلاّ قليلاً، هذا إذا كانت قد ارتفعت أصلاً. وذلك فضلاً عن أنّ إنتاجية العمال التي يستند اليها في تحديد الأجور الحقيقية ارتفعت بنسبة اقل في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من أي مكان اخر في العالم باستثناء أوروبا الوسطى وآسيا الوسطى اللتين خضعتا لإعادة بناء اقتصادي شامل، فالحد الادنى الرسمي للأجور في عيّنة من خمسة بلدان: اربعة عربية وتركيا (الجزائر والأردن والمغرب وسوريا وتركيا) منخفض في شكل حاد. إذ يراوح بين 164 دولار أميركي شهرياً في سوريا و 425 دولاراً في تركيا، فيما يبلغ الحد الأدنى للاجور للعمل غير الزراعي في المغرب 235 دولاراً ولا يتعدى 152 دولاراً للعمل الزراعي .
ويقدر مصدر إحصائي آخر انّ المعدل السنوي للدخل الفردي في المناطق الريفية في البلدان العربية لا يزيد عن 320 دولاراً في عام 2008 في حين بلغ معدل الناتج المحلي الإجمالي للفرد للعام نفسه (بما في ذلك البلدان المصدرة للنفط في شبه الجزيرة العربية) 5858 دولاراً .
الى ذلك، فإنّ الإحصاءات المتوافرة حول الفقر في منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا تؤكد أن عدد الناس الذين يعيشون في حال الفقر قد غولي كثيراً في التقليل من حجمه. ذلك انّ حصة الناتج المحلي الإجمالي مقابلة باستهلاك الفرد يومياً محسوباً بالدولار الأميركي يظهر مدى الفقر على المستوى الوطني في بلدان عربية عدة، فهي تراوح بين 2,34 دولار في موريتانيا و11,05 في الأردن، على الرغم من ان الاستهلاك اليومي للفرد يبلغ نحو5 دولارات في معظم الحالات (باستثناء لبنان الذي يصل فيه الى 22,36 دولار بسبب النسبة المرتفعة لتحويلات المغتربين في الناتج المحلي الإجمالي).
إنّ معدلات الفقر هي جد مروعة لأنّ منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ليست غنية جداً بالموارد النفطية والفوسفات فحسب، بل لأنها ايضا تملك أراض خصبة شاسعة وموارد مائية (العراق ومصر ولبنان والمغرب والسودان وسوريا وتونس).
5- معدلات النموّ السنوية تعتمد بشكل كبير على المتغيرات الخارجية
ان معدلات النمو في الاقتصادات العربية مرتبطة الى حدّ بعيد بالمتغيرات الخارجية، وهذه المتغيرات هي:
- أسعار النفط
- تساقط الأمطار الذي يؤثر على الإنتاج الزراعي
- عائدات السياحة
- تحويلات المغتربين
- المساعدات الخارجية
وفي الواقع، فإنّ المحرك الرئيسي للنمو في البلدان العربية ليس محلي المركز (التجديد الصناعي، التنويع الاقتصادي، الخدمات ذات القيمة المضافة المرتفعة التي يمكن تصديرها) بل هو يعتمد إلى حد كبير على متغيرات خارجيّة لا علاقة لها بالدينامية الاقتصادية المحلية.
6- الهجرة ونزوح الأدمغة كمؤشر رئيسي على النمو القاصر
تنجم تزايد ظاهرة الهجرة عن ارتفاع معدل البطالة، في البلدان العربية، وبحسب دراسة لمنظمة العمل الدولية، فإنّ تدفق المهاجرين من منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وخصوصاً البلدان الواقعة جنوب المتوسط، هو أحد السمات الرئيسيّة للنمو المنحرف وما ينتج عن ذلك من تشويه لأسواق العمل. إذ بلغ عام 2007 المجموع المتراكم لعدد المهاجرين من خمس دول: الجزائر ومصر ولبنان والمغرب وتونس 8,1 مليون نسمة. والجدير بالذكر، أنّه بين عامي 1998 و2007 تضاعف عدد المهاجرين من البلدان العربية الخمسة بالرغم من الإجراءات التقييديّة التي اتخذها عدد من الحكومات الأوروبية. فارتفع العدد من 90,800 مهاجر في عام 1998 إلى 195,600 في عام 2007 وبلغ العدد الإجمالي من المهاجرين الجدد في خلال هذه السنوات 1,550,000 منهم نحو 100 ألف من البلدان الخمسة إضافة إلى العراق، والجدير بالذكر ان عددا كبيرا منهم (قدّر مؤخراً بـ 54%) لا يعودون إلى بلدانهم. والحقيقة أنّ هذه الطفرة تكتسب في شكل متزايد شكل هجرة الأدمغة واليد العاملة المؤهلة. ولقد أدى ذلك الى مزيد من الانحدار في الإنتاجية والى أن تصبح الهجرة واحدة من ملامح النمو المشوّه موضع اهتمامنا .
