المؤتمر القومي العربي
ARAB NATIONAL CONFERENCE
المؤتمر التاسع والعشرون
27 – 28 تموز/يوليو 2018
بيروت - لبنان
الوحدة العربية ضرورة حضارية وأمل متجدد **
د. يوسف مكي*
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*عضو الأمانة العامة للمؤتمر القومي العربي، كاتب.
** لا تعبر هذه الورقة بالضرورة عن رأي الأمانة العامة للمؤتمر القومي العربي.
الوحدة العربية ضرورة حضارية وأمل متجدد
د. يوسف مكي
أكدت حوادث الخمسة عقود، أن التنازل عن مطلب الوحدة العربية، والتسليم بالكيانات القطرية، باعتبارها أمرا واقعا ليس بالإمكان التنكر له، يجر إلى متواليات متتالية إلى المزيد من القسمة والتفتيت. والعكس صحيح، فحالات النصر والنهوض من شأنها أن تخلق واقعا جديدا، يعبد الكفاح باتجاه الأهداف الكبرى للأمة، وفي المقدمة منها الوحدة العربية.
كما أكد التطور التاريخي، منذ نهاية الحرب الكونية الأولى، أن الضعفاء ليس بمقدورهم صناعة التاريخ، وأن التعويل على القوى الكبرى، لتحقيق أهداف الأمة هو تعويل على الوهم. لقد رأينا نتائج الثورة العربية الكبرى، تتمخض عن تعيين ملوك الوصاية في العراق والأردن ليكونوا أدوات للمشروع البريطاني في المنطقة، ووضع سوريا ولبنان تحت الاحتلال الفرنسي، وفلسطين تحت الانتداب البريطاني، والمضي في تعبيد الطريق لوعد بلفور المشؤوم، كمقدمة لاغتصاب الصهاينة لفلسطين.
لقد فرض واقع ما بعد الحرب الكونية الاولى على العرب، أن يمتشقوا سلاحهم من أجل التحرر من نير الاستعمار، وتحقيق الحرية والاستقلال لشعوبهم. وقد ظل الوطن العربي، باستمرار في القلب من التحولات السياسية والاستراتيجية، التي تجري في العالم. وشاءت المقادير، أن يكون العرب، في ظل التجزئة ضحية لثقل الجغرافيا والتاريخ. وهكذا وفي ظاهرة غريبة، كانت عوامل قوة الأمة من أسباب ضعفها.
والحديث عن الجغرافيا، هو حديث عن الثروات الطبيعية، المواد الخام، والإمكانيات الزراعية. وهو حديث عن البحار، والثروات الكامنة فيها، وهو حديث عن الممرات والمعابر الاستراتيجية، وعن علاقة وصل بالقارات القديمة الثلاث. أما التاريخ، فليس مجرد سجل راكد لتراكم الأحداث، بل إنه حكاية ما تختزنه الأمة من تراكم حضاري، وإبداعات وعطاء إنساني، وهو أيضاً استيعاب موضوعي وخلّاق لقوانين حركته، ووضعها في سياق الحاضر والمستقبل.
والأمة العربية، مثقلة بجغرافيتها وتاريخها، وكلاهما من الثراء، بما يفوق كل تصور. فهي ملتقى القارات الثلاث، وهي طريق الحرير، وهي المنطقة العازلة بين المياه الدافئة، والمياه المتجمدة. وهي صحارى ووديان وواحات وجبال، خلجان ومحيطات. وبها أكبر مخزون في العالم لعصب الصناعة الحديثة. ومضائقها وممراتها البحرية اختزلت المسافات، بين الشرق والغرب. أما تاريخها، فقد ظل منذ سقوط الدولة العباسية، ثقلاً كبيراً عليها. وتكفي الإشارة، إلى أن جميع الأديان السماوية انطلقت من أرضها.
وكان من نتائج ذلك، أن الخرائط السياسية العربية الرهنة، اكتسبت مشروعيتها، من صياغات ليست من صنعها، ولم تتم وفقاً لإرادتها، بل إن رسم تلك الخرائط، خضع لأطماع ومصالح المنتصرين.
