المؤتمر القومي العربي
ARAB NATIONAL CONFERENCE
المؤتمر السابع والعشرون
19 – 20 نيسان/أبريل 2016
الحمامات - تونس
التوزيع: محدود
الرقم: م ق ع 26/وثائق 3
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الوحدة العربية: حاضرها ومستقبلها **
د. أحمد يوسف أحمد *
ــــــــــــــــــــــ
* باحث، مدير معهد البحوث العربية سابقاً
** لا تعبر هذه الورقة بالضرورة عن رأي الأمانة العامة للمؤتمر القومي العربي.
الوحدة العربية: حاضرها ومستقبلها
د. أحمد يوسف أحمد
١- نظرة عامة :
مثلت الوحدة العربية ومازالت الهدف الأسمى للمشروع النهضوى العربى، وتصدرت برامج الأحزاب القومية وكانت بؤرة للفكر القومى العربى ومساهمات الرواد من مفكريه، وعندما توفرت الظروف السياسية الملائمة بالتقاء المشروع العربى لثورة يوليو/تموز ١٩٥٢ مع طموحات القوى القومية فى سوريا قامت أول تجربة لتحقيق هذه الوحدة بإنجاز الوحدة المصرية - السورية فى فبراير/شباط ١٩٥٨، وكان الأمل معقوداً على هذه الوحدة فى أن تكون نقطة البداية فى إنجاز الحلم خاصة وقد تفجرت ثورة يوليو/تموز فى العراق بعد أقل من ستة شهور على إعلان الوحدة ووضعت نهاية لنظام تورط فى مشروع إلحاق الوطن العربى بالتحالف الغربى من خلال حلف بغداد الذى تمكنت الحركة القومية العربية من إسقاطه، غير أن هذه الآمال قد تبخرت بالانقلاب الانفصالى فى سوريا فى سبتمبر/أيلول ١٩٦١ وتأجج الخلاف بين ثورة يوليو والنظام الجديد فى العراق، ومع ذلك فإن هدف الوحدة العربية بقى فى صدارة أولويات الحركة القومية العربية بدليل مشروع الوحدة الثلاثية المصرية - السورية - العراقية فى نيسان/أبريل ١٩٦٣ الذى حاول أن يستفيد بدروس تجربة الوحدة المصرية - السورية التى أثبتت أن الصيغة الاندماجية لم تكن ملائمة لحقيقة التمايز بين أوضاع الأقطار العربية فأخذ بالصيغة الاتحادية غير أنه لم يدم لأكثر من أسبوعين بسبب الخلاف بين الفصائل القومية العربية ممثلة فى هذه الحالة بالناصرية وحزب البعث وهو الخلاف الذى لعب دوراً دون شك فى تفكك الوحدة المصرية - السورية، وتراجعت مشروعات الوحدة العربية بعد هذا الإخفاق على الرغم من تعدد محاولاتها وظل الإخفاق ملازماً لهذه المحاولات، وحتى مشروع الوحدة السورية - العراقية فى ١٩٧٨ الذى كان من شأن نجاحه أن يعيد توجيه النظام العربى إلى الوجهة الصحيحة بعد المنحى الذى اتخذه أنور السادات فى تسوية الصراع العربى - الإسرائيلى ابتداءً من زيارة القدس فى ١٩٧٧ فشل بدوره بسبب الخلاف داخل الفصيل القومى الواحد أى حزب البعث فى كل من سوريا والعراق .
