المؤتمر القومي العربي
ARAB NATIONAL CONFERENCE
التوزيع: محدود
الرقم: م ق ع 30/وثائق 7
التاريخ: 5/7/2019
ــــــــــــ
المؤتمر الثلاثون
5 - 6 تموز/يوليو 2019
بيروت - لبنان
التقرير السياسي والاقتصادي: حال الأمة وتقدير موقف*
"نحن نتقدّم وهم يتراجعون"**
د. زياد حافظ*
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* الأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي.
** ورقة قدّمت لاجتماع الدورة الثلاثين للمؤتمر القومي العربي في بيروت في 6 و7 تموز/يوليو 2019
*** لا تعبر هذه الورقة بالضرورة عن رأي الأمانة العامة للمؤتمر القومي العربي.
مقدمة
هذه الورقة استكمال للأوراق السابقة التي قُدّمت للأمانة العامة والاجتماعات العامة للمؤتمر القومي العربي. سياق التحليل الاستراتيجي لم يتغيّر بل العكس تأتي الأحداث لتثبيت تقدير الموقف والتحليل الذي رافقه على مستوى التحوّلات والتطوّرات الدولية أو الإقليمية أو العربية. لذلك لن تكون هذه الورقة خارج السياق الذي أوردتها الأوراق السابقة بل استمرارا للتذكير بالمعادلات الأساسية حول صعود محور وتراجع محور آخر.
إذا أردنا أن نلخّص المستجدّات على الصعيد الدولي وانعكاساتها على الصعيد الإقليمي والعربي في جملة واحدة نقول إن المشهد السياسي على الصعيد الدولي والإقليمي والعربي متشابه. فمن جهة نشهد إجراءات تكتيكية هجومية عدوانية لمحور يتراجع استراتيجيا وهو محور تقوده الولايات المتحدة من جهة وإجراءات تكتيكية دفاعية لمحور يتقدّم استراتيجيا تقوده كل من مجموعة الكتلة الاوراسية ومحور المقاومة. ومحور المقاومة الذي يضم كل من سورية والمقاومة العراق إلى حدّم ما والجمهورية الإسلامية في إيران أصبح وازنا على الصعيد الجغرافي السياسي الاستراتيجي ليصبح ضلعا أساسيا في المحور المناهض للهيمنة الأميركية. فمحور المقاومة تجاوز حدود القضية التي من أجلها تشكّل ليصبح لاعبا أساسية في المعادلات الاستراتيجية الدولية والإقليمية والعربية. غير أن الحرب النفسية التي يشنّها المحور المتراجع استراتيجيا يريد أن يغطّي مدى تراجعه عبر التأثير بالوعي العالمي بشكل عام والعربي بشكل خاص. فالمطلوب الايحاء بمظهر القوّة الجبّارة عند المحور المتراجع بينما في آخر المطاف ليست إجراءاته إلاّ معارك خلفية لم ولن تغيّر في المعادلات الاستراتيجية التي رسمتها ساحات الميدان المشتعلة في سورية واليمن وفلسطين والعراق وسياسات واعية ومدروسة للمحور المتقدّم على صعيد الكتلة الاوراسية ومحور المقاومة. المعارك الخلفية قد تؤّخّر بعض الحلول ولكن لن تلغيها مثلا كقضية إيجاد نظام مالي دولي مستقل عن الدولار أو مثلا إعادة إعمار سورية والعراق واليمن وليبيا، وقبل كل شيء آخر تكريس الحق الفلسطيني بفلسطين من البحر إلى النهر.
فلا يجب أن نخجل أو نقلّل من الإنجازات التي تتحقّق ميدانيا وسياسيا تحت ذريعة "الموضوعية" أو "عدم المبالغة". فقراءتنا للمعادلة واضحة: محور المقاومة يتقدّم بينما خصومه يتراجعون بل يتقهقرون. فالأدلّة المادية والمعنوية واضحة شرحناها سابقا ونعيد تذكيرها عندما نرى ذلك مناسبا. فهناك فارق كبير بين الموضوعية وجلد الذات الذي يتلذّذ به من يعتقد أنه يرتدي ثوب "الموضوعية". كما أن الموضوعية ليست حيادا. فالحياد موقف والموضوعية منهج تقدير لن نحيد عنه وإن كنّا نجاهر بالموقف القومي والوطني والتحرّري.
هذا هو منطلق المقاربة التي نقدّمها على قاعدة أننا ننتقل من ثقافة الهزيمة إلى ثقافة الثقة بالنفس للوصول إلى النصر المرتقب وفقا لموازين القوّة التي صنعها أعضاء محور المقاومة التي نعتبر أنفسنا جزءا منه، وذلك دون أن نكون تابعين لأي مكوّن منه حرصا على ثوابتنا واستقلاليتنا التي صمدت رغم كل المصاعب التي واجهها المؤتمر منذ نشأته وهو اليوم على مشارف العقد الرابع من عمره. فالمؤتمر أصبح تدريجيا مرجعا سياسيا وفكريا للحركة التحرّرية القومية العربية ولم يعد من الممكن التقليل به رغم ضحالة إمكانياته المادية والحصار المطبق عليه.
الجزء الأول-المشهد الدولي
في هذا الجزء سنقارب التطوّرات التي حصلت أو قيد الإنجاز على الصعيد الأميركي والاوروبي وخاصة في محور الكتلة الاوراسية التي أصبحت تشكّل "محورا" يحلّ مكان المقاربة القطبية التي سادت في القرن الماضي ومطلع الألفية الجديدة. فالعالم لم يعد خاضعا لصراع بين أقطاب بل بين محورين. فالمكوّنات لكل محور لا تشكّل قطبا كما كان في القرن الماضي بل أصبحت تستمد قوّتها من قدراتها الذاتية ومن التحالفات بينها. فالقدرات الذاتية غير كافية للاستفراد رغم ضخامة الأرقام التي تعبّر عن الاحجام المادية بل تحتاج إلى تحالفات مع قوى تحترم القوى الأخرى، وتجيد تقدير موازين القوة في المرحلة الراهنة، ولديها القدرة على استشراف المستقبل. ناهيك أن فلسفة المحور الصاعد لا تقوم على قاعدة اللعبة الصفرية أي أن تقدّمه يعني تراجعا لخصمه أو لأي طرف يتعامل معه. بل العكس، هذه الفلسفة مبنية على قاعدة التعاون وضرورة أن تكون جميع الأطراف المشاركة في التعامل والتفاعل في موقع الربح وليس الخسارة. أما النموذج الغربي فلا يستطيع أن يخرج عن قاعدة اللعبة الصفرية وبالتالي كانت سياسات الاستعمار المباشر ومن بعد ذلك الهيمنة على مقدّرات العالم عندما كانت موازين القوّة لصالح الغرب.