حين دعت حركة اليقطة العربية لتحقيق الوحدة العربية، منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كانت متماهية في ذلك، مع واقع تاريخي ومعاصر، ربط جدليا، بين الدولة المدنية التعاقدية، وبين نشوء الأمة/ الدولة. وعلى هذا الأساس، لم تكن فكرة الوحدة مجرد إعادة جمع لبلدان عربية، متشظية، بقيت طويلا أسيرة الاستبداد العثماني، بل كانت حلا حضاريا للنهوض بهذا الجزء الممتد من الخليج العربي إلى المحيط الهادي، والذي يجمع سكانه لغة وتاريخ وجغرافيا، ومواريث مشتركة.
وكما في تشكل الأمم الأوروبية الحديثة، كانت اللغة هي العنصر الحاسم، في تشكيل الأمة، رغم وجود مكونات لغوية تشاطر اللغة الأم في حضورها في تلك البلدان، كانت اللغة العربية، عنصرا حاسما أيضا ورئيسيا من عناصر تشكل الأمة في الفكر القومي العربي.
الفارق الرئيسي بين المشاريع القومية الأوروبية والمشروع القومي العربي، أن المشروع الأوربي عبر عن بروز قوة اقتصادية فتية هي الطبقة البورجوازية، تناهض قوة آفلة هي الإقطاع، وقد نشأ المشروع القومي في السوق، في حين فرض الواقع التاريخي على الحركة القومية العربية، أن يتلازم نضالها من أجل الوحدة بنضال ضد السوق، منذ تم الغدر بمشروع الوحدة وبمشروع الحداثة العربي، باتفاقية سايكس- بيكو ووعد بلفور.
ومنذ نتائج الحرب الكونية الأولى، اتضح تلازم النضال القومي من أجل الوحدة، مع المبادئ الأخرى، للمشروع النهضوي العربي. ذلك أن النضال من أجل الوحدة، هو في مقدماته، كفاح من أجل الاستقلال، وتحقيق التنمية المستقلة، وبناء الديمقراطية. وهو أيضا رفض للتبعية والهيمنة والوجود الاستعماري، بكل تشعباته وتجلياته. وجميعها مبادئ تصدى لها الغرب، بكل جبروته، رغم كونها مبادئ عالمية، ومستقة مع التطور التاريخي، والكفاح الإنساني من أجل الحرية، ومع فلسفة حركة التنوير.
انتهت المرحلة الأولى، من النضال القومي المعاصر، بنكسة مروعة. وقد فرضت تلك النكسة، على الحركة القومية، أن تطور صيغ الكفاح العربي، وتتجاوز الصيغ التقليدية القديمة. إن الكفاح من أجل تحقيق الوحدة، وفقا لرؤية ما بعد الحرب العالمية الأولى، لا يمكنه أن يحقق أهدافه، إلا من خلال وعي طبيعة التناقض بين الغالبية من الشعب، وبين مصالح الرأسمالية الأوروبية، التي تجد ديمومتها رهنا بهيمنتها وتسلطها على الوطن العربي، وجعله مصدرا لحاجاتها من المواد الخام، وسوقا لمنتجاتها.
وكانت الخصائص الرئيسية لهذا الاستعمار، أنه استعمار فوقي، يعمل على تغيير البني الاقتصادية للمجتمع العربي، لصالح رأسمال الدولة المستعمرة، ويتعامل مع الشعوب المستعمرة تعاملا استعلائيا، لا يرى في حضارة الشعب المضطهد سوى الانحطاط والتأخر والهمجية. وهو فوق ذلك كله، احتلال عسكري، غريب ومتغطرس، يمارس فيه أصغر جندي من قوى الاحتلال صلفه على أكبر كبير في الأمة. وهو احتلال ثقافي يحاول المحتل عن طريقه قطع صلات الأمة بتاريخها وثقافتها وتراثها كله، ثم لا يصل لها بعد ذلك إلا نزر يسير من ثقافة المستعمر، يكاد لا يكفي إلا لأداء خدمة دوائر القمع، التي بدأت في النشوء مع توسع أجهزة الاحتلال، ولأجل تطبيق أعرافه وقوانينه.
