المؤتمر القومي العربي
ARAB NATIONAL CONFERENCE
المؤتمر التاسع والعشرون
27 – 28 تموز/يوليو 2018
بيروت - لبنان
منطق التحوّلات:نتائج وتوقّعات**
د. زياد حافظ *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الأمين العام للمؤتمر القومي العربي.
*ورقة بمثابة التقرير السياسي للدورة التاسعة والعشرين للمؤتمر القومي العربي.
منطق التحوّلات: نتائج وتوقّعات
د. زياد حافظ
مقدمة
قدمنا في الدورتين السابقتين وفي اجتماعات الأمانة العامة سلسة من الأوراق وتقديرات موقف نعتقد أن خلاصاتها كانت وما زالت قائمة وصحيحة. في هذه الورقة سنتذكر بعض خلاصاتها في الجزء الأول بينما في الجزء الثاني سنعرض مقاربة للساحات الساخنة في الوطن العربي. أما في الجزء الثالث فسنعرض تصوّرا لمستقبل النظام العربي في ظل التحوّلات الدولية والإقليمية والعربية القائمة والمرشّحة للاستمرار.
ولا يغيب عن بالنا أيضا تفاقم قضية الأمازيغية في المغرب العربي بشكل عام والجزائر بشكل خاص كما لا يغيب أيضا عن بالنا الهجوم على اللغة العربية في مختلف أنحاء الوطن العربي بما فيه المشرق العربي. فهذه القضايا تمّ مقاربتها بشكل أو بآخر في الدورات السابقة غير أن عدم التقدّم بهذه الملفّات يعود إلى الظروف داخل دول المغرب العربي والتي تشهد صراعات حادة حول عدد من القضايا تؤثّر في مستقبلها. أما على صعيد الهجوم على اللغة العربية فهو مرآة للهجوم على الأمة. والصراعات الدموية التي تدور في عدد من الأقطار العربية ليست إلا امتدادا لذلك الهجوم. أما التصدّي للهجوم على اللغة العربية فبرأينا هو رهن التطوّرات الميدانية. فعند انتهاء من دورة عدم الاستقرار فعندئذ يمكن إيجاد تصورات لحماية اللغة. فهو أولا وأخيرا قرار سياسي بامتياز.
الجزء الأول. منطق التحوّلات الدولية والإقليمية والعربية
خلافا لما أعلنه المؤرخ الأميركي المنحدر من أصول يابانية فرنسيس فوكوياما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وحدث اللحظة الأميركية كقطب أوحد في العالم، فإن التاريخ لم يصل إلى نهايته. وهذه المقولة كانت عنوان الحقبة الجديدة لمفهوم ملتوي للعولمة التي أصبحت مرادفا للهيمنا الأميركية بشكل عام وللشركات المالية الكبرى بشكل خاص. فالتحوّلات في بنية الرأس المالية من رأس مالية إنتاجية إلى رأس مالية يحكمها المال وعالم الافتراض لإنتاج ثروة افتراضية ادّت إلى تغييرات في البنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في معظم الدول إلى أن ردّة الفعل باتت حتمية في انتفاضات شعبية ضد السياسات التي تفرضها العولمة عبر مؤسسات عابرة للسيادة كمؤسسة الاتحاد الأوروبي على سبيل المثال. والنخب المثقّفة التي تدور في فلك تلك المؤسسات ما زالت تعيش وهم الصراع بين الغرب وباقي العالم غير مدركة للتحوّلات وغير آبهة لنماذج تعامل مختلفة تقدّمها دول البريكس. فهذه الدول تعتبر أن اللعبة الصفرية التي اعتمدها الغرب غير صحيحة وأن بإمكان الجميع الربح مع الحفاظ على السيادة والخصوصية للدول والشعوب. وهنا أصبحت مقولة المؤرّخ ارنولد توينبي في مكانها: التاريخ عاد إلى التحرّك (history is on the move again).
أولا- التحوّلات الدولية
من الواضح أن المشهد الدولي يتسّم بتحوّلات جذرية في ميزان العلاقات والقوّة بين مختلف الدول. وهذه التحوّلات أفضت إلى بروز محورين متنافسين، الأول في حالة صعود وهو مجموعة دول البريكس وفي مقدمتها كل من الصين وروسيا، بينما المحور الآخر هو الغرب، بقيادة الولايات المتحدة، وهو في حالة تراجع وحتى أفول. أما أسباب الصعود والأفول فقد عرضناها في عدة تقارير وأوراق نلخّصها بالتحوّلات في البنية السياسية والاقتصادية والسكّانية والاجتماعية والثقافية.
1- من ضمن التحوّلات الجذرية على الصعيد الدولي هو انكشاف الهدف السياسي لموجة العولمة (المرحلة المتقدّمة والمتطّورة وفي لباس "حضاري" للإمبريالية) التي تريد إضعاف إن لم يكن إلغاء مفهوم الدولة-الأمة التي حكمت العلاقات الدولية منذ القرن السابع عشر بعد معاهدة وستفاليا. كشف الرئيس الفرنسي ماكرون أن مفهوم السيادة للدولة-الأمة مفهوم نسبي يجب مراجعته. فالقوميات شيء من الماضي وتغذّي الحروب وبالتالي فتح الحدود للتجارة أهم من الحفاظ على "خصوصيات" تضرّ بالتوجّه المعولم. ففيما يتعلّق بقوّامة الاتحاد الأوروبي ومؤسساته على سيادة المؤسسات الوطنية فالمسألة محسومة عنده لصالح مؤسسات الاتحاد. ردّة الفعل في عدد من الدول الأوروبية تشير أن الشعوب ما زالت متمسّكة بخصوصياتها وهويتها وأنها لن تقبل بسيادة خارجية على مؤسساتها الوطنية والقومية. كما أن نتائج الانتخابات في إيطاليا، الدولة المؤسسة للسوق المشتركة الأوروبية وفيما بعد للاتحاد الأوروبي، تنذر بإمكانية الخروج من الاتحاد بسبب عدم اكتراث المسؤولين في مؤسسات الاتحاد لقضايا الشعوب. على كل حال موجة العولمة وبشكلها المالي أطلق موجة مضادة تتجلّى بالتمسّك بالهويات الوطنية والخصوصيات القومية وإنها قد تؤدّي إلى تفكّك الاتحاد.