في سياق التنافس بين محور صاعد ومحور متراجع هل هناك من إمكانية للوصول إلى "تفاهم" أو إلى "صفقة" سياسية تنهي التوتّر القائم في العديد من المناطق وبين المكوّنات الرئيسية للمحور الصاعد وبين الغرب بشكل عام والولايات المتحدة بشكل خاص؟ الإجابة تفرض التوافق على مفهوم "التفاهم" أو "الصفقة" كما حصل عند نهاية الحرب العالمية الثانية بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة والمملكة المتحدة في مؤتمر يالطا والذي شكّل إطار النظام الدولي. لكن الأمور تغيّرت جذريا خلال السبعة العقود الماضية حيث موازين القوّة تغيّرت بشكل درامي. ففي تقديرنا "التفاهم" لن يكون مضمونه غير "إدارة الصراع" لتجنّب كارثة حرب عالمية نووية تطيح بالمعمورة أجمع. فالمحور الصاعد لا يرى أي ضرورة للتنازل عن مكاسب حقّقها رغم العقبات التي أوجدتها الولايات المتحدة في مواجهة كل من روسيا والصين خاصة أنها تعلم أن صعودها استراتيجي بينما الغرب في حالة أفول بشكل عام والولايات المتحدة بشكل خاص. فالمسألة بالنسبة لروسيا والصين هو كسب الوقت لتأخذ الأمور مجراها الطبيعي في تراجع وأفول الغرب دون صراع عسكري. بالمقابل، حالة الإنكار المسيطرة على النخب الحاكمة في الغرب وفي الولايات المتحدة على ألأخصّ لحالة التراجع أو الأفول تجعل تلك القيادة متمسّكة بالوضع القائم ولن تقرّ بتراجعها وبالتالي عما تعتبرها مهمتّها "التمدينية" أو "مسؤولية الرجل الأبيض" أو "الاستثنائية" التي تذرّعت بها لحكم العالم واستعباد الشعوب. لذلك لا نرى أي موجب للوصول إلى تفاهم أسوة بما حصل في يالطا بل فقط لإدارة الصراع وتخفيف التوتر، هذا إذا أمكن. فهناك شكوك كبيرة أن حزب الحرب الذي ما زال حاكما في الغرب والذي سيدافع بشراسة ووحشية عن ذلك الوهم سيدفع يالتالي نحو مواجهة شاملة اعتقادا بأنه سينتصر وإن كانت الكلفة البشرية قد تكون باهظة عليه وعلى المعمورة.
مع الأخذ بعين الاعتبار الملاحظة السابقة فإن ما سنعرضه عن المستجدّات في المشهد الأميركي والأوروبي يؤكّد حالة التخبط والارتباك وينذر بالانهيار الذي نعتقد أنه لا مفرّ منه طالما النخب الحاكمة بالمستوى التي هي عليه وغير قادرة على قراءة التطوّرات والتحوّلات في موازين القوّة. أما على صعيد محور دول الكتلة الاوراسية فالمستجدّات التي سنعرضها تؤكّد على تماسك المحور وتقدّمه في كافة المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية.
أولا-المشهد الأميركي
ملاحظات تمهيدية. المستجدّات التي سنقاربها هي في المشهد الداخلي وفي المشهد الخارجي للولايات المتحدة مع التأكيد أن كل سياسة خارجية أميركية هي انعكاس لواقع داخلي وليس لرؤية استراتيجية متجاوزة الظروف السياسية. فالبعض يعتقد أن السياسة الخارجية هي صنيعة مجموعة من المؤسسات التي هي بمنأى عن التحوّلات الداخلية ما يؤمّن انسجام وتناسق في المواقف السياسية والخطوات المتخذة لتطبيقها. أطروحتنا هي أن المؤسسات الحاكمة وصلت إلى حال من الترهّل تعكس عدم فهمها واستيعابها للتحوّلات التي سبّبتها منذ أكثر من أربعة عقود. فهناك عدّة قرارات مفصلية اتخذتها الولايات المتحدة منذ مطلع السبعينات على الصعيد الاقتصادي أدّت إلى إيجاد نموذج اقتصادي سياسي ينسف قاعد استقرار وتفوّق الأميركي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وذلك رغم الصراع مع الاتحاد السوفيتي والمعسكر الشيوعي بشكل عام.
1- التمركز. بشكل مختصر ما حصل هو سلسلة قرارات وإجراءات على الصعيد الاقتصادي أدّت إلى فساد النظام السياسي المبني دستوريا على فصل السلطات وعلى فساد المؤسسات السياسية التي كانت تتداول السلطة على مدى قرنين من الزمن. هذه القرارات الاقتصادية أدّت إلى تمركز المال والاعلام في يد القّلة التي لا يتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة لكل منهما. فالمؤسسات المالية التي تملك ما يوازي 75 بالمائة من الأصول المالية هي خمسة (غولدمان ساكس، مجموعة ج.ب. مورغان-شيز، بنك او اميركا، مجموعة سيتي غروب، ولز فارغو، بانك كورب). وهذه المؤسسات تملكها أربع مؤسسات (فانغرد غروب، ستيت ستريت كوربوريشن، بلاك روك، أف-ام-ار) تسيطر بشكل غير مباشر على النظام المالي والنقدي في الولايات المتحدة. من جهة أخرى هناك تمركز للإعلام. ففي سنة 1984 أكثر من خمسين مؤسسة كانت تملك حوالي تسعين بالمائة من الاعلام الأميركي. أما في عام 2019 فعدد المؤسسات التي تملك حوالي 90 بالمائة من الاعلام، أي ألوف الصحف والمجلاّت، ومحطّات الراديو والتلفزيون وحتى استديوهات السينما فهي لا تتجاوز عدد الأصابع كجنرال الكتريك، سي. بي.أس، فياكوم، ديزني، نيوزكورب، تايم وارنر (هناك احتمال دمج بعض المؤسسات ليصبح العدد خمسة). وهذه المؤسسات من ملكية 15 ملياردير أميركي فقط لا غير! وحوالي 232 مسؤول تنفيذي ينقلون المعلومات لحوالي 280 مليون مواطن أميركي، ومعظم المسؤولين من الجالية اليهودية. أضف أيضا وسائل التواصل الاجتماعي التي تسيطر عليها شركتان أو ثلاث (فيسبوك، غوغل، بي أن). فشركة فيسبوك تملك واتساب، تويتر، انستغرام، سنابشوت، ألخ. أي بمعنى آخر تستطيع هذه الشركات أن تقفل حسابات المشتركين بخدماتها متى شاءت دون أي مراجعة. هذا يعني أن الرأي العام الأميركي أصبح أسيرا وخاضعا لمزاجية ومصالح الشركات التي تملك وسائل الاعلام ووسائل التواصل. كل ذلك حصل بسبب تفكيك القيود الناظمة والتي بدأت مع إدارة رونالد ريغان واستمرت مع بيل كلنتون، وجورج بوش الأب والآبن، وبارك اوباما، ودونالد ترامب).