تحرر وطني ومضامين اجتماعية:
في حقبة ما بين الحربين العالميتن، وما أعقبها، كان الإيقاع السياسي الذي يموج به الشارع العربي، مفعما بالأماني بقيام أمة عربية واحدة، وانبعاث قوى لحركة القومية العربية. وقد جاء هذا التوجه متزامنا مع بروز مجموعة من الحقائق، ساهمت في تعضيد التوجهات الوطنية والقومية والشعبية، وانبثاق مرحلة النهوض الجديدة.
أبرز تلك الحقائق، هي اندلاع حركات التحرر الوطني ضد الاستعمار التقليدي، في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، حتى باتت هذه الحركات أهم المعالم السياسية للقرن العشرين. أما الحقيقة الأخرى، فهي تنامي الوعي السياسي، وبروز أحزاب وحركات قومية، طورت من صيغ عملها وتكتيكاتها وبنيانها النظري، وتعاظم السجالات الفكرية حول الهوية والوحدة، والأمة، والحرية والعدل الاجتماعي.
وكانت خلاصة تلك السجالات قد ارتبطت بالاجابة عن سؤال الهوية. إن الانجاز التاريخي، الذي حققه العرب، بانطلاق الإسلام، لا يمس في جوانبه الإيجابية، المسلمين من العرب وحدهم، بل هو إنجاز تاريخي لكل العرب، لأنهم وجدوا أنفسهم أمة واحدة من خلال الانطلاقة التي ارتبطت بالدعوة. ولذلك لا بد من تأكيد التواصل الحضاري في النهضة الجديدة.
ولن يكون بالإمكان تحقيق ذلك، إلا بنقلة تاريخية، تلامس عقل الإنسان العربي وروحه، توضح الرؤية، وتقوي العزيمة... وفي معمعان هذا التحول في العقل والروح، تتحقق الوحدة العربية، القادرة على أجراء تحولات سياسية رئيسية، في البنيان الاجتماعي والسياسي للأمة.
وكما حدث بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، لم تسعف التحولات التي جرت في الوطن العربي، ولا المواقف الاقليمية والدولية حركة القومية العربية، فيما بين الحربين العالميتين، في تحقيق أهدافها. وكانت نقطة الضعف الأولى في الكفاح القومي، قد برزت في تشظى الكفاح ضد الاستعمار، وغياب استراتيجية عملية ناظمة له. فالشعب العربي، الذي واجه العثمانيين، بأرضية واحدة وسقف مشترك، اكتشف أن المستعمرين الجدد، بريطانيين وفرنسيين، حين قسموا غنائم الحرب فيما بينهم، قاموا برسم حدود مصطنعة، بما يخدم أهواءهم ومصالحهم، وأنهم غيبوا في تلك القسمة حقائق الجغرافيا والتاريخ.
وكانت نتيجة ذلك أن غدا التشكيل الجديد، للخريطة السياسية والاقتصادية في الوطن العربي، زائفا ومشوها، لكنه في الوقت ذاته، بات أمرا واقعا، ترك بصماته واضحة على معركة التحرر الوطني، حين امتشق كل قطر على حده، سلاحه، للتخلص من الاستعمار الغربي وبناء دولته المستقلة، وتأمين مستقبل أجياله.
وعندما تمكنت تلك الأقطار من انتزاع الاعتراف باستقلالها، اكتشف الشعب العربي أن طموحاته في التحرر وتحقيق الوحدة وصلت إلى طريق مسدود، ذلك أن الاستعمار الذي كان مندوبه السامي يصدر الفرمانات ويعين الحكام، خرج من الباب ليعود من النافذة في صيغة استعمار جديد، يتحكم في الثروات والمقدرات، ويعيق تقدم الأمة ويحول دون وحدتها، يسنده في ذلك كيان صهيوني غاصب، شكل أسطولا ثابتا لخدمة المصالح الإمبريالية للغرب الاستعماري.
واكتشف أيضا، أن حفنة صغيرة من السماسرة وكبار الملاك، تستحوذ على معظم الناتج القومي للأقطار العربية, وقد حفز هذا الواقع على ولوج مرحلة جديدة، من مراحل الوعي العربي، هي مرحلة التحرر الاجتماعي والسياسي. ولم يكن تحقيق ذلك بالأمر السهل، فقد صاحبه صخب وغليان ومعارك خاضها الشعب العربي دفاعا عن وجوده ومستقبله.