وفى أعقاب ذلك الإخفاق المتكرر لتجارب الوحدة العربية بدأ النظام العربى يعرف ظاهرة التجمعات الإقليمية، ففى ١٩٨١ أعلن تأسيس مجلس التعاون لدول الخليج العربية، وكان مفهوماً أن هذه الدول الستة تهدف إلى تقوية أواصر العلاقات بينها فى مواجهة تحديات جديدة أهمها الثورة الإيرانية فى ١٩٧٩ وما تبعها من تفجر الحرب العراقية - الإيرانية فى ١٩٨٠ وعزل مصر عن النظام العربى، ومع أواخر عقد الثمانينات بدا وكأن ظاهرة التجمعات الفرعية قد أصبحت تمثل نداء المستقبل بالنسبة للنظام العربى، ففى يومين متتاليين من شهر فبراير/شباط ١٩٨٩ نشأ تجمعان فرعيان جديدان هما الاتحاد المغاربى وضم دول المغرب العربى الخمس (موريتانيا - المغرب - الجزائر - تونس - ليبيا) ومجلس التعاون العربى وتكون من العراق ومصر والأردن واليمن، وكان المجلس الوحيد الذى اتخذ له مرجعية عربية شاملة بمعنى أنه كان مفتوحاً لأى دولة عربية تريد الانضمام إليه وليس مقتصراً كغيره على إقليم جغرافى فرعى داخل النظام العربى، ومع نشأة هذين التجمعين أصبح النظام العربى مستوعباً بدرجة كاملة تقريباً فى ظاهرة التجمعات الفرعية، فقد بلغ عدد الدول المنضمة لهذه التجمعات خمس عشرة دولة من اثنتين وعشرين دولة سرعان ما تقلص عددها إلى واحد وعشرين بعد اندماج دولتى اليمن فى شماله وجنوبه فى دولة واحدة، ولم يعد خارج هذه التجمعات سوى سوريا ولبنان وفلسطين والسودان ودول الأطراف الثلاثة (الصومال - جيبوتى - جزر القمر)، ومع انتشار ظاهرة التجمعات الفرعية فى النظام العربى على هذا النحو بدا أن ثمة أيديولوجية جديدة تؤصل لهذه الظاهرة على أساس أن تحقيق الوحدة العربية الشاملة بات صعباً وبالتالى فإن ما لا يدرك كله لا يترك جله وذلك بتجمع الدول التى تشكل أقاليم فرعية داخل الوطن العربى أو تتقارب فيما بينها لاعتبارات أخرى تتجاوز الجغرافيا، وعندما تنجح هذه التجمعات نكون قد قطعنا بذلك خطوة مهمة فى الطريق إللى الوحدة العربية .
ويظهر إمعان النظر فى منطق التجمعات الفرعية عجزه عن أن يكون خطوة على طريق الوحدة العربية إذ لم يختلف نسيج هذه التجمعات عن النسيج العربى العام الذى شابته خلافات وتناقضات بينية، ويظهر هذا بشكل شديد الوضوح فى الاتحاد المغاربى الذى عانى كثيراً من تباين النظم السياسية لأعضائه (قارن مثلاً النظام الليبى بالنظام المغربى) والنزاعات البينية وبالذات النزاع المغربى - الجزائرى حول الصحراء، ومن ثم فقد الاتحاد المغاربى فاعليته منذ البداية رغم أنه كان الأكثر نضجاً من المنظور المؤسسى، أما مجلس التعاون العربى فجمع بين أعضاء لكل منهم مصلحته الخاصة دون رؤية جامعة، فكان العراق يريده آلية لتحييد الدور المصرى وهو بسبيل استكمال دوره القيادى فى الوطن العربى، وكانت مصر ترى فى المجلس آلية لاستكمال كسر عزلتها فى النظام العربى، وتصور اليمن أن يكون فيه سند له فى مواجهة السعودية التى كانت مشكلة الحدود بينهما مشتعلة آن ذاك، ورأى الأردن فيه حماية من الخطر الإسرائيلى والنفوذ السورى فى آن واحد، وعلى الرغم من أن مجلس التعاون الخليجى لم يكن يعانى من تباينات فى نظمه السياسية والاجتماعية والاقتصادية إلا أنه لم يسلم من الاختلافات السياسية والحدودية وتباطؤ الخطى، وهكذا تبدد حلم التجمعات الفرعية كآلية لتحقيق الوحدة العربية بفرض أنه كان حلماً أصلاً لمن صنعوها، فتفكك مجلس التعاون العربى بمجرد الغزو العراقى للكويت وتجمد الاتحاد المغاربى تماماً للأسباب سالفة الذكر اعتباراً من ١٩٩٦، وحتى مجلس التعاون الخليجى الذى انفرد بأنه التجمع الوحيد الذى صمد وصمدت معه مؤسساته ظل بطئ الخطى قليل الإنجاز، وعندما طالب الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز بتحويله إلى اتحاد لإحداث نقلة نوعية فيه عومل طلبه من قِبَل باقى أعضاء المجلس بالطريقة نفسها التى يعامل بها أعضاء الجامعة العربية مقترحات تطويرها أى الموافقة على المبدأ ثم القتل بالتسويف .