وبالطبع ليست البلدان العربية هي الوحيدة التي تواجه مثل هذه الظاهرة، فهي موجودة ايضا في بلدان افريقيا جنوب الصحراء واميركا الوسطى والجنوبية وآسيا. ولقد تحدث العديد من الدراسات بشكل ايجابي عن مزايا الهجرة وعن الدور الايجابي لتحويلات المهاجرين لبلدان منشأهم في الحدّ من مشاكل الفقر والبطالة. ولكن بات جليّاً الآن أنّ البلدان التي شجعت بل حتى نظّمت الهجرة الكثيفة لمواطنيها لكي تستفيد من تحويلاتهم لم تكن اقتصاداتها هي التي نمت اسرع من غيرها. وفي واقع الأمر فإنه في 11 بلد معني بشكل خاص بتصدير اليدّ العاملة (الجزائر وبنغلادش ومصر والهند ولبنان والمغرب ونيجيريا والفيليبين وسيريلانكا والسودان وتونس) ازداد إجمالي تحويلات المهاجرين 800% بين عامي 1990 و2007 ووصل إلى 800 مليار دولار، في حين أنّ معدل زيادة الدخل الإجمالي المحلي للفرد لم يتعد خلال هذه الفترة 170 % وقد كان هذا الدخل في سبعة من هذه البلدان أقل من 2000 دولار في السنة في عام 2008 وفي 5 منها اقل من 1000 دولار . وبالتالي فان هذه الإحصاءات تظهر بوضوح غياب أي تأثير ايجابي للهجرة في البلدان المصدرة للقوى العاملة.
وفي الفترة نفسها، تلقّت مجموعة الدول التي صدّرت الموارد الطبيعية والبشرية ما يزيد عن 190 مليار دولار كمساعدات تنموية، أي ان هذه الدول استفادت بين عامي 1990 و2008 من نحو 1000 مليار دولار من الموارد الخارجية من دون أن يدخل أي منها في دائرة حميدة من تنمية قائمة على سياسة ديناميّة لتملك التكنولوجيا، وذلك بخلاف الدول الآسيوية التي، وبدلاً من أن تشجع الهجرة، اعتمدت على سياسة تعبئة فاعلة للموارد البشرية المحلية واستفادت من انتشار العولمة بتنمية قدرتها على تصدير السلع والخدمات ومن ثم تلبية الطلب المحلي.
إنّ حالتي نيجيريا التي بلغت حصة الفرد فيها من الناتج المحلي الاجمالي 1370 دولار في عام 2008 والجزائر التي ارتفع نصيب الفرد فيها من الناتج المحلي الإجمالي الى 4845 دولاراً في العام نفسه بعد جمود على مستوى أدنى من 2000 دولار على مدى 10 سنوات قبل أن يتحرك صعوداً أخيراً بفعل ارتفاع أسعار النفط. انّ هاتين الحالتين تعبّران بشكل مأساوي فشل نموذج اقتصادي مبني على تصدير مواد أولية ويد عاملة، ذلك أنّ أيّاً منهما لم يتمكن من رفع مستوى المعيشة في شكل جوهري، على الرغم من تدفق الموارد المالية من قطاع الطاقة وذلك بخلاف بلدان اخرى لم يكن لديها مثل هذا الدخل ذي القاعدة الريعية. واندونيسيا هي ايضاً مثال على ذلك. فعلى الرغم من كونها مصدر رئيسي للبترول والخشب وعلى الرغم من مواردها الطبيعية الهائلة، فإنّ نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي بين عامي 1990 و 2003 كان منخفضا الى حد انه راوح بين 640 و1000 دولار. وكما في الحالة الجزائرية، فإن نصيب الفرد الاندونيسي من الناتج المحلي الإجمالي لم يرتفع بشكل جوهري إلا بعد الطفرة المذهلة في ارتفاع أسعار النفط منذ عام 2005، ما رفع دخل الفرد الى مستوى ال 2246 دولار في عام 2008. وعلى سبيل المقارنة، فإنّه في العام 2008 كانت 3 اقتصادات، لا تملك أي موارد طبيعية، إلاّ أنّها لم تشجع هجرة مواردها البشرية، تحظى بمتوسط سنوي لحصّة الفرد من الناتج المحلي الإجمالي يفوق كثيراً تلك التي ذكرناها أعلاه: جمهورية كوريا الجنوبية حيث نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي هو 19,115 دولار وسنغافورة بمستوى 37,597 دولار للفرد وتايوان بـ16,988 دولار للفرد.