2- الفساد. التمركز المالي والإعلامي تلازم مع إفساد النظام السياسي القائم. فأي مسؤول منتخب مدين بوجوده في الموقع الذي يصل إليه إلى المال السياسي الذي يمنحه له أصحاب المصالح الخاصة. فعبر المال هناك سيطرة على الاعلام وبالتالي إفساد إمكانية تكوين رأي عام عالم ومستقل. ما زاد الطين بلّة هو قرار المحكمة الدستورية العليا عام 2010 بتشريع الانفاق المالي في الحملات الانتخابية دون تحديد سقف لذلك على قاعدة أن الانفاق في الاعلام هو وسيلة من وسائل التعبير والدستور يصون حرّية التعبير. إذن أصبح المتموّلون يتحكمون في العملية الانتخابية ما أدّي إلى انهيار نوعية المقبلين على العمل العام في مختلف المستويات، أي على مستوى المدينة، فالمقاطعة، فالولاية، فالبلاد. فالرداءة هي الصفة المطلوبة عند المقبلين على العمل السياسي! أذن النموذج الاقتصادي أدّى إلى إفساد النظام السياسي. والنموذج الاقتصادي على قاعدة النيوليبرالية هو نتيجة لقرار سياسي يعتمد عقيدة الحرّية المطلقة للفرد وتقييد دور الدولة في تنظيم وتأطير النشاط الاقتصادي. بدأ ذلك مع الرئيس ريغان واتبعه جميع الرؤساء من بعده. أما في حقبة السبعينات فكان قرار إعادة توطين القاعدة الإنتاجية الصناعية التي كانت ركيزة عظمة وتفوّق الولايات المتحدة مع الانفتاح على الصين مع الرئيس نيكسون ومن بعده كارتر. فالولايات المتحدة انتقلت من الحالة الصناعية إلى حالة ما بعد الصناعة، أي في إطار الخدمات، وفيما بعد خاصة في الخدمات المالية التي تنتج ثروة افتراضية بدون مجهود. فأصبحت البنية السياسية تخدم تلك الرؤية التي تلازمت مع قرار استعمال هيمنة الدولار في العالم للسيطرة سياسيا واقتصاديا على العالم. من هنا نفهم مغزى قطع علاقة الدولار بالذهب عام 1971 والذي تلاه تشجيع أميركي للدول المنتجة للنفط لرفع أسعار البترول ولتأميم الإنتاج النفطي طالما الشركات النفطية الأميركية تسيطر على التكرير والتسويق حيث القيمة المضافة المرتفعة. فارتفاع أسعار البترول أدّى إلى زيادة في الطلب على الدولار بسبب تسعير برميل النفط بالدولار. فأصبحت الولايات المتحدة تطبع الدولار بدون قيد ولا شرط (لم يكن ذلك ممكنا إذا ما استمرّ الربط بالذهب) وذلك لتمويل سياساتها الخارجية.
3- التحوّلات الديمغرافية. العامل الآخر الذي أدّى إلى إفساد النظام السياسي هو التحوّلات الديمغرافية التي حصلت والتي لا يستطيع النظام السياسي القائم التكيّف معها حتى الساعة. فمنذ عقود تبيّن أن الولايات المتحدة تشيخ وهي بحاجة إلى الحفاظ على معدّل نمو طبيعي يضمن احتفاظها بحضارتها. هذا المعدّل هو 1،8 بالمائة سنويا بينما معدّل النمو السكّاني القائم في الولايات المتحدة هو 0،7 بالمائة سنويا. لذلك يصبح سدّ العجز عبر الهجرة الوافدة إلى الولايات المتحدة ضرورة حيوية للبقاء. لكن بالمقابل، في أوقات الضيق والشّدة الاقتصادية تصبح الهجرة عبئا على المجتمع الأميركي خاصة في الاستفادة من الخدمات العينية التي تقدّمها الدولة للمواطنين والوافدين كالضمان الاجتماعي. من جهة أخرى، أدّت الهجرة الوافدة إلى خلل في التركيبة الاجتماعية حيث الأكثرية البيضاء الانكلوبروتستنتية على وشك أن تخسر تلك الأكثرية. هذا أدّى إلى المزيد من العنصرية وترويج سياسة الثقافات الفرعية التي تهدّد تماسك المجتمع الأميركي. هذا بحث منفصل ولكن ما يهمّنا هنا هو أن الرئيس الأميركي ترامب وصل إلى البيت الأبيض استنادا على الشعبوية المتنامية ليصبح "ممثلا للبيض" بينما الحزب الديمقراطي ورموزه أصبح ممثلا للعرقيات والأقلّيات عبر ما سمّاه القسّ جيسّي جاكسون تحالف قوس القزح. هذه هي الخلفية التي تُفسّر التطوّرات بخطوطها العريضة للمشهد الأميركي الداخلي.
المستجدّات السياسية والاجتماعية. أما فيما يتعلّق بالمستجدّات فما أوردناه في تقريرنا لاجتماع الأمانة العامة في شهر شباط/فبراير 2019 ما زال قائما مع الإضافات التالية:
1- صدور تقرير المحقّق الخاص روبرت مولر حول علاقة ما بين الرئيس الأميركي وروسيا في تدخّل الأخيرة في العملية الانتخابية عام 2016 أضحت إلى عدم وجود أيّة أدلّة ما أفسد رهان النخب الديمقراطية، أي الشيوخ والنوّاب وخاصة الإعلام الشركاتي المهيمن على إمكانية أسقاط الرئيس بتهمة التواطؤ مع دولة أجنبية ومحاكمته بالخيانة العظمى. فما زالت تلك النخب في حالة انكار لهزيمتها السياسية والآن في القضائية/التحقيقية! فهي تبحث عن إمكانية المباشرة بمحاكمة الرئيس عبر القيام بتحقيق في مجلس النوّاب يخلص إلى اتهامه فإدانته. لكن هناك صراعا بين قيادات الحزب الديمقراطي والقاعدة المنتخبة وغير المنتخبة حول جدوى تلك المغامرة السياسية التي قد تطيح بفرص الفوز بالانتخابات الرئاسية عام 2020. فمجلس الشيوخ تتحكّم به أكثرية من حزب الجمهوري الذي لن يصدّق على أي قرار يصدر عن مجلس النوّب في موضوع محاكمة الرئيس.