وفى مرحلة التجمعات الإقليمية شذ إنجاز لافت وهو تحقيق وحدة اليمن بعد صراع بين شطريه دام حوالى ربع القرن وتصاعد إلى درجة الاحتكام إلى السلاح غير مرة، وكان ذلك راجعاً إلى التناقض التام بين صيغتى النظام السياسى فى شطرى اليمن من الماركسية فى الجنوب إلى التقليدية فى الشمال وانعكاس ذلك على التناقض بين شبكتى العلاقات الدولية لكل منهما، ومع ذلك فإن تداعيات السياسة السوفيتية الجديدة منذ وصول جورباتشوف إلى السلطة فى الاتحاد السوفيتى فى منتصف ثمانينات القرن الماضى قد سهلت من التوصل إلى اتفاق على تحقيق الوحدة فى ١٩٨٩ بعد أن انكشف النظام فى جنوب اليمن نتيجة تخلى جورباتشوف عن حلفاء الاتحاد السوفيتى وأصدقأئه فى ظل شعاراته الجديدة التى مثلت قطيعة مع السياسات السوفيتية التقليدية: عالم واحد أو لا عالم ... توازن المصالح لا توازن القوى ... وهكذا، وبالفعل وُضع اتفاق الوحدة موضع التطبيق فى ١٩٩٠، غير أن الوحدة سرعان ما تعرضت لتهديدات بمجرد إخلال نتائج أول انتخابات برلمانية بعد الوحدة بتوازن القوى الذى أنشأها، فقد أُنشئت الوحدة بشراكة متساوية بين الحزبين الحاكمين فى شطرى اليمن لكن الانتخابات أتت بتوازن جديد هدد مكانة الحزب الاشتراكى الحاكم سابقاً فى الجنوب بعد أن برز حزب الإصلاح ذو التوجه الإسلامى فى هذه الانتخابات إلى الحد الذى أصبح معه من الممكن تشكيل حكومة ائتلافية بين حزب المؤتمر الشعبى العام وحزب الإصلاح، ومن هنا بدأت المناوشات بين قيادتى الحزبين الحاكمين فى الشطرين سابقاً، وتصاعد الأمر حتى وصل إلى حد الاقتتال المسلح فى ١٩٩٤، وعلى الرغم من انتصار الوحدة فى هذه الحرب فإن سلوك النظام بعد هذا الانتصار لم يكن وحدوياً بحيث بدأت المظالم تتراكم لدى أبناء جنوب اليمن سواء بسبب الاستغناء الواسع عن عسكريين منتمين إلى الجنوب أو لما بدا من أن ثمة علاقة استغلال اقتصادى وتهميش سياسى للجنوب تمارسها الحكومة المركزية مما ترتب عليه نشأة ما عُرف بالحراك الجنوبى الذى بدأ كحركة مطلبية وتطور إلى حركة انفصالية تهدف إلى عودة الدولة ذات السيادة فى جنوب اليمن، وظل هذا الوضع سائداً إلى حين تفجر الاحتجاجات الشعبية الواسعة فى شمال اليمن اعتباراً من فبرير / شباط ٢٠١١ فى إطار ما عُرف بالربيع العربى، وهكذا لم يقدر للوحدة اليمنية أن تلعب أى دور فى إعادة الاعتبار للوحدة العربية خاصة وقد كانت أصلاً أقرب إلى تجربة لبناء الدولة الوطنية لوجود شعب واحد مقسم على دولتين منها إلى تجربة يمكن أن يكون لها مردودها الإيجابى العام على النضال من أجل تحقيق الوحدة العربية كما أنها عانت منذ البداية من مشكلات وصلت إلى حد الاقتتال المسلح والمعارضة المتصاعدة من قِبَل مكون أساسى فى الوحدة .