وفي الواقع، فلقد تلقّت بلدان عربية في شرق المتوسط وجنوبه بين عامي 1970 و2009 ما يعادل 396 مليار دولار. ولقد ازداد تدفق تحويلات المهاجرين في شكل متواصل خلال السنوات العشرة الأخيرة. فارتفعت من 10 مليارات سنويا في عام 2000 الى 27 ملياراً في حلول عام 2009. وقد أصبحت تمثّل جزءاً متزايداً على نحو مضطرد من الناتج المحلي الاجمالي في الدول المعنيّة اذ بلغت نحو 20% في لبنان و6% في مصر و9% في المغرب وذلك بحسب احصاءات البنك الدولي.
إلى ذلك‘ فإنّ البيانات المتوافرة حول استخدامات تحويلات المهاجرين تظهر أنّها عندما لا تستخدم في زيادة الاستهلاك، فإنّها تتجه الى امتلاك او إشادة المساكن أو إلى الأعمال التجارية الصغيرة، الأمر الذي يزيد من تركز الاستثمار المحلي في قطاع العقارات او في قطاع التجارة المحلية .
7- التمركز العالي للاستثمار في قطاعات قليلة بما يعيق تنويع الاقتصاد
على الرغم من النمو الكبير للاستثمار الأجنبي في المنطقة العربية، إلاّ أنّ ذلك لم يؤد الى نهضة اقتصادات المنطقة، بل إنّ هذه الاستثمارات ظلّت اقل من مثيلاتها في الاقتصادات الناشئة الاخرى. إلى ذلك، فإنها شجعت على تركز الاستثمارات في عدد قليل من القطاعات، بعضها ذات قيمة مضافة متدنية ومخاطره ضئيلة (النفط، الغاز، القطاعات البتروكيميائية، الابنية الفخمة والسياحة). وهذا يبدو واضحاً من البيانات المتوافرة حول بعض اقتصادات منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وعلى سبيل المثال، يلاحظ تقرير للـ أسكوا في عام 2008 أنّ القطاعات التي جذبت اكبر نسبة من الاستثمارات الأجنبية هي قطاعات الطاقة والصناعات المرتبطة بها وقطاع الخدمات (وخصوصاً الخدمات المالية) وقطاع العقارات .
ففي ذلك العام (2008)، جذب قطاع الطاقة والصناعات المرتبطة بها في المملكة العربية السعودية 41,2% من إجمالي الاستثمارات الأجنبية المباشرة في مقابل 20,8% لقطاع العقارات و25,5% في قطاع الخدمات و6,9% فقط للأنشطة الأخرى. وهكذا لم تجذب الصناعات الأخرى الاّ 5,6 من إجمالي الاستثمارات. وفي الامارات العربية المتحدة كانت بنية الاستثمارات الأجنبية المباشرة اكثر تمركزا. ففي العام 2006، ذهب 60% من الاستثمارات إلى قطاعين فقط: قطاع البناء (29%) والوساطة المالية والتأمينيّة (34,4%). وفي العام نفسه، لم يتعدّ ما توجّه إلى القطاع الصناعي الـ 10%. وفي لبنان فقد ذهب 50% من إجمالي الاستثمارات الأجنبية إلى قطاع العقارات فيما جذبت السياحة والخدمات المالية 33%. ولقد جذب قطاع النفط في مصر 57% من إجمالي الاستثمارات الأجنبية المباشرة في عام 2008. وجذب قطاع الفنادق في العام نفسه في الأردن 36% وجذبت المناطق الصناعية الحرة 56%.
أمّا في المغرب فكانت القطاعات التي جذبت اليها الحصة الأكبر من الاستثمارات الأجنبية المباشرة في العام 2001 هي قطاع البريد والاتصالات (81%) وذلك بسبب خصخصة هذا القطاع وإطلاق نظام الهاتف الخلوي فيما جذب قطاع العقارات31% في عام 2002. وقد حدث الأمر نفسه في تونس، إذ أدّت خصخصة قطاع الهاتف إلى جذب45,2 % من المجموع المتراكم من الاستثمارات الأجنبية المباشرة بين عامي 2002 و2006.