الوحدة العربية ومشاريع التفتيت:
لم يكتف الغرب الاستعماري بتقسيم الوطن العربي، وفقا لمصالحه واستراتيجياته. فبعد التمكن من الجغرافيا، حان دور تدمير التاريخ، بتشويه وإسقاط المخزون الحضاري للأمة. ولم تكن من وسيلة ناجعة لتحقيق ذلك، أكثر من تدمير عناصر الوحدة والتماهي، وبعث الهويات ما قبل التاريخية. ومن هنا كان تصريح الرئيس الأمريكي، هاري ترومان، إثر نهاية الحرب العالمية الثانية، بأن خرائط سايكس- بيكو تجاهلت حقوق المظلومين من أقليات دينية، ومذهبية وإثنية. لكن ظروف ما بعد الحرب الكونية الثانية، واشتعال الحرب الباردة، عطلت مشروع ترومان.
اعتبر الغرب الاستعماري، بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية، سقوط حائط برلين، وتذرر الاتحاد السوفييتي والكتلة الاشتراكية، وانتهاء الحرب الباردة، فرصة لاستعادة مشروع ترومان، في بعث الهويات الطائفية. وكان العراق، البلد الذي يضم مكونات دينية ومذهبية وإثنية، هو البلد المثالي، لاختبار هذه التجربة. وتحقق ذلك عملياً، منذ عام 2003م، حين سقطت بغداد. ولتكون الهجمة موجهة، بشكل مباشر ضد الجغرافيا والتاريخ، من خلال الفساد والنهب ومصادرة الثروات من جهة، ومن جهة أخرى، تدمير صيغة الاندماج بين مكونات المجتمع الواحد، من خلال عملية سياسية تعتمد القسمة بين الطوائف والاثنيات، وطرح مشروع الفيدرالية ليتحول البلد العريق، إلى موطن لكانتونات الطوائف والإثنيات. وليتبع ذلك اندلاع خريف الغضب العربي، متسببا في مصادرة كيانات وتدمير أوطان، ولتبعث هويات التطرف والتكفير. وليعاد لمشروع ترومان، الذي بشّر به قبل أكثر من سبعين عاماً ألقه وحضوره.
وقد عبد غياب الربط والوحدة بين العناصر اللازمة للنهضة، ووضع عنصري الحرية والعدالة الاجتماعية، في مواجهة مع بعضهما، مع أن كليهما لازمان لتحقيق الوحدة، الطريق لبروز مرحلة القبول بالتدخلات الخارجية.
أسفرت نتائج الحرب العالمية الثانية، جملة من الحقائق بالنسبة لأوروبا الغربية، لعل أهمها تراجع الدور الأوروبي، الذي بات سببا في انزياح دور الاستعمار التقليدي عن البلدان العربية. وشمول بلدان أوروبا الغربية، بحماية المظلة العسكرية الأمريكية، وخضوع هذه البلدان، لبرنامج إنعاش اقتصادي، عرف بمشروع مارشال. وقدر وفرت هذه العناصر الأرضية الملائمة لانطلاق مشروع الوحدة الأوربية، بحيث وصلت في النهاية إلى ما هي عليه الآن.
وجد الأوروبيون في تحقيق الاتحاد فيما بينهم، إنقاذا للقارة الأوروبية من حروبها مع ذاتها، ومن احتمالات تحقق انتحار جمعي في حروب ربما تكون أعتى وأقسى من الحربين العالميتين.
وهكذا رأينا أن الوحدة الوحدة الأوروبية، ارتبطت منذ البداية، بالضرورة التاريخية، دون عوامل التاريخ واللغة والثقافة، وكان مشروعها براجماتيا بامتياز، غيبت فيه الشحنات العاطفية. فعوامل المصلحة والمنفعة، هي وحدها الجديرة بالاعتبار، في كل محطات تنفيذ المشروع.