٢- الوضع الراهن :
ساد تفاؤل بمستقبل النظام العربى عندما وقعت أحداث ما عُرف بالربيع العربى خاصة وأنها امتدت تقريباً إلى كافة الأقطار العربية وإن بدرجات متفاوتة، وعلى الرغم من أن شعار الوحدة العربية لم يكن ظاهراً فى هذه الأحداث إلا أنه لم يكن غائباً فى الوقت نفسه كما أن مؤشرات قد ظهرت على تضامن شعبى بين الثورات العربية، غير أن المصدر الأساسى للتفاؤل كان الأمل فى أن تفضى حركات التغيير التى انطوى عليها ما عُرف بالربيع العربى إلى تحول ديموقراطى يساعد على إعادة بناء الدول العربية على أسس مؤسسية حديثة تكون للشعوب الكلمة العليا فيها مما يحيى الأمل فى إعادة اكتشاف المشروع النهضوى العربى وفى القلب منه هدف الوحدة العربية، غير أن هذا الأمل سرعان ما تبدد بسبب التطورات اللاحقة التى أظهرت العوار التنظيمى للقوى التى قامت بالثورات العربية مما أدى إلى حالة من عدم الاستقرار السياسى خاصة بعد أن تمت الإطاحة بحكم الإخوان المسلمين فى مصر وتراجع أسهمهم نسبياً فى تونس، وأضيف إلى هذا ضراوة التدخلات الإقليمية والدولية على النحو الذى أفضى إلى صراعات محتدمة فى عدد من الأقطار الإقليمية هددت كيانها الإقليمى، ففى ليبيا ظهر نزوع انفصالى فى بعض المناطق سواء لاعتبارات مناطقية أوقبلية، وفى اليمن كان الحوار اليمنى قد أفضى أصلاً إلى تقسيمه إلى ستة أقاليم تقترب من النظام الفيدرالى كمحاولة للالتفاف على النزعة الانفصالية فى الجنوب دون أن يؤدى هذا إلى القضاء على النزعة الانفصالية فيه بل وداخله كما فى حالة حضرموت بل لقد بدا أحياناً وكأن بعض السلطنات والمشيخات السابقة على استقلال جنوب اليمن وتوحيده قد بدأ يطل برآسه من جديد، وفى سوريا شاع الحديث مع تفاقم الصراع عن دول طائفية بالإضافة إلى رفع أكرادها شعار الفيدرالية، وهى صيغة سوف تؤدى أغلب الظن لاحقاً إلى المطالبة بتنفيذ مشروع الدولة الكردية بالنظر إلى الظروف السائدة حالياً فى الوطن العربى وتطور المسألة الكردية فى الدول التى يعيش الأكراد فيها، أما العراق فقد كان سباقاً فى التعرض للمخاطر التى هددت كيانه والحديث عن انقسامة إلى دولتين طائفيتين ودولة قومية كردية فى أعقاب الغزو الأمريكى، وإذا أضفنا إلى هذا كله التفكك المزمن للصومال منذ تسعينات القرن الماضى وانفصال جنوب السودان فى ٢٠١١ ناهيك عن الانقسام الفلسطينى والمخططات الغربية لرسم خرائط جديدة للمنطقة لأدركنا أن النضال القومى العربى قد تراجع كثيراً عن هدف تحقيق الوحدة العربية وأصبح الهدف المطروح هو الحفاظ على الوحدة الوطنية لكل دولة على حدة، وهكذا فبعد أن كان الفكر القومى العربى يعتبر الدولة القطرية عقبة فى الطريق إلى الوحدة العربية أصبح معيار الإخلاص للعروبة هو حماية هذه الدولة من التغول الطائفى والإثنى حتى لا تضيع العروبة لأجيال قادمة، ولا يُظهر الحال التى تراجعت إليها قضية الوحدة العربية أكثر من موقع الفيدرالية من النضال الوحدوى العربى، وقد نذكر كيف كان العروبيون ينظرون بعدم الرضا إلى طرح الصيغة الفيدرالية لتحقيق الوحدة العربية، وعندما طرحت هذه الصيغة فى إطار الجدل الدائر حول الوحدة المصرية - السورية من قِبَل حزب البعث زايدت عليه القوى القومية الأخرى، وعندما طرحت فى سياق التحضير للوحدة اليمنية كان اقتراح الصيغة الفيدرالية موضع استهجان بينما نتحدث الآن عن هذه الصيغة باعتبارها مخرجاً من أزمة الدولة القطرية العربية، ولا ننسى بالإضافة لكل ما سبق أن صعود الإسلام السياسى بعد أحداث الربيع العربى وبالذات فى مصر قد طرح بجدية تقديم المشروع الإسلامى كبديل للنظام العربى، ويهون كل ما سبق بالنظر إلى التطورات التى تلت تأسيس ما سُمى بدولة الخلافة الإسلامية على أجزاء من الأراضى العراقية والسورية والتهديد بدخول النظام العربى فى حقبة من الفوضى الكاملة والاستباحة الخارجية .