8-المستوى المنخفض جداً للانفاق على البحوث والتطوير وغياب نظام وطني لدعم الابتكار
تعاني معظم الدول العربية من المستوى المتدني للبحوث والتطوير(R&D)، ومن تشتّت أنظمة تملك التكنولوجيا والعلوم وتوطينها وتجذرها في مجتمعاتها. ولذا لا نستغرب ان تعاني الاقتصادات العربية من أكثر المعدلات الإنتاجية انخفاضاً بسبب نوعية نموها، ويبدو ذلك بشكل خاص من خلال مقارنة عدد براءات الاختراع المسجلة من قبل أفراد أو شركات في بلدان دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ببلدان أخرى. فبين عامي 1963 و2009، بلغ العدد الإجمالي المسجل من براءات الاختراعات لدول منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا 568 براءة فيما سجلت جمهورية كوريا الجنوبية 66,729 اختراعاً وسجلت تايوان 77,285. وإذا أخذنا في الاعتبار أن كل هذه الدول كانت في المرحلة من النمو متعادلة مع تلك السائدة في العالم العربي قبل 50 سنة فقط، فإن هذه الأرقام تظهر مدى ضآلة الابتكار في دول منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
كذلك يعكس المستوى المتدني من الإنفاق على البحوث والتطوير مدى العجز في الإهتمام بطوتين العلم والتكنولوجيا والإقدام على الإنجاز الابتكاري، إذ يبلغ هذا المستوى ما لا يمثل أكثر من 0,5% من الناتج المحلي الإجمالي في معظم بلدان المنطقة العربية مقابل نسبة 1,9% و2,5% في البلدان الأكثر دينامية وابتكاراً. ويظهر ذلك ايضاً في العدد القليل من المجلات والمنشورات العلمية في منطقة الشرق الاوسط.
وهذا ما يفسّر أسباب انخفاض المحتوى التكنولوجي في صادرات المنطقة، فهو يراوح حسب أنواع السلع بين 0,3% و9% من إجمالي صادرات المنطقة، وهو بالتالي يتباين في شكل حاد مع نسبة الصادرات التكنولوجية الكورية وهي%32 والماليزية (%47,1) والسنغافورية (49,1%) والتايلاندية (26,2%) .
هذا النقص في العلوم والتكنولوجيا لا يعود إلى عدم وجود جامعات. فالمنطقة العربية لديها العديد من المؤسسات التعليمية والجامعية وبعضها من مستوى رفيع، بل يعود الى عدم انخراطها في نظام ابتكار وطني يحظى بدعم الدولة القوي بالتشارك مع القطاع الخاص والقطاع التربوي. ولقد وفر العديد من الدراسات والتقارير التي أجريت مؤخراً حول التأخر العلمي والتكنولوجي في بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أدلة كثيرة على أنّ مؤسسات العلوم التكنولوجية القائمة هي ذات طاقة إنتاجية ضئيلة ، فهي جميعاً معزولة عن بعضها بدلاً من أن تشكّل شبكة متطورة مندمجة في كل أقسام الاقتصاد بحيث توفر له القدرة على الابتكار.
إلى ذلك، فإنه نظراً إلى عدم وجود أهداف علمية وتكنولوجية قومية محددة ولا سياسات عامة لدعمها، فإنّه يبدو أنّ تشتّت مؤسسات العلوم والتطوير يعيد انتاج نفسه بشكل دائم. وهكذا، فإنّ فائدتها لا تظهر بشكل مباشر والتمويل الذي يكرّس لها هو بالتالي منخفض. الى ذلك، فإنّ التواصل شبه منعدم بين المؤسسات التعليمية وجمعيات وأرباب العمل ونقابات أصحاب المهن الحرة والنقابات العمالية، كما أنّه لا توجد آلية للتشاور بين الدولة وأرباب العمل وجمعيات أصحاب المهن الحرة ونقابات العمال والفلاحين. ويمكن أن يعزى ذلك الى غياب هدف وطني يتمثل في امتلاك التكنولوجيا الصناعية ونشرها لدى كافة فئات المجتمع ونشرها وكذلك انعدام وجود استراتيجية صناعية شاملة ولا سياسة بحوث وتطوير لتحقيق هذه الأهداف.