2- بدأت الحملة الانتخابية الرئاسية مبكرة في هذه الدورة. وعدد المرشّحين للرئاسة وصل إلى عشرين عند إعداد هذا التقرير (أوائل شهر حزيران/يونيو). ومن المرشّحين البارزين نائب الرئيس السابق جوزيف بايدن الذي يتمتّع بشعبية عند النخب الحاكمة في الحزب ولكن دون أن يحظى بتأييد الشباب. فسن نائب الرئيس عائق كبير أمام القاعدة الشبابية. المرشّح الآخر المعروف هو برني سندرز الذي يحظى برنامجه السياسي على عطف القاعدة دون أن يحظى شخصيا بثقة تلك القاعدة بسبب عدم مواجهة قيادة الحزب الديمقراطي الذي سلب منه التسمية في انتخابات 2016 وذلك لصالح هيلاري كلنتون. كذلك الأمر بالنسبة للمرشّحة من مجلس الشيوخ اليزابت وارن التي يحظى برنامجها السياسي على تجاوب من القاعدة الديمقراطية ولكن لا تحظى هي بثقة تلك القاعدة بسبب تقلّبها في مواقف عديدة. أما المرشّحة تلسي غابرد، وهي عضو في مجلس النوّاب، فهي شابة (37 عام) وخدمت في القوّات المسلّحة لمدة 15 سنة وما زالت في رتبة رائد في الاحتياط. هي جريئة في قراراتها فزارت سورية عام 2017 والتقت بالرئيس الأسد ما سبّب لها عداء كل الطبقة السياسية الأميركية وبطبيعة الحال اللوبي الصهيوني. ما زالت تدافع عن قرارها وضرورة انهاء تورّط الولايات المتحدة في الحرب على سورية ما يجعل حظوظها في دعم ضئيلة أن لم تكن شبه معدومة. أما سائر المرشّحين فهم حتى الآن غير معروفين على صعيد البلاد وحظوظهم محدودة إن لم تكن معدومة. لم يبرز (وربما لن يبرز حتى بداية الحملة الرسمية البدائية في شهر شباط/فبراير 2020) مرشّح يستطيع هزيمة ترامب الذي على ما يبدو، ووفقا للمعطيات الحالية فإنه سيفوز في ولاية ثانية رغم كل استطلاعات الرأي العام التي تقول إن “شعبيته" في انحدار. فما زالت القاعدة الصلبة متماسكة وخاصة من الانجيليين الجدد الذين يشكّلون حوالي 25 بالمائة من الناخبين. كما أنه لم يبرز حتى الآن ما يمكن أي يؤدّي إلى تصدّع في تلك القاعدة.
3- تتجذّر حركات التفكّك الاجتماعي في الولايات المتحدة. فعدد المؤسسات والجمعيات الخاصة التي تدعو إلى التطرّف والغلو في مواقفها العقائدية جعلتها تُصنّف بمجموعات الكراهية. فخلال أربع سنوات (2014-2018) ارتفع عدد تلك الجمعيات إلى 1020 بينما كانت 784 فقط عام 2014. وهذه المجموعات تضم مروحة واسعة من عنصريين بيض، إلى عنصريين سود، إلى عنصريين صهاينة، إلى تشكيلات نازية ونيونازية، إلى مجموعات متطرّفة من اليسار والتي أصبحت تعمّ العديد من الجامعات الكبرى، إضافة إلى مجموعات مناهضة للعرب والمسلمين والمكسيكيين واللاتينو بشكل عام والمثليين. لكن ما لاحظه مركز "أس. بي. ال. سي انتليجنس بروجيكت" (الأحرف الأولى للمركز القانوني للفقر الجنوبي) الذي رصد تلك المجموعات أن حوادث مدينة شارلوتفيل التي شهدت مواجهة بين العنصريين البيض واليسار أدّت إلى ارتفاع عدد المجموعات العنصرية البيضاء التي تخشى (وهي محقّة بذلك) بأن الأكثرية البيضاء لن تكون أكثرية بعد فترة وجيزة من الزمن. لذلك يمكن الاستنتاج أن تلك المجموعات لا تنذر باندلاع حرب أهلية فحسب بل أن احتمالها يرتفع مع المزيد من الإخفاقات الاقتصادية، وتراجع الخدمات الاجتماعية، والفساد في القضاء، والشلل في المؤسسات الدستورية في معالجة قضايا المجتمع الأميركي. من هنا نفهم شراسة الإدارة الأميركية في محاولاتها لقبح الهجرة الوافدة من أميركا اللاتينية بشكل خاص إضافة إلى التشديد على هجرة المسلمين إليها. والاعلام الأميركي المناهض لكل ما تطرحه الإدارة الأميركية (باستثناء الكلام التحريضي على الحرب في منطقتنا خدمة للكيان الصهيوني) مليء بالكلام عن "وحشية" التعامل مع المهاجرين الوافدين إلى الولايات المتحدة. كما أنها تندّد بمحاولة بناء جدار فاصل على طول الحدود الأميركية المكسيكية.
لا بد من ذكر هنا مؤشر هام للتفكّك الاجتماعي ما جاء في الإحصاء السكّاني الذي يحصل كل عشر سنوات. فعلى مدى احصاءين متتاليين (2000 و2010) تبيّن أن عدد الأسر التي يوجد فيها أطفال تفتقد إلى وجود أحد الأبوين وذلك في أكثر من 50 بالمائة من الوحدات العائلية السكّانية. أي بمعنى آخر نصف العائلات تفتقد إلى أحد الأبوين، وفي غالب الأحوال إلى الأب. هذا دليل قاطع على تفكّك الوحدة الأساسية في المجتمع الأميركي، أي الأسرة.
4- ارتفاع كشف حالات الفساد في سلوك السياسيين وفي سلوك الشركات بحق موظفيها كشركة امازون، مثلا. أضف إلى ذلك الممارسات الاحتكارية (والاحتقارية!) لشركات التواصل الاجتماعي التي تجمع المعلومات الشخصية عن المواطنين الذي يستعملون تلك الوسائل وبيعها لشركات تسويق أو حتى لتسليمها للمؤسسات الأمنية. فخصوصية الفرد أصبحت في خبر كان كما أوضحه الباحث توم انجلهاردت في مؤلفه الذي صدر عام 2014 "حكومة الظلّ، التنصّت، الحروب السرّية، والدولة الأمنية في دولة عُظمى".