هذه الحقائق مجتمعة كانت السبب في تأخر مسيرة الاتحاد الأوروبي، وإعاقة انطلاقته بالسرعة المأمولة، وتأخير إعلان قيام المواطنة الأوروبية، لما يقترب من النصف قرن، تم تجاوزها في النهاية، بالتصميم والإرادة، ووعي قادة أوروبا وشعوبها، لدور الكتل الإنسانية الكبري في صناعة القوة، بكل تشعباتها.
هذه القضايا مجتمعة أو فرادى، ستكون حاضرة بالتأكيد لدينا، نحن العرب، عند تبنينا أية خطوة جدية، باتجاه تحقيق التكامل الاقتصادي والسياسي العربيين.
ولأن سمة العصر، أنه عصر تكتلات وتحالفات كبرى، وعصر انتصار القوميات أيضاً، فلن يكون مقبولاً أن تكون المراجعة السياسية لأخطائنا، هروباً إلى الخلف. إن المراجعة النقدية، ينبغي أن تشكل خطوة متقدمة إلى الأمام، على طريق تعضيد مشاريع النهضة العربية، وليس التنكر لها.
إن مقاربة المشروعين: الأوروبي والعربي، تشي بأن الأول، كان نتاج صيرورة تاريخية، وجد حاضنة اجتماعية قادرة على النهوض به وتحويله إلى أمر واقع. وكان لنتائج الحرب العالمية الثانية، دور كبير في تعضيده، والارتقاء به من مشروع أمم أوروبية، إلى شراكة في السوق، عبر عنها ب"السوق الأوروبية المشتركة"، ثم إلى مواطنة مشتركة واتحاد أوروبي شمل في مراحله الأولى الجزء الغربي من القارة، لتنضم إليه لاحقاً بعد انتهاء الحرب الباردة بقية دول أوروبا. وقد حلق المشروع الأوروبي بجناحين، هما مشروع مارشال، الذي أسس قاعدة الانطلاق الاقتصادية، وحلف الناتو، الذي تحول إلى مؤسسة دفاع مشتركة. بمعنى آخر، وضعت نتائج الحرب الكونية الثانية، لبنات التأسيس، لانطلاق مشروع الوحدة الأوروبية، بينما وقفت نتائج الحربين الكونيتين، الأولى والثانية، بالضد من الحلم العربي في الحرية والانعتاق، وتحقيق الوحدة.
لم تسعف السياسات الدولية والتحولات التاريخية، مشروع الوحدة العربية، بل على النقيض من ذلك، جاءت الهجمة الإمبريالية، والهجرة الصهيونية، وضعف مقاومة الهياكل الاجتماعية العربية، لتصبح عناصر طاردة لهذا المشروع. في حين كانت تلك التحولات والسياسات التي ارتبطت بها، عناصر جاذبة لوحدة أوروبا.
يضاف إلى ذلك أن اليقظة العربية الأولى، بما هي مشروع للنهوض، جاءت بعد انقطاع طويل لحضور الأمة، إثر اجتياح التتار والمغول العاصمة العباسية بغداد ولمراكز الإشعاع العربية. وكان المؤمل أن تتجه مسيرة التنوير بالعصر الحديث، في خط بياني صاعد، حتى تتمكن من إحداث نقلات نوعية في الفكر والثقافة، إلا أنها لم يقدر لها مواصلة سيرها، ووئدت وهي لما تزل في المهد. فكانت النتيجة فشل مشروع النهضة، قبل أن يتمكن من تحقيق أهدافه. وقد أفصح هذا الفشل عن ذاته، في جملة من التراجعات، لعل أبرزها، سقوط تجربة محمد علي باشا، وفشل ثورة عرابي، وتوقيع معاهدة، 1936 مع الاستعمار البريطاني، في مصر، وعجز القيادات الوطنية عن التصدي للهجرة اليهودية إلى فلسطين، منذ مطالع العشرينات من القرن المنصرم، مما رصف الطريق لإقامة الكيان الصهيوني، وتوقيع معاهدة بارتسموث، في العراق، وأيضا النظرة المزدرية للجماهير المعبر عنها ب "أن العرب هم مجموعة من الأصفار".
هذه القراءة، لا تهدف إلى التقليل من حجم التضحيات والنضال العربي، من أجل تحقيق الأهداف الكبرى للأمة، بل هي دعوة لقراءة الأسباب التي عطلت من تحقيق هذه الأهداف، وتأشير نقاط الضعف في مشاريعنا القومية.