٣- دروس الماضى ونظرة إلى المستقبل:
يُظهر إمعان النظر فى تطور مسيرة الوحدة العربية فى إطار النضال القومى العربى أن هذه المسيرة قد تعثرت تعثراً واضحاً، فأول تجسيد لها فى تجربة الوحدة المصرية - السورية صمد لأقل من أربع سنوات، ولم تصمد تجربة الوحدة الاتحادية الثلاثية بين مصر وسوريا والعراق لأكثر من أسبوعين ولم تكتمل أى محاولة وحدوية بعدهما بما فى ذلك الاتفاق على وحدة بين سوريا والعراق فى ١٩٧٨ فى إطار مواجهة تداعيات كامب ديفيد والذى لم يدم بدوره لأكثر من ثلاثة شهور، ودخل النظام العربى بعد ذلك فى نفق التجمعات الفرعية التى أحسن البعض الظن بها بينما لم تكن سوى صورة مصغرة للواقع العربى العام، وحتى عندما تحققت الوحدة اليمنية ومثلت أملاً فى عودة الروح لفكرة الوحدة العربية لم تلبث أن عانت بدورها مما عانته التجارب التى سبقتها وهكذا حتى وصلنا إلى الوضع الراهن الذى بتنا ندافع فيه عن الدولة القطرية الوطنية العربية حماية لها من انهيار سوف يعنى دخول العرب نفقاً مظلماً أسوأ بكثير من نفق سايكس - بيكو منذ مائة عام، ومن الضرورى أن نحاول تحديد أسباب هذا التعثر إذا كنا باقين على إيماننا بأهداف المشروع النهضوى العربى وفى القلب منه هدف الوحدة العربية، وتطرح هذه الورقة للنقاش أربعة أسباب يعتقد كاتبها أنها مسئولة بدرجة أو بأخرى عما آل إليه حال الوحدة العربية :
السبب الأول فكرى لكنه أفضى إلى إشكالية تنظيمية، فقد كان الفكر القومى فى صورته الأصيلة يؤمن بتجانس شعوب الأمة العربية تجانساً تاماً كالنسيج الواحد الذى تتكرر رسومه وأشكاله دون أدنى اختلاف اللهم إلا بعض هفوات الصناعة التى لا تؤثر فى الشكل العام، وبنى الفكر القومى العربى على هذا الأساس أن الصيغة الواجبة لدولة الوحدة لابد وأن تكون صيغة اندماجية ونظر إلى الطرح الفيدرالى كصيغة بديلة للوحدة باعتباره تخلياً عن الهدف القومى الأعلى أو على الأقل اهتزازاً فى الإيمان بالحقيقة العربية الواحدة، وعليه قوبل هذا الطرح باستنكار فى الجدل الذى دار سواء قبل الاتفاق على الوحدة المصرية - السورية أو الوحدة اليمنية، وقد أظهر التطبيق العملى أن ثمة تمايزات بين الشعوب العربية فى إطار وحدة الأمة وأن هذه التمايزات قد مثلت عقبات فى مسار التطبيق الوحدوى، وعلى سبيل المثال فقد اصطدمت الدولة البيروقراطية العتيدة فى مصر التى يرجع عمرها لآلاف السنين بالدولة السورية الحديثة وحدث ذلك الاصطدام سواء على صعيد البيروقراطية المدنية أو العسكرية، كما أن البنية الطبقية المصرية كانت مغايرة لمثيلتها السورية وبالتالى تفاوتت ردود أفعال القرارات الاشتراكية التى سبقت الانفصال بشهور بين مصر وسوريا دون إنكار أن مطلب العدل الاجتماعى كان واحداً فى كل من مصر وسوريا على السواء، وبينما سهل على عبد الناصر التخلص من الأحزاب التقليدية التى انفصلت عن الشعب ومطالبه فإن الوضع اختلف بالنسبة لسوريا فظل إلغاء أحزابها السياسية ورقياً ... وهكذا، بل إن التمايز ذاته قد ظهر فى حالة الوحدة اليمنية التى تحققت عبر التاريخ بين شعب واحد، غير أن سنوات الاحتلال