9-العجز في التجارة الخارجية- عارض رئيسي آخر من عوارض النمو السيئ
يشير تحليل التجارة الخارجية للبلدان العربية إلى احدى النتائج المهمة الأخرى للخلل في نموذج النمو والتنمية السيئة التي نجمت عنه، ذلك ان العجز في الميزان التجاري قد بلغ نحو 67 مليار دولار للعام 2009 لسبعة دول عربية (الجزائر ومصر والأردن ولبنان والمغرب وسوريا وتونس)، وذلك على الرغم من صادرات النفط لهذه المجموعة من الدول التي بلغت 57 مليار دولار في السنة نفسها. وبكلمات أخرى إذا لم يحسب المرء صادرات الطاقة، فإنّ العجز لهذه المجموعة من البلدان يصل إلى 127 مليار دولار، أي ما يساوي 675 دولار للفرد سنوياً.
ويظهر تحليل دقيق لمعطيات التجارة الخارجية لهذه المجموعة من البلدان أن قطاعاتها الصناعية تعتمد بشكل كامل على بلدان أخرى، ذلك ان عجزها في مجال التجارة في السلع والتجهيزات الصناعية يتعدى الـ 82 مليار دولار في تلك السنة، فيما لم يتعد معدل تغطية الواردات الصناعية الـ 35%. وهو رقم ينخفض أكثر إذا استثني منه المنتجات المحولة من الموارد الطبيعية والصناعات المرتبطة بها، مثل المنتجات الكيميائية غير العضوية والأسمدة التي تقدّر صادرتها بـ 5 مليارات دولار. وذلك فضلاً عن كون جزء كبير من صادرات السلع المصنعة لهذه البلدان ناتج من أنشطة العقود من الباطن (sous traitance) اي 23,9 مليار دولار. وهذه السلع هي أساساً الملابس والسلع الملحقة بها والأحذية والنسيج والأقمشة والآلات والأدوات الكهربائية وأدوات التجميل.
أما التبعية الأكثر خطورة فهي العائدة الى النسبة المتدنية جداً لتغطية تبادل المنتجات الطبية والأدوية مع الخارج اذ ان الصادرات في هذه السلع والمواد لا تتعدى 19.3% من الاستيراد، وكذلك الأمر بالنسبة الى آليات ومعدات النقل التي تبلغ نسبة التغطية 17,8٪. أمّا المعدات المهنية والعلمية فتبلغ تغطيتها 18,6٪ فيما تبلغ تغطية الأجهزة الفوتوغرافية والسلع البصرية والساعات 13,1٪. كما يمكن أن يشير المرء الى اعتماد كبير في المواد البلاستيكية في شكلها الأولي ذلك أن تغطيتها لا تزيد عن 14,8٪. وذلك فضلاً عن الاعتماد الكبير نسبياً في قطاع مركبات الطرق (تغطية بنسبة 6,7٪) والآلات والأدوات المتخصصة (5,4%) واليات وأدوات صناعة المعادن (3,4%) وغيرها من التجهيزات الصناعية وقطع الغيار (6,5%) وآلآت ومعدات توليد الكهرباء(10,4%).
وتجدر أيضاً الإشارة الى ان العجز في الميزان التجاري للبلدان موضوع التحليل مرتفع جداً على مستوى المنتجات الغذائية (12,16 مليار دولار) وكذلك بالنسبة الى الزيوت الحيوانية والنباتية والدهون والشموع (1,64 مليار دولار)، وذلك على الرغم من غنى سوريا ولبنان والمغرب ومصر وتونس وسوريا ولبنان بالموارد الزراعية.
ومن المثير للاهتمام أن نقارن هذا الأداء السلبي مع أداء الاقتصادات الأربعة في جنوب شرق آسيا التي اتبعت سياسات صناعية دينامية وإبداعية. وهذه البلدان هي جمهورية كورية الجنوبية وماليزيا وسنغافورة وتايوان. ولقد تمكنت هذه البلدان الأربعة التي يبلغ مجموع عدد سكانها 104,8 مليون نسمة، وهو عدد يساوي تقريباً عدد سكان أربعة دول فقط في المشرق العربي وهي مصر والأردن ولبنان وسوريا، من تحقيق فائض في الميزان التجاري بلغ 127مليار دولار، وقد بلغ مقدار الفائض الذي حققته في المنتجات الصناعية 257 مليار دولار في مقابل عجز مقداره 80 مليار دولار تحملّته مجموعة الدول العربية السبعة المذكورة سابقاً. بينما بلغ ما حققته البلدان الآسيوية المذكورة في تجارة آليات ووسائل النقل من فائض 178 مليار دولار في مقابل عجز بنحو 46 مليار دولار لدى البلدان العربية السبعة. وسجلت البلدان الاسيوية الأربعة في الوقت نفسه عجزاً قدره 99 مليار دولار في تجارة الوقود في مقابل فائض بـ 33 مليار لدى البلدان السبعة العربية. وهكذا فإنّ مجمل الفائض في الميزان التجاري بلغ في المحصلة العامة لدى الدول الآسيوية الأربع 127 مليار دولار في مقابل عجز بقيمة الـ 67 مليار دولار في الدول العربية السبعة بالرغم من الفائض في صادراتها من الطاقة.