وبالنسبة للدول العربية التي شهدت اهتزازات كبيرة تناولت تماسك الدولة وتماسك المجتمع في محاولة واضحة للتفتيت وإعادة التركيب وفقا للمفاهيم المعولمة المذكورة أعلاه فإن ردود الفعل الشعبية وإلى حدّ كبير للنخب كانت واضحة بتمسّكها بالدولة ورفض المشاريع التفتيتية التي بدأت بعد خروج مصر من الصراع العربي الصهيوني وصعود الطفرة النفطية. وفي الدول العربية رمز تماسك الدولة هو الجيش الوطني الذي تمّ استهدافه بشكل مباشر في كل من العراق وسورية ومصر واليمن وليبيا، بينما جيوش بعض دول مجلس التعاون لا تخلو من خصخصة ما حيث يتواجد في مواقع حسّاسة مرتزقة من عدّة دول. فخصخصة القوّات المسلّحة عبر اللجوء إلى مرتزقة أجانب هدفه إضعاف الدولة المركزية وجعلها منكشفة على تدخّلات خارجية تسلب استقلالية القرار الوطني، هذا إذا وجد، كما أن هذه الدول التي تلجأ إلى الخصخصة لا تثق بأبنائها خشية من تمرّد فانقلاب فثورة!
2- من ضمن التحوّلات في العالم هو انتقال القاعدة الإنتاجية للسلع من دول الغرب إلى دول في آسيا وأميركا اللاتينية بينما زاد التمركز المالي في الغرب بيد المؤسسات المالية وبيوت المال. فميزة الاقتصاد الغربي هو التحوّل إلى اقتصاد رقمي وافتراضي ذي طابع ريعي بامتياز في إنتاج الثروة انعكس على البنية السياسية في هذه الدول. فالثروة هي معظمها افتراضية نتجت عن لا شيء بل عن المضاربات المفتعلة والتي تدرّ ريعا لأصحابها. فمن جهة أصبحت القوى السياسية المنظّمة، أي الأحزاب والتجمّعات، التي كانت تتكلّم باسم شرائح المجتمعات الصناعية مؤسسات تحمي القوى المستفيدة من الاقتصاد الافتراضي الريعي وبالتالي تحرص على توزيع الثروة من القاعدة إلى قمة الهرم، أي نهب أموال الشعب لمصلحة المتنفّذين في أروقة الحكم. هذا هو المنتوج الفلسفي للنيوليبرالية. وهذا يعني انفصام الطبقة السياسية عن القاعدة الشعبية ما زاد في نمو الحركات الشعبوية سواء في أوروبا أو في الولايات المتحدة. ومن نتائج التحوّلات في البنى السياسية رداءة النخب الحاكمة التي ساهمت وما زالت في الانقسام العامودي والأفقي في المجتمعات الغربية. أمام ذلك الواقع، لا تجد دول الغرب إلاّ الهروب إلى الأمام في مغامرات عسكرية غير محسوبة بحجة محاربة الإرهاب الذي صنعته وموّلته واستوردته إل دولها. لكن ذلك الهروب إلى الأمام وصل إلى طريق مسدود فظهر التصدّع داخل هذه الدول وهذا هو حالها اليوم.
3- التحوّلات في البنى السياسية ناتجة أيضا عن تحوّلات في البنى السكّانية. فمن جهة شاخ سكّان دول الغرب سواء أوروبا أو في الولايات المتحدة إلى معدّلات أقلّ من معدّلات النمو الضرورية للحفاظ على التركيبة الأصلية من جهة، وعلى الحضارة التي نتجت عنها. وبالتالي لجأت إلى فتح باب الهجرة من دول إفريقية وعربية بالنسبة لأوروبا ومن دول أميركا اللاتينية بالنسبة للولايات المتحدة. ففي أياّم البحبوحة الاقتصادية في تلك الدول كانت الهجرة إضافة اقتصادية لتلك المجتمعات حيث أقدم المهاجرون الجدد على القيام بأعمال لم يعد السكّان الأصليون يريدونها. أما في أيام الضيق الاقتصادي المزمن التي تعيشه دول الغرب بسبب فشل النموذج الاقتصادي النيوليبرالي فإن الهجرة الوافدة أصبحت عبئا على المجتمعات الغربية التي بدأت تتصدّع. من هنا نمت قيادات وتيّارت شعبوية تهدّد استقرار وتماسك تلك المجتمعات. وكل ذلك يعود إلى بنية النظام السياسي الذي يولد قيادات في منتهى الرداءة في المعرفة والخبرة والفهم وقبل كل شيء في الأخلاق. فهي فاسدة بشكل موضوعي وفي كثير من الأحيان بشكل ذاتي (كلنتون، ساركوزي، بلير على سبيل المثال).
هنا لا بد من وقفة استطراديه حول أبعاد أزمة المهاجرين/النازحين والنموذج الاقتصادي. فالفشل في النموذج يعكس فشلا في الادعاء أن النموذج الغربي يأتي بالرفاهية لمن يعتمد مبادءه وقيمه وسياساته. الحقيقة باتت واضحة. فالغرب بشكل عام لم يصل إلى الرفاهية إلاّ في الحقبة الاستعمارية وليس بفعل "التنوير" أو الثورة الصناعية الذي ادّعته الدعاية الغربية. وبما أن الحرب العالمية الثانية أرهقت الامبراطوريات الاستعمارية القديمة كفرنسا والمملكة المتحدة واسبانيا والبرتغال وإيطاليا، فإن الحقبة التي تلت الحرب العالمية الثانية أمّنت نوعا من الرفاهية عبر مشروع مارشال لإعادة إعمار أوروبا. وهدف مشروع مارشال كان لإيقاف التناميّ الشيوعي الذي توغّل في الانتخابات البرلمانية في كل من فرنسا وايطاليا ووصول حزب العمّال البريطاني إلى الحكم. فبعد حقبة خطة مارشال بدأت الدول المستعمرة الحصول على استقلالها في موجة عالمية لحركة التحرّر بدأت في الوطن العربي وامتدت إلى إفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية. فبدأت الأزمات الأوروبية بالتفاقم ما دفع إلى إقامة الاتحاد الأوروبي بعدما وصلت حقبة السوق المشتركة إلى طريق مسدود مع نهاية الحرب الباردة. كما أن سقوط الاتحاد السوفيتي في مطلع التسعينات سارع في ضمّ عدد من الدول الأوروبية الشرقية إلى الكتلة الغربية وما حملت من أعباء عليها. في مطلق الأحوال، فإن الضيق الاقتصادي يعكس قرارات سياسية تعود إلى منظومة فكرية غير صحيحة قامت على استغلال الشعوب السمراء والسوداء والصفراء لتأمين رخائها. فعندما خسرت تلك الامكانية دخلت في حلقة مفرغة من الأزمات نشهدها الآن ودون أفق يذكر. فسقوط المنظومة الاشتراكية أجهض الخيارات المحتملة لبناء مجتمعات وكيانات سياسية تستطيع العيش دون اللجوء إلى الاستغلال والهيمنة. سياسات دول الغربية في الألفية الثالثة هي محاولة بائسة لاسترجاع ما يمكن من الحقبة الاستعمارية عبر شنّ الحروب في القارة الإفريقية والمشرق العربي.