الطويلة والسنوات القليلة التى لم تتجاوز العقدين إلا بقليل فى أعقاب استقلال الجنوب قد أوجدت قيماً اجتماعية مختلفة نتيجة احتكاك الجنوب بالاحتلال ولاحقاً نتيجة الاختلاف البين بين أيديولوجيتى النظامين اللتين انعكستا بوضوح فى الاختلاف بين نظامى الحكم فيهما رغم غياب الديموقراطية فيهما معاً، وبناء على ما سبق فإن الصيغة الاتحادية كانت هى الأجدر بالتطبيق سواء فى الحالة المصرية - السورية أو اليمنية، واللافت هنا أمران أولهما أن تجربة الوحدة اليمنية لم تستفد من هذا الدرس تحديداً من دروس تجربة الوحدة المصرية - السورية فكررت الصيغة الاندماجية رغم ثبوت فشلها فى تلك الوحدة، والثانى أنه حتى عندما وعت القوى القومية فى مصر وسوريا والعراق هذا الدرس فأقامت مشروع الوحدة الثلاثية بين الأقطار الثلاثة على أساس الصيغة الاتحادية فإن هذه الصيغة فى حد ذاتها لم تحم ذلك المشروع فلم يعمر لأكثر من أسبوعين كما سبقت الإشارة، وهذا ينقلنا إلى السبب الثانى وهو الخلاف بين الفصائل القومية العربية .
يعود السبب الثانى إلى الخلاف بين الفصائل القومية العربية، فلم يشهد النظام العربى حركة قومية جامعة وإنما توزعت القوى القومية بين أكثر من اتجاه وبالذات بين القوى الناصرية والقوى البعثية فى خمسينات القرن الماضى وستيناته، ولقد كان اللقاء بينهما سبباً أساسياً فى قيام الوحدة كما كان التباعد بينهما سبباً أساسياً فى تفككها، وكان هذا التباعد نفسه هو السبب فى الانهيار السريع لمشروع الاتحاد الثلاثى بين مصر وسوريا والعراق فى ١٩٦٣ حيث غابت الثقة بين عبد الناصر وحزب البعث الحاكم فى كل من سوريا والعراق بعد إجراءات اتخذت ضد أنصاره فى سوريا بصفة خاصة الأمر الذى اعتبره عبد الناصر سوء نية مبيت خاصة وقد كان التكوين الثلاثى للوحدة يعطى حزب البعث الأغلبية داخلها باعتباره الحزب الحاكم فى اثنين من أعضائها، وفيما بعد اكتسبت ظاهرة الخلاف بين الفصائل القومية أبعاداً أسوأ بحدوث الانقسامات وتفاقمها داخل الفصيل الواحد كما حدث فى حزب البعث الحاكم فى كل من سوريا والعراق، وقد انعكس ذلك الانقسام كما هو معروف على العلاقات بين القطرين التى تدهورت تدهوراً شديداً امتد إلى ما قبل الغزو الأمريكى للعراق بقليل، كما أنه كان المسئول كما سبقت الإشارة عن فشل مشروع الوحدة السورية - العراقية فى ١٩٧٨ والذى كان من شأن نجاحه أن يغير مسار الأحداث فى النظام العربى والصراع العربى - الإسرائيلى، ولم تسلم الفصائل الناصرية من هذه الظاهرة كما حدث فى مصر واليمن بصفة خاصة، والغريب أن هذه الفصائل كانت أحوج ما تكون إلى الوحدة فيما بينها كى تكون لها القدرة على التأثير فى الساحات السياسية فى الوطن العربى، والأكثر غرابة أن الباحث فى التوجهات السياسية لهذه الفصائل المتنازعة سواء فيما بينها أو داخلها لا يجد فارقاً جوهرياً يبرر هذه الخلافات التى استحكمت إلى حد التشرذم التنظيمى، والواقع أنه من المخجل أن نتحدث عن مؤامرات خارجية وداخلية ضد الوحدة بينما تنشغل الفصائل القومية بتأجيج الخلافات فيما بينها على غير أساس مقنع .