وتظهر كل هذه المؤشرات والمقارنات بين أرقام التجارة الخارجية مدى ضآلة التصنيع في البلدان العربية. الأمر الذي يفسّر أن يكوّن التبادل التجاري بين هذه البلدان منخفضاً جداً. إنّ نسبة التجارة العربية البينية من إجمالي التجارة الخارجية العربية لا يزال ضئيلاً، ويراوح بين 8 و9٪ للصادرات و10 و 13% للواردات (بما في ذلك النفط والغاز) وفي بعض البلدان فان نسبة الصادرات أكبر كثيراً، فهي تبلغ في لبنان 47٪ في عام 2008 وفي الأردن 41,7٪ وفي سوريا 40,1٪ بينما لا تبيع تونس الى الدول العربية الأخرى إلا 9,7٪ من إجمالي صادراتها، فيما لا تزيد صادرات الجزائر وليبيا وموريتانيا والمغرب الى الدول العربية الأخرى عن 3,7% .
أمّا في ما يتعلّق ببنية التجارة العربية البينية، فإنّ نسبة التجارة في منتوجات الطاقة تكاد تناهز الـ 60% من إجمالي الصادرات في مقابل 13% للصادرات الغذائية، و9 إلى 10% في المنتجات الكيميائية و 12 إلى 13% للسلع المصنّعة و 4 إلى 5% لآليات ومعدات النقل . وهكذا فإنّ مستوى التبادل التجاري العربي البيني متدن جداً وخصوصاً اذا أخذنا بعين الاعتبار إنشاء منطقة التبادل الحر العربية. وهذا ما يظهر أنّ جمود الهياكل الاقتصادية الذي وصفناه أعلاه هو عائق رئيسي في وجه نمو إنتاجية هذه البلدان وتنويعها.
التحول من النمو المشوّه إلى النمو الصالح
نبحث هنا في ماهية التغييرات المطلوبة على صعيد السياسة الاقتصادية الإجمالية والسياسات القطاعية للتخلص من النظام ذي القاعدة الريعية. ذلك انه ليس هناك أي شك في أن التحدّي الأكبر الذي تواجهه الثورات العربيّة هو تغيير نموذج النمو السيئ القائم على الاقتصاد الريعي. ذلك أنّه يشكّل قاعدة الفساد المعمّم والدولة الإقطاعية الطابع (Patrimonial) والأنظمة السياسيّة الاستبدادية. هذا النموذج السيئ للنمو هو الذي أدخل ومارس عددا من السلوكات الإجتماعيّة– السياسيّة المتعارضة مع الإنتاجيّة والمنافسة النزيهة والتنويع الاقتصادي والقيام بالمشاريع الريادية والإبتكارية.
ان هيمنة التفكير النيو- ليبرالي لم تمنع حتى الآن أي تحليل معمّق للنموذج الريعي فحسب، بل يمكن أيضاً القول انّ طريقة تطبيق إجماع واشنطن في معظم الاقتصادات العربية عبر برامج المساعدات الدولية هي على الأرجح مسؤولة– أقلّه جزئياً- عن الزيادة في الفساد والتهميش الاجتماعي لقطاعات كبيرة من السكان المدنيين والريفيين وإلى هدر ضخم للموارد الطبيعيّة والبشريّة. لذلك فإنّ الاستمرار في قبول المساعدات المالية المشروطة بتحقيق المزيد من المرونة في سوق العمل وتخفيف آليات واجراءات المراقبة القانونية وعدم حماية الموارد الطبيعيّة والبشرية، انما هو وصفة لمفاقمة الصعوبات قد تؤدي إلى ان تنحو القطاعات المهمّشة من السكان الى التطرف السياسي او الديني والمذهبي.
ويجب تطوير أساليب جديدة من التفكير حول الإصلاحات الاقتصادية التي يمكن ان تساعد على قيام تحوّل حقيقي إلى الديمقراطية ودولة القانون وذلك كبديل عن التفكير النيوليبرالي التقليدي الجامد والمجرّد وبالتالي البعيد عن الواقع الميداني واحتياجاته. إنّ تحليل النمو المشوّه الذي أجريناه في هذه الدراسة، وكذلك المقترحات التي تقدّمنا بها لتحوّل حقيقي في نموذج النمو العربي يساهمان في مساعدة المواطنين العرب على الحصول على حياة أفضل تستنفر فيها عقولهم ومواهبهم وطاقاتهم في سبيل القيام بالتنويع الاقتصادي عبر توزيع إنتاجي لمصادر الريع المختلفة وتشجيع قطاعات الأعمال المبدعة والمنتجة في إطار الأهداف الوطنيّة لتملك العلم والتكنولوجيّات وتوفير شروط حياة أفضل لكل مواطن.