من جهة أخرى لا بد من التذكير أن مع سقوط الاتحاد السوفيتي بادرت دول الغرب إلى افتعال حروب في آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية لأسباب عديدة نلخّصها بالطمع بثروات القارات. من نتائج هذه الحروب موجة النزوح من مهاجرين ولاجئين إلى أوروبا من آسيا وإفريقيا، ومن أميركا اللاتينية نحو الولايات المتحدة. كذلك الأمر بالنسبة لموجة النزوح في كل من لبنان والأردن. أصبحت أزمة اللاجئين/النازحين الأزمة المتصدّرة في الخطاب السياسي في دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.
أما الولايات المتحدة فاستفادت من تناثر الامبراطوريات القديمة والتي ساعدت على تناثرها للإحلال مكانها عبر الادّعاء بمنظومة قيمية كانت غطاء للهيمنة الاقتصادية المباشرة والمطلقة. هنا أيضا، فشلت الولايات المتحدة في فرض الهيمنة خاصة بعد سقوط الاتحاد السوفيتي ففقدت بوصلتها ودخلت في متاهات سياسات خارجية عبثية مكلفة مع تحوّلات في البنية الاقتصادية التي حوّلتها من مُصدّر للسلع للعالم إلى مستورد لأكثر من خمسين بالمائة من حاجياتها. فهده التحوّلات مكّنت دولا آسيوية وأميركية لاتينية من النهوض الاقتصادي مع استعادة روسيا لعافيتها السياسية والعسكرية والاقتصادية وتراجع قوّة الولايات المتحدة.
5- تنعكس رداءة النخب الحاكمة على مؤسساتها العسكرية التي أصبحت عاجزة عن خوض حروب خاطفة وحاسمة. وهذه الرداءة تجلّت أيضا في نوعيات القيادات العسكرية كما تفيد حوادث الاصطدام لقطاعات بحرية أميركية أو إخفاقات ميدانية في عدد من المسارح العسكرية حيت تقوم بعمليات عسكرية في أكثر من 7 دول. ومن جهة أخرى هناك من يستفيد من إطالة أعمار الحروب دون حسمها كالمجمّع العسكري الصناعي والمؤسسات المالية التي قد تساهم في إعادة ما دمرّته تلك الحروب وذلك عبر قروض بشروط ربوية واضحة أو عبر رهن أصول وثروات وممرّات استراتيجية لمصلحتها. فطالما امتلك الغرب، وفي طليعته الولايات المتحدة، شرايين المال والتحويلات المالية فإن القدرة على السيطرة على الاقتصادات المستهدفة تكون كبيرة. لكن عجز المؤسسات العسكرية في حروبها في إخضاع النخب الحاكمة لرغباتها كما في سورية وإيران على سبيل المثال يفتح المجال للتمرّد على القرار السياسي الغربي. ليس من باب التفاخر الادّعاء إن إيقاف المشروع الأميركي في كل من العراق وسورية هو الذي ساهم في تغيير ميزان القوّة في العالم لصالح القوى التي تهدف إلى التحرّر من السيطرة والهيمنة الغربية، بل هو واقع وحقيقة.
وهناك مبالغة كبيرة وغير دقيقة حول القدرات العسكرية الأميركية كوسيلة لفرض سياسات الولايات المتحدة. صحيح أن الولايات المتحدة تملك ترسانة وقوّة نارية تستطيع من خلالها تدمير المعمورة الاف المرّات. غير أن هذه الترسانة لا ولن تمكّنها من تحقيق أي نصر بل الخراب والدمار فقط دون أي نتيجة سياسية تذكر. لم تنتصر الولايات المتحدة على أي من خصومها عسكريا بعد الحرب العالمية الثانية. ونود التركيز هنا أن نوعية السلاح الأميركي تتراجع أمام نوعيات منافسة من قبل روسيا والصين. فالسلاح الأميركي يُنتج لأغراض الربح وبالتالي مكلف وبنوعيات متدنّية. بينما السلاح الروسي والصيني يُنتج لفعّاليته وانخفاض كلفته. أما على صعيد الأداء فيمكن إبداء الملاحظات التالية:
ففي شبه الجزيرة الكورية قادت تحالفا دوليا في مطلع الخمسينات من القرن الماضي ضد كل من الصين وكوريا التي انتقلت إلى المعسكر الشيوعي لكن لم تستطع التفوّق على كوريا رغم تدميرها، فانشطرت الأخيرة إلى قسمين: قسم شيوعي وقسم رأس مالي خاضع وتابع للولايات المتحدة.
في الفيتنام مُنيت الولايات المتحدة بهزيمة نكراء ما زالت تداعياتها مؤثّرة في نفسية القيادات العسكرية الأميركية.
في حرب "تحرير الكويت" أوقفت الولايات المتحدة العمليات العسكرية بعد خروج القوّات العراقية من الكويت وذلك حرصا على عدم التورّط في حرب طويلة المدى مع العراق، لتستعيد المبادرة عام 2003 فتواجه مقاومة عراقية كان لها الفضل الأكبر في وقف المد الأمريكي المهيمن.
أما في أفغانستان التي احتلّتها عام 2001 ما زالت الولايات المتحدة عاجزة عن فرض سيطرتها على مجمل أفغانستان خارج بعض الأحياء في كابول وذلك بعد 17 سنة من التواجد الاحتلالي الذي ذهب ضحاياه عشرات الألاف من الأفغانيين. كما احتلّت العراق ودمرّته ولكن خرجت منه مهزومة عاجزة عن غطاء سياسي عراقي يبرّر استمرار وجودها. في الصومال تمّ إخراج قوّاتها بعد حادثة "البلاك هوك" عام 1993.
في لبنان، كان الهجوم على معسكرات المارينز عام 1983 سببا للانسحاب من لبنان. فالسجّل العسكري الأميركي سلبي للغاية رغم مظاهر القوّة.