وفى السبب الثالث نناقش مسئولية غياب الديموقراطية عن تعثر مسار الوحدة العربية، وفى البدء قد نلاحظ أن التجربة الفيدرالية الوحيدة التى تفككت فى السياق العالمى هى التجربة السوفيتية التى افتقدت المضمون الديموقراطى، وبالنسبة لأول تجربة للوحدة العربية بعد استقلال الدول العربية وهى الوحدة المصرية - السورية صحيح أن الشعب قد استُفتى عليها وكانت إرادته الوحدوية لا تقبل الشك غير أن مؤسسات دولة الوحدة لم تُبن على أساس ديموقراطى، فقد كانت السلطة التنفيذية بيد رئيس الجمهورية وحده، ناهيك عن أن الدستور المؤقت لدولة الوحدة قد خول لرئيس الجمهورية أن يختار أعضاء السلطة التشريعية من بين أعضاء السلطتين التشريعيتين القائمتين فى شطرى الوحدة قبل إتمامها، وهو ما يعنى أن رئيس الجمهورية المنفرد بالسلطة التنفيذية بحكم الطبيعة الرئاسية لنظام الحكم فى دولة الوحدة كانت له اليد العليا فى اختيار أعضاء السلطة التشريعية فيها، والأهم من ذلك أن المجلس التشريعى الاتحادى المعين لم يبدأ اجتماعاته إلا فى يونيو/حزيران ١٩٦٠ أى أن دولة الوحدة حُرمت من السلطة التشريعية قرابة سنتين ونصف سنة بغض النظر عن فعاليتها، ومن المؤكد أن وجود سلطة تشريعية تصاحب دولة الوحدة منذ بدايتها بغض النظر عن طبيعتها أو فعاليتها كان من شأنه المساعدة على تجنب بعض المشكلات التى واجهتها أو التنبيه إلى أخرى أو اقتراح الحلول، ومع ذلك فإنه إذا كان من شأن الديموقراطية أن تكون عامل حماية للوحدة فلا يجب أن نتوهم كفايتها لتعزيز خطى السعى لتحقيقها أو الدفع باتجاه إنجازها، ذلك أن الفوضى التى يشهدها الوطن العربى حالياً وتعثر المسار الديوقراطى أصلاً وانتشار جرثومة الطائفية يجعل الرهان على الديموقراطية كآلية لتعزيز خطى المسار الوحدوى رهاناً مشكوكاً فيه على الأقل على المدى القصير .
وأخيراً فإن السبب الرابع الذى تطرحه هذه الورقة لتفسير تعثر مسار الوحدة العربية يشير دون شك إلى العوامل الخارجية، وليس خافياً بالتأكيد أن تحقيق الوحدة العربية بل مجرد تحرك الدول. العربية فى إطار عربى لا يلائم مصالح قوى الهيمنة العالمية، ولذلك فإن هذه القوى تعاملت منذ البداية مع النظام العربى من هذا المنطلق، فادعت بريطانيا حماسها لمشروع الجامعة العربية لكنها تدخلت من وراء ستار لتضع العصى فى عجلة المشروع حتى جاء على النحو الهزيل الذى انتهى إليه، كما أن القوى الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة دأبت على طرح الإطار الشرق أوسطى لترتيب أوضاع الوطن العربى بدءاً من حلف بغداد فى منتصف خمسينات القرن الماضى ووصولاً إلى مشروع الشرق الأوسط الكبير لجورج بوش الإبن فى أعقاب الغزو الأمريكى للعراق فى ٢٠٠٣ بالإضافة إلى المشاريع الأوربية المتوسطية التى كانت أقل ضراوة من المشاريع الشرق أوسطية، وتساهم قوى الهيمنة العالمية فى المرحلة الراهنة فى تخريب المشروع العربى بزرع المفجر الطائفى فى التفاعلات العربية والترويج شبه الرسمى لفكرة الخرائط الجديدة للمنطقة على نحو أسوأ بكثير من ميراث سايكس - بيكو .