لقد كانت الحرب الباردة، بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة فرصة سانحة للأمة العربية، كان ينبغي أن يقتنصها الفكر القومي، لانجاز أهدافه، خاصة وأنها ارتبطت بنهوض عربي شعبي عارم، منذ مطالع الخمسينيات حتى نكسة الخامس من حزيران/ يونيو 1967م. وخلالها أنجزت الحركة القومية بعض من أهدافها، لكن فرصا كبيرة أهدرت. وعلينا أن نقرأ تلك المرحلة بروح نقدية، وتصميم على تجاوز تركة الأخطاء الثقيلة لتلك الحقبة.
خاتمة:
نحن الآن على أعتاب مرحلة تاريخية جديدة، بعد سقوط الأحادية القطبية، وهزيمة الإرهاب، وانتصار الجيش العربي السوري، وصولا إلى استعادة الدولة إلى بسط سيطرتها على جميع أراضي الجمهورية العربية السورية، وصمود المقاومة في لبنان وفلسطين. مرحلة الانتقال التي يمر بها العالم، سيكون من نائجها انبثاق نظام دولي جديد، وينبغي أن تكون هذه التطورات مناسبة لنا، لنعيد قراءة تجاربنا بروح نقدية عالية، ولنصيغ أفكارنا واستراتيجياتنا، على ضوء حقائق القوة الجديدة، بحيث لا تضيع مجددا الفرص المتاحة أمامنا.
لقد بات واضحا، أن العالم، يتجه نحو عالم متعدد الأقطاب، لعل أبرز مؤشراته، الصعود الكاسح لاقتصاد الصين، وعودة روسيا بوتين بقوة إلى لعب أدوار رئيسية بالمسرح الدولي، وبروز تكتلات سياسية واقتصادية جديدة، كلبركس ومجموعة شنهغاي. ولا شك أن هذا الدور، إذا ما تواصل بقوة سوف يخلق حقائق جديدة.
فلن يكون في مصلحة أي من القوى الدولية، في عالم متعدد الأقطاب، استمرار مشاريع التفكيك. فكل قوة كبرى، ستعيد ترتيب أوراقها على قاعدة وجود وكلاء أقوياء لها في المنطقة. بمعنى أدق، بات مشروع صياغة سايكس بيكو جديدة، تتماهى مع الأوضاع العربية المزرية من الماضي.
عودة التعددية القطبية، تعني عودة الروح للمبادئ الناظمة للعلاقات الدولية، والقائمة على احترام سياسة الدول، وعدم التدخل في شؤونها الداخلية.
إن شمسا جديدة تشرق على العالم، ستبرز دول قوية إلى الواجهة، وتبهت أدوار دول أخرى، وستنشأ مؤسسات وهيئات أممية جديدة، بديلة عن المؤسسات والهيئات التي سادت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، اتساقا مع حقائق القوة الجديدة، لكن وطننا العربي، سيظل دائما بحكم حقائق الجغرافيا والتاريخ، التي أشرنا لها في صدر هذه المقالة، في القلب من الأحداث وعلينا نحن القوميين، المؤمنين بقدر أمتهم، وحقها في الوحدة، أن نكون جميعا متهيئين، للمرحلة القادمة، باعتبارنا مناضلين وصانعي تاريخ.
إن النضال من أجل تحقيق الوحدة العربية، في هذه اللحطة التاريخية، تعني الكفاح من أجل فلسطين، والتصدي لصفقة القرن وقانون الدولة القومية، والتأكيد على مركزية القضية الفلسطينية، واستعادة الدولة السورية لدورها القومي المركزي في النضال القومي، جميعها مؤشرات إيجابية، على أن الأمة باقية رغم كل التحديات، لكن النضال من أجل تحقيق أهداف الأمة الكبرى، وضمنها عناصر المشروع النهضوي العربي، ليس فرض كفاية، ولن يغفر لنا التاريخ والمستقبل تقاعسنا، وإضاعة الفرص التاريخية الجديدة. وشروط تحقيق ذلك هي امتلاكنا للوعي والقدرة والإرادة...
|