5- امّا الفساد الأخطر هو الفساد الذي يضرب مصداقية النظام القضائي حيث يتمّ تسمية القضاة ليس على قاعدة كفاءتهم ونزاهتهم بل على قاعدة الانتماء السياسي والعقائدي. فالقاضي في المحكمة الدستورية العليا يساهم في صوغ أحكام تصبح بمثابة قانون يصعب نقضه. هذا يساهم في تغيير قوانين اجتماعية وفقا لأجندات السياسية تنذر باضطرابات اجتماعية قد تتفاقم نحو اندلاع حروب أهلية. من مؤشرات ذلك الفساد قرار المحكمة الدستورية العليا عام 2010 بحماية الانفاق الانتخابي كشكل من "حرّية التعبير" مما جعل العملية الانتخابية محكومة بالمال. فمن يملك المال أو يستطيع الحصول عليه يصل إلى سدّة المسؤولية السياسية في الرئاسة، والكونغرس، والقضاء، والحاكمية في الولايات، والعمدة في المدن إلخ. وقد صرّح رئيس الأكثرية للحزب الجمهوري في مجلس الشيوخ ميتش مك كونيل أنه سيسعى في السنة الأخيرة لولايات ترامب حشد أكبر عدد ممكن من القضاة الموالين للأجندات المحافظة. في السنة الأخيرة لولاية الرئيس أوباما رفض مك كونيل تمرير تسمية قاضي في المحكمة الدستورية زاعما أنه لا يجوز للرئيس في السنة الأخيرة من الولاية تمرير تلك تسميات بل يجب أن تكون من مسؤولية الرئيس الجديد! ويمكن تعداد حالات الفساد السياسي إلى ما لا نهاية لكن ضيق المساحة المتاحة في التقرير لا تسمح بذلك.
6- هناك ظاهرة متنامية على الصعيد السياسي الداخلي في الولايات المتحدة وهي المحاولات الحثيثة للحدّ من الحرّيات العامة وخاصة فيما يتعلّق بحرّية التعبير. فملاحقة جوليان اسانج وشلسي مانينع وادوار سنودن بسبب تسريب أسرار المؤسسات الأمنية التي تتجسّس على الجميع بما فيهم المواطنين الأميركيين وبشكل مخالف للقانون والدستور، والتسريبات التي فضحت سلوك المرشّحة الرئاسية هيلاري كلنتون وفساد مؤسسة كلنتون من مظاهر تقييد حرّية التعبير خاصة وأن الإعلام أصبح بيد عدد ضئيل من الشركات التي لا تريد أن يعلم الجمهور الأميركي عن أي شيء تقوم به مخالفة للقانون. ولا بد أيضا الإشارة إلى ممارسات شركات التواصل الاجتماعي من انتقائية في أقصاء عدد كبير من المستعملين بحجة أن "خطابهم" غير مقبول دون تحديد معايير ما هو مقبول. فشركة فيسبوك تستطيع أن تحجب من تريد وهي تعمل مع المؤسسات الأمنية التي أصبحت تمارس مهام البوليس السياسي أضافة لمهامها القانونية والدستورية. الحد من حرّية التعبير يأتي بعد فشل ترويج السرديات الرسمية للنخب الحاكمة وظهور سرديات مناقضة لها. والحالة الاحتكارية لهذه الوسائل أصبحت سلاحا بيد النخب الحاكمة. لكن بالمقابل هناك مقاومة فعلية لذلك لكن ليس من الأكيد من أنهل ستُحسم لمصلحة الحرّيات التي يضمنها الدستور الأميركي. فكما تمّت الإشارة أعلاه، إن تحشيد القضاة المنتمين إلى عقائد سياسية محافظة مهمتها الحد من حرّية التعبير إلاّ إذا كان التعبير لمصلحة النخب الحاكمة!
المستجدّات الاقتصادية. بشكل مختصر، المضاربات الجنونية في المشتقّات المالية والسياسات الاقتصادية الخاطئة تنذر بانهيار قاتل للاقتصاد الأميركي مع ارتدادات واسعة على العالم أجمع بسبب ارتباط النظم المالية الدولية بالنظام المالي الأميركي.
1- الأداء الاقتصادي. فيما يتعلّق بالمستجدّات الاقتصادية فما زال ترامب يعتبر الاداء الاقتصادي جيّدا على الصعيد العام. والأرقام التي يستند إليها تؤيّده بذلك وإن كان يشكّك بمصداقيتها خلال حملته الانتخابية. وهناك دراسات معمّقة تفيد بأن الحالة الاقتصادية ليست على ما يرام من حيث النمو الفعلي ومن حيث زيادة المداخيل الفردية وحتى في معدّلات التوظيف المنشورة التي تفيد أن معدّل البطالة لا يتجاوز 4 بالمائة. الحقيقة المرّة هي وجود تلاعب في طريقة قياس أرقام البطالة لصالح إظهار صورة وردية بينما الحقيقة تضع معدّل البطالة حوالي 17-19 بالمائة كما كان يدّعي ترامب خلال حملته الانتخابية. وتشير دراسة صادرة عن معهد بروكنز أن البطالة متفشّية بين الأقليّات العرقية وخاصة السود ما يزيد من التوتر الاجتماعي وبالنسب التي تكلّم عنها ترامب. والفجوة الاقتصادية بين القلّة والأكثرية ما زالت تتفاقم رغم كل شيء ما ينذر بأن أزمة اقتصادية أضافة إلى الأزمة المالية مقبلة مع تداعيات اجتماعية لا يستطيع أحدّ التنبؤ بنتائجها. وإذا أضفنا الأزمة الاجتماعية وصراع الأعراق فإن عناصر الانفجار الداخلي موجودة تنتظر اللحظة المناسبة والقيادة التي ستفجّرها. هذه هي خلفية اللوحة الاقتصادية في الولايات المتحدة لكن الاعلام والنخب لا تريد التحدّث عنها، فحالة الانكار سيّدة الموقف. غير أن الأسواق المالية ما زالت تتقدم وذلك بسبب الإعفاءات الضريبية التي منحها ترامب والكونغرس السابق والضخ المالي من قبل مصرف الاحتياط الاتحادي (أي المصرف المركزي). لكن بدت بعض مؤشرات التراجع الاقتصادي والتذبذب الكبير في الأسواق المالية قد تنذر بتدهور الأوضاع مما يضعف فرص إعادة انتخابه إن لم يف بالوعود في زيادة الوظائف. الأرقام عن البطالة المتراجعة تخضع لتدقيق من قبل العديد من المراقبين وقد تفضح زيف الادعاء بالتحسّن الاقتصادي. كما أن هناك شبه إجماع أن الأسواق المالية مقبلة على تدهور كبير أسوأ مما حصل عام 2008. فالورقة الاقتصادية التي امتلكها ترامب قد تضيع. وإذا أضفنا تداعيات الحروب التجارية على قطاعات واسعة في الزراعة والصناعة فإن فرص فوز ترامب بولايات ثانية ستتضاءل. ولا بد لنا من الإشارة أن بعض رجال الأعمال الكبار كوارن بوفيت، وهو من أغنى أثرياء الولايات المتحدة، يحذّر من كارثة مالية كبيرة أضخم من كارثة الرهونات العقارية. أما انكشاف أكبر خمس مؤسسات مالية أميركية (جي. بي. مورغن، مجموعة سيتي غروب، غولدمان ساكس، بنك أو أمريكا، مورغان ستانلي، وولز فارغو) قد يصل حجم العقود إلى أكثر من 476 تريليون دولار حسب التقديرات بينما بعضها يصل إلى 1،2 كوادرليون دولار (15 صفر بعد الواحد!). أما الخسائر فقد تصل إلى فيصعب تقديرها بدقة بسبب الحجم وبسبب الانكشاف الناتج عن المضاربات المالية في المشتقات المالية (derivatives) وهي تفوق قدرات السلطات النقدية المعنية في الولايات المتحدة والعالم أجمع. فإن لم تتداركها السلطات المعنية، أي الاحتياط المركزي ووزارة الخزينة والمسؤولون الماليون في المؤسسات المالية فإن الانهيار سيكون شاملا! بالمقابل، فإن حجم الأصول المالية لتلك المؤسسات لا يتجاوز 10، 2 تريليون دولار لعام 2015، أي المطلوبات تفوق بأضعاف الموجودات أو الأصول المالية. أما فيما يتعلق بأرقام لعام 2019-2020 فقد تكون أضعاف الأرقام المذكورة بسبب الارتفاع الجنوني لحجم المداولات المالية في الأسواق المالية العالمية!!