أضف إلى ذلك فإن جهوزية القوّات المسلّحة لمواجهة خصم صاحب إرادة وعدّة وعتاد محدودة للغاية وفقا لتقييم "معهد هريتاج" الأميركي المحافظ المرموق. وما يعزّز تقييم المعهد إقرارات القيادة العسكرية الأميركية في جلسات الاستماع في الكونغرس حول عدم جهوزية القوّات المسلّحة في مواجهة خصم صاحب إرادة وقدرات. من هنا نفهم إنفاق ما يوازي تريليون دولار خلال العشرة سنوات القادمة لإعادة تأهيل قوّاتها المسلّحة، هذا إذا ما استطاعت الإنفاق في المكان المناسب. فآخر المعلومات تفيد أن الهدر سيّد الموقف في البنتاغون وهناك كلام عن فقدان 21 تريليون دولار لا يستطيع المسؤولون تحديد أماكن الصرف. فكل ذلك يُفقد الولايات المتحدة قدرة على تنفيذ التهديدات ما يجعلها تتراجع عن كثير من تهديداتها والتزاماتها تجاه حلفاءها إذا اضطرت إلى مواجهة عسكرية متوسّطة أو طويلة المدى. هذا ما برّر استعمال جماعات التعصّب والغلو والتوحّش في سورية. فاللجوء إلى الحروب بالوكالة هو إشارة ضعف وليس إشارة "ذكاء" كما يدّعي البعض. وما يزيد الطين بلّة هو الاعتراف من قبل عدد من المسؤولين العسكريين الأميركيين بتفوّق السلاح الروسي نوعا وكلفة على السلاح الأميركي ما يدفع القيادات العسكرية في البنتاغون لمنع مواجهات طويلة المدى كحرب مع الجمهورية الإسلامية في إيران التي يريدها المحافظون الجدد والليبراليون "المتدخلّون" في الولايات المتحدة خدمة للكيان الصهيوني وللأسف بعض الدول العربية. كما أن تلك القيادات حريصة على تجنّب مواجهة مع كوريا الشمالية ما دفع الإدارة إلى المبادرة إلى لقاء رئيس كوريا الشمالية وإلغاء المناورات العسكرية المشتركة مع كوريا الجنوبية واليابان مقابل ساحل كوريا الشمالية.
6- تمركز مراكز المال في عدد قليل من المؤسسات لا يتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة هو من ظواهر التحوّلات السياسية والاقتصادية في الغرب بشكل عام والولايات المتحدة بشكل خاص. فالتمركز المالي هو قرار سياسي للنخب الحاكمة التي لولاه لما حصل التمركز ضاربا عرض الحائط التشريعات التي تقيّد النشاطات الاحتكارية أو شبه الاحتكارية والتي أنشئت خلال العصر الذهبي للراس المالية الإنتاجية في الزراعة والصناعة قبل أن تتحوّل إلى رأس مالية لبيوت المال ومشتقاتها. فعلى سبيل المثال بعض الإحصاءات معبّرة جدّا عما نتكلّم عنه. فوفقا لمجلّة "فوربز" الأميركية هناك خمسة مصارف في الولايات المتحدة تملك نصف أصول النظام المصرفي ما يوازي 15 تريليون دولار. هذه المصارف هي جي. بي. مورغان، شايز، بنك او أميركا، ويلز فارغو، سيتي غروب، ويو. أس. بنكورب. هذا المستوى الأول من التمركّز. أما التمركز الأكثر خطورة فهو في ملكية تلك المصارف. هناك فقط أربعة شركات تملك هذه المصارف كما تملك معظم الشركات العالمية بما فيها الأوروبية المدرجة في بورصات الولايات المتحدة. هذه الشركات هي مجموعة فانغارد، مجموعة فيدليتي، ستيي ستريت كوربوريشن، وبلاك روك. وإذا أضفنا إلى كل ذلك أن مصرف الاحتياط الاتحادي في الولايات المتحدة الذي يقوم بمهام المصرف المركزي، فبالإضافة إلى مجموعة روتشيلد، هناك 12 مصرف يملكون الاحتياط الاتحادي بما فيه المصارف المذكورة أعلاه. وهذه المجموعة تملك قائمة طويلة من الشركات الصناعية والمواصلات والمالية التي تمثّل قاعدة الأعمال في العالم. فهذا التمركز المالي والاقتصادي في ملكية الفعّاليات المالية والاقتصادية ينعكس أيضا على عالم الاعلام.
7- واكب تمركز المال بيد القلّة وبيد بيوت المال تمركز الاعلام في الغرب بيد بضعة شركات. فما يُسمّى خطأ بالإعلام المهيمن هو في الأساس الإعلام الشركاتي، أي الذي تملكه الشركات، ولذلك نتائج عدّة مفصلية في صناعة الرأي العام. ففي عام 1980 كان هناك 50 شركة تملك 90 بالمائة من وسائل الاعلام الأميركي، أي صحف، مجلاّت، محطّات راديو، محطّات تلفزيون، واستديوهات السينما والتسجيل. عام 2011 تقلّص العدد إلى 6 شركات فقط، وعام 2017 إلى 5، وهي شركة والت ديزني، فياكوم، كومكاست، أي تي أند تي، وسي بي اس. ومداخيل هذه الشركات تتجاوز 250 مليار سنويا. أما في المملكة المتحدة، فهناك سبع شركات تسيطر على كافة وسائل الاعلام المرئي والمكتوب والهوائي، بما فيه المؤسسة الوطنية بي بي سي. والصورة لا تختلف كثيرا في فرنسا وألمانيا حيث ملكية وسائل الاعلام تفتقد إلى الشفافية عبر الملكيات المتقاطعة يصعب فكّ خيوطها. غير أنها تروّج لخطاب واحد أسوة بما يحصل في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة.