وفي المحصّلة، فإنّه لا يمكن تطوير حياة ديمقراطية حقيقيّة في البلدان التي تقوم قاعدتها الاقتصادية على التدفّقات الريعيّة غير الموزّعة بشكل صحيح وغير المستثمرة في الاقتصاد بشكل يراعي متطلبات المجتمع مما يحول دون تعزيز العدالة الاجتماعية والعمالة الكاملة على قاعدة الإنتاجيّة وتنويع القدرات في إنتاج السلع والخدمات ذات القيمة المضافة العالية.
ومن أجل الانتقال من النموذج التنموي المشوّه الى النموذج الصالح يتوجب على الحكومات العربية القيام بتغيير السياسات الاقتصادية العامة في المحاور الأساسية الستة التالية.
أ- مكافحة الفساد وتشجيع المساءلة والمسؤولية الاجتماعية للقطاع الخاص
كشفت الثورات العربيّة حجم الفساد المرتبط بطبيعة الأنظمة السياسيّة عبر توزيع الريع على دائرة مغلقة من رجال الأعمال المقربين من رئيس الدولة وكبار المسؤولين. ولا يمكن أن يكافح الفساد بالاكتفاء بتحميل مسؤوليته الى المسؤولين في الدولة. ذلك أنّ كل صفقة يشوبها الفساد لا بدّ من أن تكون بين شريكين: رجل أعمال من جهة ومسؤول حكومي من الجهة الأخرى. لذلك، فقد بات من الضروري أن نركّز على الطرفين وأن نسنّ القوانين التي تسمح باكتشاف، ومن ثمّ معاقبة، أي سلوك مسيء من قبل رجال الأعمال في القطاع الخاص المقرّبين من بعض الدوائر الحكوميّة والذين ينتهزون ذلك للحصول على امتيازات خاصّة أو معلومات سريّة. إن هذا لا يشكّل انتهاكاً لمبدأ المنافسة العادلة فحسب، بل إنّه يسبّب أيضا هدراً اقتصاديّاً ويبقي وتيرة الإنتاجية منخفضة.
وكذلك يجب أن يُحمّل القطاع الخاص على تحسس مسؤوليّاته الاقتصادية والاجتماعية، ذلك أنّ إدارة مؤسّسة أعمال لا تقتصر على امتلاك "آلة ربح" وزيادة أرباحها إلى أقصى حد ممكن. فشركات القطاع الخاص هي أيضاً جزء من المجتمع وتدين له بالعمل من أجل منفعته في ما يتعلق بنوعية الإنتاج والخدمات كما يتوجب عليها تدريب الموارد البشرية وتوفير فرص العمل اللائقة. ويجب عليهم الا يدفعوا الموارد البشرية والطبيعيّة في البلاد إلى التقهقر بتبخيس ثمنها والمساهمة بتدهور البيئة، وذلك عبر توفير وظائف ورواتب محترمة لموظّفيهم وعمّالهم واحترام مقتضيات الحفاظ على البيئة ودفع الثمن المناسب لاستغلال الموارد الطبيعية.
ويجب أن يصبح القضاء في البلدان العربيّة متدرباً وقادراً على إصدار الأحكام في انتهاك لقواعد المنافسة النزيهة او التعدي على الموارد الطبيعيّة والبيئة وسوء استخدام النفوذ عبر علاقات خاصة مع المسؤولين الحكوميين.
إنّ سلوكاً أفضل للقطاع الخاص وإقدامه على تحمل مسؤولياته الإجتماعيّة من شأنه أن يحسِن كثيراً من إنتاجيّة الاقتصاد وأن يقلّل إلى حد كبير من ممارسات الفساد بين كبار المسؤولين ورجال الأعمال الأغنياء.