2- على صعيد "الإيجابيات" التي حقّقتها الإدارة الأميركية نجاح المفاوضات مع كل من المكسيك وكندا في إعادة صوغ اتفاقية "نافتا". نجاح التفاوض في هذا الملفّ يعود إلى "ربح" ملموس للأطراف الثلاثة وخاصة للطبقة العمّالية الأميركية على حد زعم الرئيس الأميركي. غير أن الحقيقة قد تكون مخالفة لتلك التوقّعات. لكن هذا النجاح سيتحوّل إلى ورقة رابحة في الانتخابات القادمة للإدارة وللحزب الجمهوري دون أن يتجرّأ الحزب الديمقراطي على إفشاله وفقا لقاعدة اللعبة الصفرية التي تتحكّم بالسلوك السياسي للحزبين الأميركيين.
3- الحروب التجارية. ما يعزّز الشعور بل التوقّع لمرحلة انكماش كبيرة شبيهة بالانكماش الذي بدأ سنة 2018 (والذي لم ينته حتى الآن!) والتي أظهرتها بشكل درامي انهيارات الأسواق المالية التي ما زالت آثارها موجودة حتى الآن، هو سياسة الحروب التجارية مع الخصوم كما مع الحلفاء. فإدارة ترامب تخوض معارك على عدّة جبهات قوّية ما يثير التساؤل حول مدى ارتجال تلك السياسات. فأهمها هي الحرب التجارية مع الصين صاحبة الفائض التجاري القياسي مع الولايات المتحدة. المشكلة كما صوّرها الرئيس الأميركي هو العجز التجاري لصالح الصين والعائد للغش كم يزعم. فما هو حجم العجز التجاري بين الولايات المتحدة والصين الذي يشكّل قاعدة الحرب التجارية التي بدأها ترامب؟ عام 1985 كان العجز فقط 6 مليون دولار بينما وصل العجز عام 2018 إلى 420 مليار دولار! فإجمالي صادرات الصين للولايات المتحدة هو 540 مليار دولار بينما أجمالي الصادرات الأميركية للصين 120 مليار دولار. أما سبب العجز فهو انخفاض كلفة الإنتاج للسلع في الصين. ويعود ذلك إلى تدنّي مستوى المعيشة في الصين مقارنة مع الولايات المتحدة ما مكّن الشركات الصينية دفع أجور أقل بكثير عما يُدفع في الولايات المتحدة. كما أن الاستثمار في البنى التحتية والمعدّات ركيزة أساسية في سياسة الدولة والشركات في الصين بينما هناك اهمال مزمن وربما متعمّد لذلك النوع من الاستثمار في الولايات المتحدة. والسبب الثاني هو ثبوت سعر صرف اليوان تجاه الدولار.
لسنا في وارد تحليل البنى الاقتصادية لكل من الولايات المتحدة والصين وإن كانت ضرورية لفهم ما يحصل وذلك لضيق المساحة المتاحة في هذه المقاربة. فلا يجب أن ننسى أن الولايات المتحدة قرّرت منذ السبعينات إعادة توطين قاعدتها الإنتاجية الصناعية خارج الولايات المتحدة والتركيز على قطاع الخدمات للتحوّل إلى مجتمع ما بعد الصناعة. بينما الصين اتبعت سياسة مختلفة هدفها نشل 600 مليون صيني من مستوى الفقر إلى مستوى الطبقة الوسطى على أن يصبح السوق الصيني بحلول 2030 أكبر سوق استهلاكي في العالم مع متوسّط للدخل الفردي بقيمة 25 ألف دولار سنويا. والمقارنة بين البلدين تستوجب بحثا منفصلا ومطوّلا لا يمكننا الآن الخوض فيه. لكن من الواضح أن البنى المختلفة والسياسات المتبعة بين البلدين من أسباب النمو الكبير في الاقتصاد الصيني والتراجع في الاقتصاد الأميركي.