نتائج ذلك التمركز عديدة. النتيجة الأولى هي أن ذلك التمركز هو انعكاس لموجة العولمة حيث يتمّ تنميط الرأي العام في مختلف المجتمعات الغربية نحو ثقافة الاستهلاك المفرطة والابتعاد عن التفكير في مقاربة القضايا المصيرية في تلك المجتمعات. أي بمعنى آخر، تمّ استبدال سيطرة الدولة على الاعلام ببضعة شركات تتفق على عدم مقاربة مشاكل المجتمع الجوهرية كعدم المساواة والسياسات الاقتصادية النيوليبرالية، الحروب على دول عالم الثالث، قضايا الفساد في الشركات ومؤسسات الدولة، إلخ. والنتيجة الثانية الناتجة عمّا سبق هو تنميط الفكر الواحد. فنخب محترفة تحتكر صناعة الرأي العام ويحظر التفكير المستقل. من هنا نفهم اللغة الواحدة في شيطنة كل من تعتبره مخالفا لرأي النخبة الحاكمة. أما النتيجة الثالث هو فقدان التنوّع الفكري الذي كان سمة الحضارة الغربية. النتيجة الرابعة هو استبدال الوقائع بأخبار كاذبة تخدم مصالح النخب الحاكمة والشركات، وخاصة فيما يتعلّق بقضايا جوهرية كالحروب، والضرائب، والخدمات الاجتماعية، إلخ. والنتيجة الخامسة هو فقدان المصداقية لدى الجماهير بالإعلام الشركاتي. لكن أخطر من كل ذلك هو دور المال في إفساد العمل السياسي. فالسياسيون في الغرب بشكل عام والولايات المتحدة بشكل خاص استبدلوا ولائهم للبلد وللمواطن بالولاء للمموّل السياسي. الرئيس الفرنسي الجديد "خرّيج" مجموعة روتشيلد المالية، والسياسيون في الولايات المتحدة مدينون لمموّليهم وليس لجمهورهم، ما أثار موجة ناقمة تبلورت في الانتخابات الرئاسية الأخيرة حيث كان التصويت رفضا لمرشحة الطبقة الحاكمة أو "الاستابلشمنت" وليس تأييدا لشخص ترامب. حكم المال يقارب حكم اللصوص وهذا هو حال الطبقة السياسية في الغرب ومن يتّبع النموذج الغربي في سائر الدول. هذه بعض النتائج التي يمكن أن يخصّص لها أبحاث عديدة.
أما في الدول العربية فهناك ظاهرة السيطرة على صناعة الرأي العام عبر المال خدمة لأجندات سياسية واقتصادية لا علاقة لها بمصالح الشعوب. هنا أيضا يواكب الاعلام العربي نظيره الغربي في فقدان الاستقلالية والمصداقية في آن واحد مع بعض الاستثناءات القليلة جدّا.
من نتائج التحوّلات الدولية تصدّع التحالفات الغربية من جهة وتثبيت التحالفات الممانعة للهيمنة الأميركية والغربية.
أ- تصدّع التحالفات الغربية
اول مظاهر التصدّع برزت خلال الفترة التي سبقت احتلال العراق. الموقف الفرنسي في عهد الرئيس الفرنسي جاك شيراك كان واضحا ومعارضا للاحتلال ما دفعت إدارة جورج بوش الابن من بناء تحالف خارج مجلس الأمن سّمي آنذاك بتحالف الراغبين ( coalition of the willing). غير أن العالم كان وما زال تحت وطأة ضربات القاعدة في نيويورك وواشنطن وضرورة الالتفاف حول واشنطن في القضايا الدولية لمحارب "الإرهاب" الذي صنعوه. كما أن مظاهر التراجع والضعف الأميركي لم تكن واضحة المعالم في العديد من المحافل الدولية التي كانت تعتقد أن كلفة المواجهة مع الولايات المتحدة فوق طاقتها. غير أن المقاومة العراقية أوقفت المشروع الأميركي كما أن صمود المقاومة الإسلامية أمام العدوان الصهيوني في تموز/يوليو 2006 كشف عورة كل من الولايات المتحدة والكيان الصهيوني. في السنوات الأخيرة للعقد الأول من الألفية الجديدة بدأت بوادر صعود الاتحاد الروسي والتصدّي للتقدّم الأميركي في أوروبا الشرقية متنكّرا لتفاهمات مع آخر رئيس للاتحاد السوفيتي بعدم التوسّع شرقا تجاه روسيا. فكانت المجابهة الأولى في جورجيا عام 2008 التي اعتقدت هذه الأخيرة، بناء على تحريض أميركي، إمكانها منازلة روسيا التي لم يتضّح لها وللولايات المتحدة استعادة روسيا عافيتها السياسية والعسكرية والاقتصادية وقبل كل ذلك استقلالية قرارها بعد سقوط الاتحاد السوفيتي.
لسنا في إطار سرد مختلف التطوّرات التي حدثت وأكّدت تراجع الولايات المتحدة بل نشير إلى بروز مظاهر تصدّع جدّية في الغرب بعد الاستفتاء الذي أدّى إلى خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي والترحيب الذي رافقه من قبل الحملة الانتخابية الرئاسية الأميركية لدونالد ترامب. وبعد انتخابه الذي فاجأ النخب الأوروبية والأميركية الملتزمة بمشروع العولمة وتقويض السيادات الوطنية لمصلحة قوى عابرة للقارات والدول، تنامى الخطاب الأميركي المعادي للاتحاد الأوروبي ولمعظم حلفاء واشنطن التقليديين كأوروبا وكندا على سبيل المثال، وحتى أيضا للحلف الأطلسي.
إشارة ثانية إلى التصدّع هو ما حصل في اجتماع مجموعة 7 في شارلوفوا في مقاطعة الكيبيك في كندا في 9 و10 حزيران/يونيو 2018 دليل واضح على تصدّع كبير بين "الحلفاء" الغربيين. فرفض الرئيس الأميركي ترامب لتوقيع البيان الختامي يأتي في سياق ضربه عرض الحائط لمختلف التفاهمات والاتفاقات الدولية التي بدأت سلسلة الخروج منها مع خروجه من اتفاقية المناخ، مرورا بالخروج من اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ، والتهديد من الخروج من اتفاقية نافتا، وأخيرا قراره بالانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران الذي شاركت فيه دول أوروبية ووافق عليه مجلس الأمن الدولي بالإجماع. ويرافق كل ذلك الشروع في حروب تجارية معاكسة لمنظّمة التجارة الدولية (والتي يهدف إلى تعطيلها) تطال الحلفاء من كندا والاتحاد الأوروبي واليابان وكوريا الجنوبية وصولا إلى الخصوم كالصين وروسيا. كما أن العقوبات التي هدّد الرئيس الأميركي بفرضها على الشركات الأوروبية التي ستتعامل مع الجمهورية الإسلامية في إيران زادت من مناخ عدم الثقة بين أوروبا والولايات المتحدة. إضافة إلى كل ذلك هناك ملفّات خلافية عديدة تتعلّق بقضايا اقتصادية وأمنية وسياسية أصبح من الصعب معالجتها والولايات المتحدة متمسّكة بالنهج البلطجي في علاقاتها مع العالم. فمن مظاهر التصدّع التباين المعلن في الملف النووي الإيراني، ثم حروب التعرفة التجارية مع كل من الحلفاء والخصوم، قضايا البيئة والمناخ، وقضية نقل السفارة الأميركية إلى القدس والاعتراف بأن القدس عاصمة الكيان الصهيوني. بالمقابل فإن الدول الأوروبية ما زالت تشاطر موقف الرئيس الأميركي في الملفّ السوري، وملفّ الصواريخ البالستية الإيرانية، والملفّ اليمني.