-------------------
ويعنى كل ما سبق أن حال الوحدة العربية فى الوقت الراهن لا يمت بصلة لطموحات كل من ناضل من أجل تجسيد المشروع النهضوى العربى على الأرض العربية، بل إن القابضين على هذا المشروع لا يناضلون الآن من أجل تحقيق الوحدة العربية وإنما لحماية كيانات الدول القطرية فى الوطن العربى، ولا يعنى هذا إغفال متطلبات النضال من أجل إبقاء هدف الوحدة ضمن أولويات المشروع النهضوى العربى وتجديد النضال من أجل تحقيقها، ويتطلب هذا التأكيد على عدد من المهام الضرورية لاشك أن أهمها العمل على تعزيز الإيمان بفكرة الوحدة العربية وتأكيد أهميتها المحورية بالنسبة للمستقبل العربى، ومن الأهمية بمكان التأكيد على أن هذا لا يعنى الأمة العربية على المستوى الجمعى فحسب وإنما يعنى كل دولة عربية على حدة إذ أن الناظم العربى يمثل فى الظروف الراهنة الأساس الأقوى لحماية الدولة القطرية العربية من عوامل الهدم الخبيثة التى تهدد بقاءها وعلى رأسها فيروس الطائفية الذى تصر قوى الهيمنة الأجنبية على تأجيجه من أجل استكمال مشاريعها فى المنطقة، ويجب أن تكون مهمة تعزيز فكرة الوحدة العربية نصب أعيننا فى كل وقت وبكافة الوسائل الممكنة دون أن نخشى سخرية من أحد بسبب الحال الذى وصلت إليه الأمة، وعليه فإن وحدتنا العربية المآمولة مهما طال الزمن أو توقف المسار أو انتكس يجب أن تكون حاضرة فى كافة برامج الأحزاب القومية وجميع المؤتمرات العربية وكذلك فى وسائل الإعلام الجديرة بالدعوة لهذا الهدف النبيل، ويتصل بتعزيز الإيمان بفكرة الوحدة توجيه البحوث والدراسات العربية نحو إثبات الجدوى السياسية والاقتصادية والاجتماعية للوحدةة واقتراح الأشكال الدستورية والسياسية والاقتصادية والتعليمية وغيرها التى من شأنها أن تجعل طريق الوحدة آمناً ومثمراً .
ومن ناحية ثانية أصبح من الملح أن تؤخذ قضية الخلاف بين الفصائل القومية على محمل الجد، وقد رأينا آثارها المخربة لقضية الوحدة العربية وللنضال القومى العربى بصفة عامة، والحق أنه من العار على أى مؤمن بالعروبة كإطار أمثل للمستقبل أن يدخل فى خلاف ناهيك عن صدام مع من يشاركه الرأى لاعتبارات هى فى أفضل الأحوال ثانوية لأن الخلافات بين الفصائل القومية وداخل الفصيل الواحد تنبع فى معظم الأحوال من مصالح ذاتية ضيقة وليس من خلاف فى الرؤى السياسة، ويزداد إلحاح ضرورة إنهاء الخلاف بين الفصائل القومية وداخلها بسبب المتغيرات التى تعصف فى الوقت الراهن بالوطن العربى وتهدد استقراره ورفاهيته بل وبقاءه الآمن، وتحتاج هذه المهمة إلى من يبادر بالدعوة إلى إدارة حوارات جزئية يعقبها انعقاد مؤتمر يضع هذه الغاية نصب عينيه، والواقع أنه لا يجوز لنا توزيع المسئولية عن إخفاق مسار الوحدة العربية على الآخرين طالما عجزت القوى القومية العربية عن توحيد نفسها.
|