4- الحرب على شركة هوا واي لها دلالات في غاية الأهمية. فالمعركة التي تشنّها الإدارة الأميركية بعدّة حجج منها مشروعة ومنها غير مشروعة تعكس موازين القوّة بين الولايات المتحدة والصين، حيث الأخيرة أصبحت متفوّقة على الولايات المتحدة في مجال تقنيات التواصل وخاصة فيما يُسمّى بالجيل الخامس أو 5 ج. تعتبر الولايات المتحدة أن الشركة "سرقت" تكنولوجيات من الولايات المتحدة وغير الولايات المتحدة كما أن الشركة تلقى دعما كبيرا من قبل الحكومة الصينية ما يجعلها تُصنّع بكلفة متدنّية كبيرة. أصبحت الشركة الصينية العملاقة الشركة الصينية الوحيدة العابرة للقارات. فهي تقوم بعقد صفقات مع عدد من الدول في العالم لتمكين بناء ما تعتبرها البنى التحتية اللازمة لترسيخ شبكات التواصل التي تؤمّن مختلف الخدمات التي تقدّمها تكنولوجيا ج 5 في السرعة والجودة المتفوّقة المبنية على الذكاء المصطنع. مآخذ الولايات المتحدة هي أن تلك التكنولوجيا تشكّل تهديدا مباشرا للأمن القومي الأميركي حيث معظم المعلومات ستكون بيد تلك الشركة بسبب تلك التكنولوجيا. والولايات المتحدة اتخذت قرارات تمنع بيع القطع تملكها شركات أميركية بتكنولوجيا أميركية لشركة هوا واي. كما أنها تفرض عقوبات على الشركات العالمية التي تستعمل تكنولوجيات أميركية من التعامل مع شركة هوا واي. فالاستثمارات الكبيرة التي وظّفتها الشركة ومعها الدولة في الصين تأتي أكلها بينما إهمال البنى التحتية وتراجع مستوى التعليم الأميركي عالميا وراء التراجع الاستراتيجي الأميركي. هدف بعض الصقور في الإدارة الأميركية هو تدمير الشركة وليس فقط إعاقة نموها كما صرّح المستشار السابق للرئيس ترامب في الشؤون الاستراتيجية ستيف بانون. هناك من يعتقد أن الصين أصبحت تهديدا وجوديا لمصالح الولايات المتحدة في العالم خاصة وأن موازين القوّة لم تعد في صالح الولايات المتحدة. فالصين تملك أكبر احتياط للأتربة النادرة الضرورية لكل الصناعات والتكنولوجيات المتقدمة. فبإمكان الصين، عبر أيقاف صادراتها من الأتربة النادرة، شلّ الصناعات التكنولوجية الأميركية وهذا ما لا تستطيع تحمّله الولايات المتحدة. من هذه الزاوية نفهم ميل البنتاغون بشكل عام والبحرية الأميركية للتصعيد لمواجهة النمو الصيني. لكن في آخر المطاف لا بد للإدارة الأميركية أن تتراجع عن حربها على شركة هوا واي التي أصبحت شركة تستطيع تركيع الولايات المتحدة!
5- الحرب التجارية التي تشنّها الولايات المتحدة على الصين هي حرب أنظمة اقتصادية. من مفارقات الدهر أن الصين اتبّعت النموذج الاقتصادي الأميركي التي كانت سببا لتفوّق الولايات المتحدة ولكنها تركته، أي الرأس المالية الإنتاجية لصالح الرأس المالية الصرف المبنية على المضاربات المالية لإنتاج الثروة وليس على الإنتاج الفعلي. فالصين، عبر نموذجها المختلط، أي قطاع عام مسيطر في المرافق الاستراتيجية يقدّم الخدمات المدعومة للقطاع الخاص. لذلك استطاع القطاع الخاص أن يخفّض كلفته الإنتاجية عبر عدم تحمّل عبء الطبابة والإسكان والأجور المرتفعة لليد العاملة. الدولة في الصين تقوم بالتخطيط المركزي بينما "التخطيط" في الولايات المتحدة تقوده وال ستريت أي القطاع المالي. وقد ذكرنا أعلاه أن خمسة مصارف مملوكة من أربعة شركات تسيطر على القطاع المالي ومن خلال ذلك على الاقتصاد والمجتمع الأميركي. غير أن النظام الأميركي الحالي لم يعد قادرا على منافسة الصين وغير الصين.
من جهة أخرى، إن الولايات المتحدة في حربها على الصين تريد تغيير النظام الاقتصادي وحتى السياسي ما يجعل ذلك اعتداء على السيادة الصينية، وهذا لن تقبل به. الحرب التجارية قد تضرّ الدولتين والسؤال الفعلي هو من يستطيع التحمّل أكثر تداعيات تلك الحرب. الصادرات الخارجية الصينية للولايات المتحدة (540 مليار دولار) لا تشكّل قسما كبيرا من الناتج الداخلي الصيني الذي يقارب 13 تريليون دولار. أي في السيناريو الأسواء تستطيع الصين الاستغناء عن السوق الأميركي أذا ما استمّرت حرب التعريفات التي قد تصل إلى منع الصادرات الصينية من دخول الولايات المتحدة.
طبعا، ليس هناك من تصّور للوصول إلى تلك الحالة ولكن نورد هذه النقطة لإبراز أن ميزان القوّة (أو الصمود في هذه الحال) هو لصالح الصين. كما أن الأخيرة تستطيع أن تشّل كل وسائل الدفاع العسكرية الأميركية عبر إيقاف صادراتها من الأتربة النادرة التي تدخل في تشغيل كل المنظومات العسكرية الأميركية. وأخيرا، هناك السلاح المالي. فالصين تحمل 1،3 تريليون دولار من سندات الخزينة ما يجعلها تساهم في الحفاظ على مستوى الاستهلاك في الولايات المتحدة الذي أصبح سمة اقتصادها. فالاستهلاك الأميركي كان محرّكا فعّالا للصادرات الصينية ولكن قد تجد الصين أن السوق الأميركي قد استنفد جدواه، فتلجأ إلى عدم شراء سندات الخزينة الأميركية ما يشكّل ضربة قاضية للنظام المالي الأميركي. وإذا أضفنا إلى كل ذلك سعي الصين مع روسيا وعدد من الدول إلى إيجاد نظام نقدي دولي بديل عن الدولار نري أن الأوراق التفاوضية الأميركية تتضاءل بشكل ملموس.
في النهاية، الصورة الاقتصادية الأميركية مركّبة. فمن جهة عناصر التراجع التي قد توصل البلاد إلى الانفجار الداخلي موجودة وتتفاقم دون ان تكترث لها النخب الحاكمة. بالمقابل فإن بعض الإنجازات شبيهة بالمعارك التكتيكية التي تؤخّر حتمية الهزيمة، وهنا الانفجار، دون الغائها أو معالجتها. فمن جهة نشهد مظاهر تقدّم ظرفية أو هجوم بينما الواقع هو تراجع بنيوي واستراتيجي غير قابل في المدى المنظور للتعديل.