السؤال هنا هل تستطيع دول الاتحاد الأوروبي الخروج من الوصاية الأميركية فيما يتعلٌّق بملف العقوبات المرتقبة على الجمهورية الإسلامية في إيران وكل من يتعامل معها؟ الإجابة ليست سهلة. فإذا اعتمدنا السجّل الماضي لدول الاتحاد الأوروبي فنرى أنها في آخر المطاف تعود وترضخ للمشيئة الأميركية مهما كانت درجة الامتعاض منها. لكن هناك من يعتقد أنه قد طفح الكيل إذا جاز الكلام عند دول وازنة من الاتحاد الأوروبي. فموقف المستشارة الألمانية أنجيلا مركل بعد قرار ترامب بالانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران، وبعد مضيه في فرض التعرفة الجمركية على عدد من دول الاتحاد أدّى إلى إعلانها عن ضرورة تشكيل قوّة عسكرية أوروبية مستقلّة عن الولايات المتحدة لأن وفقا لما قالته فإنه لم يعد من الممكن الاتكال عليها. وما يعزّز ذلك هو اتهام ترامب الاتحاد الأوروبي بأنه "العدو" ((foe اسوة بالصين وروسيا.
بات واضحا أن الرئيس الأميركي لا ينظر إلى علاقته مع "الحلفاء" من منظار سياسي بل من منظار اقتصادي ومالي. الاتحاد الأوروبي منافس أساسي على صعيد العلاقات التجارية مع الولايات المتحدة وبالتالي يجب إخضاعه للمشيئة الأميركية. الطريقة التي تعامل بها الرئيس الأميركي مع رئيس هيئة الاتحاد جان كلود يونغر كانت مهينة للغاية. وبالتالي التفاهم السياسي مع الاتحاد الأوروبي أصبح قاب قوسين أو أدنى. بالمقابل هناك من يعتقد أن الاتحاد الأوروبي عليه الصبر حتى تنتهي ولاية ترامب فتعود الأمور إلى نصابها بين الكتلتين. لسنا متأكدّين من دقّة ذلك التقدير غير أن رداءة القيادات الأوروبية تفسح المجال لكافة الاحتمالات. وبالتالي نعتقد أن العلاقة بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي مرشّحة إلى المزيد من التدهور على الأقل في المدى المنظور.
إشارة ثالثة هي الهجوم المرتقب على اليورو التي قد يشنّها مضاربون كجورج سوروس لترويض الاتحاد الأوروبي. والأخير لا يخفي رغبته في تقويض ما يُسمّيها استقلالية الدول القومية لصالح قوى العولمة. هذا سيدفع الاتحاد الأوروبي إلى خلق نظام مالي موازي للدولار وخاص باليورو تقوم عبره المداولات بين دول الاتحاد الأوروبي من جهة ودول الاتحاد الأوروبي مع العالم متجنّبا نظام "سويفت" التي تسيطر عليه الولايات المتحدة ومن خلاله على شرايين المال في العالم. هذا النظام المالي الأوروبي قد يلاقي النظام المالي لمجموعة البريكس وبالتالي يتمّ تدريجيا التخلّي عن الدولار على الصعيد العالمي.
إشارة رابعة هو ترنّح الحلف الأطلسي عبر البوّابة التركية وعبر الخلافات بين الولايات المتحدة وسائر الأعضاء فيما يتعلّق بالنفقات الدفاعية التي لا تتجاوز 2 بالمائة من الناتج الداخلي لدول الأعضاء. يكفي هنا أن إدارة ترامب بدأت مراجعة جدوى الحلف الأطلسي وتململها من تحمّل القسط الأكبر من العبء المالي. فضاق صدر الرئيس الأميركي الذي ينظر إلى الأمر من زاوية الصفقة والربح والخسارة فيعتبر أن الولايات المتحدة قدّمت الأمن لأوروبا التي لم تتحمّل إلاّ بشكل رمزي كلفة الدفاع عن الأمن الأوروبي. فالرسالة التي وجّهها ترامب لحلفائه (عبر سيل من الاهانات والتهجّم على المستشارة الألمانية انجيلا ميركل ورئيسة وزراء المملكة المتحدة تيريزا ماي، ورئيس وزراء كندا جستن ترودو، والاستخفاف بالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون) أن الأطلسي وجد لحماية أوروبا من الاتحاد السوفيتي، وبما أن الأخير لم يعد قائما وبما أن خطر اجتياح روسي لدول أوروبا ضئيل جدا فما هي جدوى الأطلسي الذي تتحمّل الولايات المتحدة القسط الأكبر في تمويله، بينما تقوم الدول الأوروبية بعقد صفقات مع روسيا؟ لا يكترث ترامب إلى الدور السياسي للحلف ليس فقط في المسرح الأوروبي بل على صعيد الإقليم في الشرق الأوسط حتى أفغانستان. فالبعد السياسي لا يعنيه بمقدار ما تعنيه الكلفة المالية للموضوع. هذه إشارة إضافية عن تراجع الولايات المتحدة عن دورها العالمي سواء بقرار ذاتي (ترامب) أو بسبب موضوعي الذي تكلّمنا عنه أعلاه وسابقا.
إشارة خامسة هي التصدّع داخل الحكومات المتحالفة تقليديا مع الولايات المتحدة. فالحكومة البريطانية والحكومة الألمانية تترنّحان تحت موجة من الخلافات الداخلية والاستقالات. الحكومة الاسبانية سقطت بعد أزمة كتالونيا. الحكومة الإيطالية دخلت مرحلة عدم استقرار من الصعب التكهّن بتوجّهاتها. أما الحكومة الفرنسية فتواجه سلسلة من الإضرابات الاحتجاجية ضد السياسات المتبعة من قبل الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، وكل ذلك عشية القمة للحلف الأطلسي. فالرئيس الأميركي يتوجّه (عند كتابة هذا التقرير) إلى تلك القمة قبل قمّته المرتقبة مع الرئيس الروسي في ضاحية هلسنكي مع مواقف سلبية تجاه دور الحكومات الاوربية في المشاركة في النفقات.