ب- تنويع الاستثمارات والحد من هجرة الأدمغة
وهذا شأن ملح آخر لا بدّ من معالجته. أشرنا فيما سبق الى التمركز الشديد في الاستثمارات المحليّة والأجنبيّة في عدد قليل من القطاعات الإنتاجية والخدمية ذات الأرباح المرتفعة وذات القيمة المضافة المتدنية والقدرة التوظيفيّة الضئيلة (العقارات، المصارف، تجارة التوزيع على المستوى المحلي إضافة إلى قطاعات الطاقة والبتروكيماويات التقليديّة). وبالتالي فان تنويع الاستثمارات في العديد من الأنشطة الإنتاجية الأخرى سيؤدي إلى الحد من البطالة وهجرة أصحاب المهارات والمؤهلات العلميّة والمهنية العالية. وهناك العديد من الحقول يمكن للقطاع الخاص أن ينشط فيها بدعم من الدولة كما في نموذج النمو في آسيا الشرقيّة ونذكر منها على سبيل المثال:
إنتاج الطاقة البديلة والمتجددة (الشمسيّة والريح والماء).
إنتاج المعدّات الخاصة باستغلال مصادر الطاقة البديلة (ألواح شمسيّة) أو لمعالجة النفايات أو لتنقية المياه.
استقطاب عقود من الباطن (In sourcing) للبحوث والتطوير من دول أخرى متطوّرة تكنولوجياً قي قطاعات تكنولوجيا المعلوماتية والاتصالات والأبحاث الطبية والصحية بما فيه صناعة الأدوية.
تنمية المناطق الريفية والمنتجات الغذائية الماكروبيوتيكيّة.
تنمية الصناعات الميكانيكيّة والمعدّات والتجهيزات بغية تقليص الاعتماد الكلّي على استيرادها من الخارج
مكافحة التصحّر عبر إعادة التحريج.
ج- دمج القطاع اللا شكلي بالقطاع الحديث
هناك حاجة ملحّة للعمل من أجل التكامل في الاقتصادات العربية بين المؤسسّات اللا شكلية والعائليّة الصغيرة والشركات العاملة في القطاع الحديث عبر التعاقد معها على القيام بأجزاء صغيرة من عمليّة الإنتاج، مثلما تمّ بنجاح في العديد من البلدان الأخرى. ويتطلب هذا من الشركة المحليّة الحديثة أن تحدّد أي أجزاء من الإنتاج يمكن إسنادها للمؤسسات الصغيرة وما هي التدريبات والمعدات التي يتعيّن توفيرها لها.
وإذا اخذنا في الاعتبار حجم القطاع اللاشكلي والدور الذي يضطلع به في التوظيف، فإنّ هذه مهمة ملحّة: وهي تتطلّب سياسة فاعلة تخطّط لها جمعيّات الأعمال الرئيسيّة (جمعيّة الصناعيين، غرفة التجارة والزراعة)، إضافة إلى نقابات المهن الحرّة كنقابة المهندسين.
د- الشراكة بين القطاعين العام والخاص في تعريف الأهداف الوطنيّة للتمكّن من مجموعة من التكنولوجيّات
تحتاج البلدان في زمن العولمة الاقتصادية إلى التقدّم في التمكّن من العلوم والتكنولوجيات في حقول رئيسيّة من الصناعات والخدمات الحديثة لكي تستطيع القيام بالتنويع الاقتصادي والتوظيف الكامل لمواردها البشريّة المؤهلّة. ويتطلّب ذلك تحديد الأهداف الوطنيّة في مجالي العلوم والتكنولوجيا عبر التوافق بين الدولة والقطاع التربوي والقطاع الخاص. كذلك يجب أن يتم وضع نظام وطني للإبتكار يموّله القطاعان العام والخاص في آن.
وبالنظر إلى التأخر في مجالي العلم والتكنولوجيا في المجتمعات العربية كافة وغياب الترابط بين التعليم والمهارات التقنيّة والابتكار أو تشرذم أنظمة الابتكار ومؤسّسات البحوث والتطوير، فإنّ هذا الحقل يتطلّب اهتماماً وتمويلاً كبيرين. ذلك إنّ تحقيق إنتاجية الاقتصاد والزيادة في تصدير السلع والخدمات ذات القيمة المضافة العالية يتطلّبان أن تسارع الاقتصادات العربية إلى تبنّي هذه السياسات.
ه- القضاء على جيوب الأميّة والاهتمام بتنمية المناطق الريفيّة
لعلّه من المشين حقاً أن يكون العالم العربي لا يزال يعاني من وجود جيوب واسعة من الأميّة في بعض البلدان المهمة كمصر والمغرب واليمن والسودان وموريتانيا. وعلى الدول المعنيّة أن تتبنّى خطة تمحو فيها الأميّة في خلال سنوات قليلة. ويمكن أن تكلّف المنظمات غير الحكوميّة المعنية بمكافحة الفقر بتطبيق هذه الخطة.
|