التقدير العسكري
تعتقد الولايات المتحدة أن مصدر قوّتها الرئيس في العالم هو قدراتها العسكرية التي تمكّنها من الوصول إلى كافة أنحاء العالم وبالتالي فرض إرادتها. وتستند إلى الدعاية التي تروّجها كل من السينما والتلفزيون الذي يمجّد عظمة القوّات المسلّحة. وإذا كنّا لا نشكّ أبدا في القدرة التدميرية للولايات المتحدة للمعمورة أجمع عشرات الالاف من المرّات غير أنه لم تعد تستطيع صرف تلك القدرة في السياسة. وما كانت تحظى عليه من تفوّق تكنولوجي في التسليح لم يعد قائما بعد ما كشف الرئيس الروسي في شهر آذار/مارس 2018 في خطابه إلى الأمة الروسية عن نوعية السلاح الكاسر للتوازن في الجوّ. وحال الأنكار لذلك الواقع الذي أبدتها تعليقات بعض المراقبين سرعان ما بدّدتها تصريحات لمسؤولين في البنتاغون تؤكّد الإنجازات الروسية. وأهمية ذلك التطوّر تكمن في أن التكنولوجيا المتطوّرة بدأت وما زالت تقوم في كنف النشاطات العسكرية والدفاعية.
غير أن الإنفاق غير المسبوق في ميزانية الدفاع (أكثر من 700 مليار دولار، والزيادة في الميزانية أكثر من مجمل ما تنفقه روسيا في السنة الواحدة!) لن تُترجم بالضرورة إلى تفوّق تكنولوجي في التسليح وربما حتى في الندّية مع السلاح الروسي وغير الروسي بسبب الفساد في اقتصاديات شركات التسليح. وبما أن الفساد يعمّ سلوك المؤسسات الصناعية التسليحية في الولايات المتحدة فإن المنتوج التكنولوجي تراجع في الجودة وفي السرعة المطلوبة أمام ما أنجزته روسيا في أقل من عقد من الزمن بعد سقوط الاتحاد السوفيتي. ففضيحة أنتاج طائرة أف 35 الباهظة للكلفة والتي ما زال يشوبها بعض المشاكل التقنية تعزّزت مع ظهور طائرة السوخوي الروسية 57 التي أقلّ كلفة وأكثر قدرة على المناورة ناهيك عن قدراتها التكنولوجية. فجشع وفساد المؤسسات ومعها عدد من المسؤولين الكبار في البنتاغون هو السبب في عدم إنتاج أسلحة توازي ما أنتجته روسيا. وتراجع التفوّق التكنولوجي الأميركي في التسليح مؤشّر للتراجع التكنولوجي بشكل عام في معظم المجالات. الصناعات الحربية كانت وما زالت المحرّك للتقدّم التكنولوجي عبر تشجيع معاهد الأبحاث الخاصة والشركات المعنية في البحث العلمي والتكنولوجيا. فإذا تراجعت تلك الصناعات كلفة وجودة فذلك حكم على الولايات المتحدة بالتخلّف التكنولوجي.
هذا على صعيد التسليح. أما على صعيد الأداء العسكري فنلفت النظر أن الولايات المتحدة لم تنتصر في أي من الحروب التي خاضتها بعد الحرب العالمية الثانية. فالحرب على الكورية في مطلع الخمسينات من القرن الماضي وبتأييد الأمم المتحدة انتهت بتعادل شبيه بالهزيمة. والحرب على الفيتنام، أو محاولة التمركز في لبنان عام 1982-1983 بعد الاحتلال الصهيوني للبنان، أو محاولة احتلال الصومال، إلى احتلال أفغانستان والعراق لم تسفر بالنتائج السياسية التي كان هدفها الحرب. فالهزيمة النكراء في الفيتنام مثلا ما زالت تشكّل هاجسا في نفوس القيادات العسكرية الأميركية. أما في أفغانستان، فبعد احتلالها لمدة 18 سنة في محاولة لاقتلاع حركة طالبان ها هي تفاوض طالبان على ترتيب الخروج. وفي العراق، رغم الاحتلال وقتل أكثر من مليون عراقي وتدمير البنى التحتية لم تستطع الولايات المتحدة فرض اتفاق أمنى عسكري سياسي على العراق وها هي قواعدها أصبحت مهدّدة بقوى محور المقاومة، ناهيك عن خسائرها البشرية والمادية التي ساهمت بشكل واضخ في كشف عورات الولايات المتحدة على الصعيد العسكري والسياسي والاقتصادي والأخلاقي. فانتصارات القوّات المسلّحة الأميركية موجودة أكثر في خيال هوليوود ومنتجي ومخرجي الأفلام أكثر مما هي مترجمة في الواقع.
الولايات المتحدة منذ تأسيسها سنة 1776 في حالة حرب دائمة. فعلى مدة 243 سنة من وجودها خاضت حروبا لمدة 218 سنة. الفترة الوحيدة التي لم تخض أي حرب هي فترة الكساد الكبير في الثلاثينات. فمن اسباب دخولها الحرب العالمية الثانية هو لكبح الكساد عبر الصناعات التسليحية التي وظّفت الملايين من العاطلين عن العمل. تاريخ الولايات المتحدة ووجودها هو تاريخ الحروب الدائمة التي بُنيت عليها وإبادة من يقف بوجهها. تفوّقت الولايات المتحدة عمن هم أقلّ قوة منها كجزيرة غرينادا في مطلع الثمانينيات ويوغوسلافيا في نهاية التسعينات. لكنها فشلت أمام من يملك الإرادة والعزم رغم عدم التكافؤ التكنولوجي في التسليح فلم تنتصر في يوم من الأيام. وبما أن العالم تغيّر فإن الشعوب أصبحت قادرة على كبح الغطرسة ووحشية الولايات المتحدة. فخروجهم من لبنان عام 1983 ومن الصومال والخروج المكره لمعظم قوّاتها من العراق والتفاوض على الخروج من أفغانستان دلائل على عزيمة الشعوب برفض الإملاء الأميركي، وذلك في ساحة المواجهة الميدانية.
وهذه الملاحظات تفسّر إلى حدّ كبير عدم القدرة الأميركية لمواجهة خصوم يملكون ما يكفي من القوّة والعزم لردع الولايات المتحدة. بل يمكن القول أكثر من ذلك. فوفقا لما نشرته مؤسسة راند كوربوريشن في شهر آذار/مارس 2019، وهي مؤسسة أبحاث علمية تابعة لوزارة الدفاع الأميركية، فإن أي حرب مقبلة مع كل من روسيا والصين ستؤدّي إلى هزيمة نكراء للولايات المتحدة. العبارة المستعملة في التقرير هي "crushed" أي الهزيمة الكاسحة أو الطحن. وإذا أضفنا ما يصدر عن مؤسسة "هريتاج"، وهي مركز أبحاث محافظ مرموق، فإن التقييم السنوي لجهوزية مجمل القوّات المسلّحة الأميركية فهو في الحد الأقصى "هامشي" (marginal). م |