إشارة سادسة هي عجز النظام السياسي في الولايات المتحدة عن عقد معاهدات وتفاهمات يمكن نقلها إلى إدارات متتالية. ومن ظواهر ذلك العجز ما أقدمت عليه إدارة ترامب من انسحاب من المعاهدات والمؤسسات الدولية. ففي العام الماضي تمّ الانسحاب من معاهدة باريس حول المناخ والاحتباس الحراري، وهذه السنة من منظّمة اليونسكو ولجنة حقوق الانسان التي انضمت إليها عام 2009، ومؤخرا من الاتفاق النووي مع الجمهورية الإسلامية في إيران. هذا الانسحاب من المؤسسات والمعاهدات الدولية دليل على ضعف في إقناع الولايات المتحدة المجتمع الدولي بمعناه العام (وليس مجموعة الدول الغربية التابعة للسياسة الخارجية الأميركية) بوجهة نظرها. فتكرار التصويت في الجمعية العمومية في الأمم المتحدة على قرارات لا تريدها الولايات المتحدة تشير إلى مدى العزلة الدولية التي أصبحت فيها. كما أن ذلك العجز له تداعيات كبيرة حول مصداقية الولايات المتحدة تجاه الالتزامات والموجبات التي تقع على عاتقها. ففقدان المصداقية يُفقدها شرعية مواقفها، وفقدان تلك الشرعية يفقدها دورها. فإذا كانت الولايات المتحدة الدولة التي لا يمكن الاستغناء عنها وفقا لمقولة وزيرة الخارجية الأميركية السابقة مادلين اولبرايت، فإن الولايات المتحدة على وشك أن تصبح الدولة التي لا قيمة لها، وكما رددنا سابقا واليوم يتبنّاه أحد المعلّقين الكبار في صحيفة "الواشنطن بوسط" دانا ميلبنك، فإن الولايات المتحدة أصبحت "جمهورية موز".
في هذا السياق لا بد من التوقّف حول قضية الملف النووي الكوري. فبعد السجال الكلامي بين رئيس كوريا الشمالية والرئيس الأميركي عّقد مؤخّرا لقاء في سنغافورة نزع فتيل التوتّر الذي كاد إن لم يُضبط أن يؤدّي إلى مواجهه في شرق آسيا لا تُحمد عقباها عالميا. لكن ما يهمّنا هنا هو دور الحليف التقليدي للولايات المتحدة في موضوع كوريا الشمالية وهو كوريا الجنوبية. فالأخيرة لم تكن مرتاحة للتصعيد الكلامي بين الجار الشمالي والرئيس الأميركي وبالتالي تلقّفت الإشارات الإيجابية من كوريا الشمالية فبادرت إلى نزع الفتيل بمؤازرة جهود كل من الصين وروسيا. هذا دليل آخر على تراجع مكانة الولايات المتحدة في ملفّ أكثر خطورة على أمنها القومي من الملفّ الإيراني. أما مستقبل شبه الجزيرة فيما يتعلّق بنزع السلاح النووي منها فيرتبط بوجود القوّات الأميركية ونشر السلاح النووي في كوريا الجنوبية. الطريق قد يكون طويلا والمطبّات عديدة خاصة أن مصالح خاصة داخل الولايات المتحدة وخارجها كاليابان غير مستعدّة للقبول بخروج الولايات المتحدة من شبه الجزيرة وانهاء حالة الحرب بين الدولتين تمهيدا لوحدة الشطرين الشمالي والجنوبي.
ملاحظة: ما يمكن أن يُفسّر التراجع في الموقف الأميركي تجاه كوريا الشمالية هو اكتشاف أكبر مخزون لعناصر الأرض النادرة على 150 كيلومتر من العاصمة في الشمال. هذه العناصر أساسية في مختلف التكنولوجيات الحديثة سواء كانت لأغراض عسكرية أو مدنية. تأمل الولايات المتحدة أن تكون لها "حصّة" في ذلك الكنز الجديد.
ب- التصدّع داخل دول الاتحاد الأوروبي
إذا كانت العلاقة بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة متصدّعة فإن حال عدد من دول الاتحاد لا يخلو من التصدّع مع مؤسسة الاتحاد الأوروبي من جهة، وداخل هذه الدول في بعض الحالات كإسبانيا وايطالية واليونان من جهة أخرى على سبيل المثال. فالتصويت داخل المملكة المتحدة للخروج من منظومة الاتحاد الأوروبي والملقّب ب "بريكسيت" دليل على أن الاتحاد الأوروبي بحاجة إلى مراجعة جذرية لمؤسساته وسياساته خاصة التقشّفية التي تتحمّل وزرها شعوب هذه الدول. كما أن الولايات المتحدة غير بعيدة عن تغذية ذلك التصدّع وفقا لسياسة "فرّق تسد" بعد أن انتفت الحاجة إلى اتحاد أوروبي من وجهة نظر أميركية. ما تريده الأخيرة هو أن تحل منظومة الحلف الأطلسي مكان الاتحاد الأوروبي على الصعيد السياسي دون أن تكون مقيّدة باعتبارات اقتصادية تعتبرها مجحفة بحقّها.
التصدّع داخل هذه الدول ومع منظومة مؤسسات الاتحاد الأوروبي يعود إلى عدّة أسباب أهمّها سياسات التقشّف التي تهدف إلى تصفية المكتسبات من دولة الرعاية وإضعافه، ثم تفكيك المؤسسات النقابية في وجه تمركز مالي واقتصادي متفاقم. فسياسات النيوليبرالية الاقتصادية قضت أن تكون يد العاملة رخيصة فكانت موجة الهجرة كما قضت التحوّل إلى اقتصاد افتراضي رقمي أسوة بالولايات المتحدة. وبالتالي كان السبب الثاني سياسات الانفتاح نحو الهجرة الوافدة من وسط وغرب آسيا إضافة إلى الهجرة من دول شمال إفريقيا. فالحروب التي أشعلها تحالف دول الأطلسي بما فيها دول الاتحاد الأوروبي أدّت إلى تلك الهجرة التي تهدّد تماسك المجتمعات كما أنها أصبحت عبئا ماليا على حكومات تلك الدول. أضافة إلى كل ذلك هناك تداعيات تشجيع جماعات التعصّب والغلو والتوحش من رعايا الدول الأوروبية على الالتحاق بفصائل تعمل على تفكيك دول المنطقة في بلاد الشام والرافدين ومصر وليبيا. فهذه الرعايا عادت إلى أوروبا وتقوم بنشاطات مهدّدة أمن المواطنين والدول التي رعتها منذ البداية.
النفور من المهاجرين والنازحين أدّى بدوره إلى المزيد من التوتّر وأعمال الشغب وزادت من عنصرية كانت مكبوتة انتقلت إلى العلن. تشهد أوروبا تنامي الحركات الشعبوية التي لا تخلو من عنصرية تجاه العرب والمسلمين والتي تتنافى مع مبادئ كانت تسوّقها فيما يتعلّق بحقوق الانسان والديمقراطية، إذ تتعرّض الآن إلى مهبّ الريح. الحركات والتنظيمات الشعبوية تحمّل حكوماتها ومؤسسات الاتحاد الأوروبي مسؤولية تفاقم موجات الهجرة. وعلى ما يبدو فإن الآفاق مسدودة أمام أي حلّ عقلاني للمسألة المعرّضة للتحوّل إلى مأساة تطال الجميع من مواطنين إلى مهاجرين. والحلول التي يتمّ تسويقها ليست إلاّ ترقيعا وتأجيلا لاستحقاقات قادمة قد تطيح بحكومات وحتى أنظمة سياسية. فال حركات الانفصالية داخل بعض الدول تتنامى وإن لم تصل حتى الآن حتى ساعة الحسم.
أما فيما يتعلّق بالتصدّع داخل الدول الأوروبية فهناك نوعان من التصدّع: الأول يعود لمسألة الهوية التاريخية كمحاولة كتالونيا في الانفصال عن اسبانيا، وحالة بلجيكا في الصراع بين المكوّن الفرنسي والمكوّن الفلمنكي (القريب من الهولندي)، ومحاولات الباسك في إيجاد دولة مستقلّة عن فرنسا واسبانيا (أكراد أوروبا الجنوبية الغربية) ومحاولة كورسيكا الاستقلال عن فرنسا، ومحاولة سكاّن إيطاليا الشمالية الانفصال عن الجنوب الفقير والمتخلّف حسب تعبيرهم. أما النوع الثاني فهو سياسي اجتماعي وثقافي في آن واحد حيث عدد من الدول الأوروبية ترفض الهجرة الوافدة من دول إسلامية وإفريقية، كما أنها ترفض سياسة هيمنة مؤسسات الاتحاد الأوروبي. فالنزعة إلى عودة تكريس السيادة الوطنية على حساب تنامي مؤسسات الاتحاد الأوروبي قد تطيح التشريعات المشتركة تحت حجة الدفاع عن الحدود من الهجرة غير الشريعة الوافد إليها (إيطاليا، النمسا على سبيل المثال).
ت- ثبات التحالف المناهض للهيمنة الأميركية وتوسيع رقعته
قمة شانغهاي انعقدت في شهر حزيران/يونيو 2018 بالتزامن مع انعقاد قمة مجموعة 7 في الكيبيك والتي كشفت التصدّع الغربي. قمة شانغهاي محطة في تثبيت العلاقات الاستراتيجية بين الصين وروسيا. فالعلاقة الاستراتيجية تشمل البعد السياسي والأمني كما تشمل البعد الاقتصادي. سبق وأن كتبنا في العلاقة الاقتصادية الاستراتيجية بين الصين وروسيا كما سبق وتكلّمنا عن المبادرات لإقامة نظام مالي دولي ومؤسسات مالية غير خاضعة للهيمنة الأميركية (مصرف انماء، ومصرف لتمويل البنى التحتية، صندوق مالي يوازي صندوق النقد الدولي، والتعامل بالعملات الوطنية في العلاقات الثنائية). ولن يكون بعيدا الزمن تتراجع مكانة الدولار الدولية كالنقد الاحتياطي الأول في العالم إلى عملة من بين العملات الأخرى دون النفوذ الذي تمتّع به منذ انفجار أسعار النفط في السبعينات من القرن الماضي. فتسعير السلع الاستراتيجية كالنفط والغاز والقهوة والحبوب والمعادن لن تكون بالضرورة بالدولار بل عملات جديدة أو سلّة من عملات موجودة ولكن جميعها مدعومة بالذهب. عودة الذهب كسند للعملات هو ما نتوقّعه في مدى قد لا يتجاوز بضعة سنوات.
أما الثبات السياسي فتمثّل في مواقف عديدة في ملفّات دولية كانت الولايات المتحدة تتحكم بها منفردة. فمجلس الأمن الذي كان خلال العقدين الماضيين امتدادا لوزارة الخارجية الأميركية لم يعد كذلك. السياسة الخارجية الأميركية في عديد من الملفّات اصطدمت بالنقض الروسي والصيني مما فرض على الولايات المتحدة الخروج من إطار المؤسسة الدولية وبالتالي فقدان "شرعية دولية" لقراراتها. نقض الاتفاق النووي مع الجمهورية الإسلامية في إيران هو مثال عن ذلك.
القاعدة الأساسية التي تتحرّك من خلالها الصين وروسيا هو إطار القانون الدولي وقرارات مجلس الأمن بينما الولايات المتحدة لا تعتبر أنها ملزمة بذلك. أما القاعدة الثانية هو عدم اعتماد قاعدة اللعبة الصفرية في العلاقات الدولية حيث التوازن ومراعاة مصالح جميع الفرقاء هي القاعدة. فعلى جميع الأطراف المعنية أن تعتبر نفسها رابحة بأي اتفاق حيث تجد مصالحها مؤمّنة بينما الولايات المتحدة تعتبر أن ربح لها هو خسارة للغير والعكس بالعكس. حلفاء الولايات المتحدة أصبحوا يدركون فوائد التعامل مع روسيا والصين بدلا من الولايات المتحدة التي لم تعد تستطيع تقديم أي شيء يذكر للعالم، سواء على صعيد السلع أو حتى على صعيد شرايين المال التي تسيطر عليها بشكل احتكاري لا يأخذ بعين الاعتبار مصالح حلفائها وخصومها.
والجدير بالذكر دعوة منظومة البريكس لعدّة دول لم تكن لا في منظومة شانغهاي ولا في مجموعة البريكس. ولهذه الدعوة دلالات. وهي ربما الأهم في اللقاء الأخير، هو الانفتاح على العالم. فدعوة مصر وغينيا وتايلاند والمكسيك وطاجكستان ترمز إلى إقناع العالم أن الغرب ليس المرجع الوحيد للقرار السياسي والاقتصادي العالمي. دعوة مصر لها دلالات عديدة. فعبر مصر تدخل البريكس الوطن العربي كما تركّز وجودها في القارة الإفريقية مع وجودها في الجنوب عبر جمهورية جنوب إفريقيا إحدى الدول المؤسسة لمجموعة البريكس، ووجود غينيا الغنية بالموارد الطبيعية من معادن (بوكسيت، ذهب، الماس) والتي رفضت منذ استقلالها الهيمنة الفرنسية على مقدّراتها. فهي منذ حكم الرئيس المؤسس للجمهورية الغينية أحمد سيكو توري خ |