التوزيع:
محدود
الرقم: م ق ع 32/وثائق 3
التاريخ:
30/7/2023
المؤتمر الثاني
والثلاثون
30 – 31 تموز/يوليو
2023
بيروت - لبنان
"السودان وحرب الاستعمار والاستيطان"**
د. محمد حسب الرسول (السودان)*
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* عضو الأمانة العامة للمؤتمر القومي العربي، كاتب وباحث
في القضايا الإقليمية.
** ** لا تعبر هذه الورقة بالضرورة عن رأي الأمانة العامة للمؤتمر
القومي العربي.
السودان وحرب الاستعمار
والاستيطان
مقدمة
ظلَّ السودان، ومنذ استقلاله في الأول من كانون الثاني/يناير1956، يواجه
تحديات خارجية وداخلية كبيرة. أثرت هذه التحديات في مسيرة البناء الوطني الممتدة
منذ فجر الاستقلال وحتى الآن، بيد أنَّ وتيرتها تمضي في مسارات متصاعدة، وتتخذ
أشكالاً وأنماطاً بالغة التأثير، تكاملت فيها التحديات الخارجية مع نظيرتها
الداخلية، وألقت بظلالها على ماضي السودان وحاضره، مثلما ستلقي بظلالها كذلك على
مستقبله.
لم تكن التحديات التي عرفها السودان بعد نيله الاستقلال أمراً طارئاً على
الحقبة الوطنية، فقد حوت كتب التاريخ سجلاً حافلاً بالحوادث التي تُحدِث عن
مدافعات كبيرة وكثيرة صُوب بعضها إلى الداخل لمواجهة تحديات محلية، وصُوب بعضها
إلى الخارج لمواجهة تحديات خارجية. وليس بعيداً من ذلك، ظل السودان يواجه تحديات
عظيمة ظلت وتيرتها في تصاعد منذ التغيير الذي أطاح نظام المشير عمر البشير في 11
نيسان/أبريل 2019.
في سياق تلك التحدّيات، جاءت الحرب التي نشبت في الخرطوم في 15 نيسان/أبريل
2023، والتي لم تكن حدثاً مفاجئاً، إنما كانت خطة بديلة لخطة رئيسة بدأ الإعداد
لها مع بداية الفترة الانتقالية، وكُتِبت عنها المقالات الاستشرافية وحذرت منها
ومن مخاطرها، كما تحدث عنها أصحابها عشية اندلاعها، حين خيروا الشعب بين هيمنتهم
على السودان بوسائل سياسية ودستورية أعدوها منفردين أو عبر الحرب بكل ما تحمل من
أضرار ومخاطر وشرور.
تناقش هذه الورقة قضية الحرب في السودان من حيث طبيعتها وأهدافها، من دون
تتبع مساراتها العملياتية ووقائع يوميات العمل العسكري، إذ تعتبر ذلك تفصيلاً قد
يزيد تناوله من حالة عدم وضوح طبيعة هذه الحرب وأهدافها وأصحاب المصلحة من ورائها،
في وقت يخدم التغييب المتعمد أو المرغوب لطبيعة هذه الحرب مصلحة مشروع الهيمنة
الغربية على السودان بأدوات سياسية ودستورية في طور، وأدوات عسكرية في طور آخر.
الطور الأول لمشروع الهيمنة الخارجية على السودان
بالوسائل السياسية والدستورية
لم تكن الثورات والانتفاضات الشعبية حدثاً جديداً في السودان، فقد ثار
السودانيون ضد نظام الفريق إبراهيم عبود في تشرين الأول/أكتوبر 1964، وثاروا ضد
نظام الرئيس جعفر نميري في نيسان/أبريل 1985، وأرسوا خلال تلك التجارب قواعد راشدة
تمكن من تحقيق انتقال ديمقراطي سلس وآمن يقود البلاد إلى عملية انتخابية تعيد
السلطة إلى الشعب بوصفه مالكاً لها، وبكونه صاحب الحق في اختيار ما يناسبه من
برامج حكم وحكام. ظلّت المحافظة على السيادة الوطنية وكفّ تدخل الخارج في الشأن
الداخلي وضمان وطنية التوجه من أولى وأهم تلك القواعد التي أرسيت في تجربة تشرين
الأول/أكتوبر 1964 وتجربة نيسان/أبريل 1985.
وكان ثاني تلك القواعد المحافظة على هوية السودان، وثالثها عدم إطالة فترات
الانتقال وإعادة الأمر إلى الشعب عبر انتخابات خلال عام واحد فقط يبدأ من حدوث
التغيير، ورابعها التوافق على كفاءات وطنية مستقلة لإدارة الفترة الانتقالية
لتنزيه مرحلة الانتقال من التحيزات الحزبية والأيديولوجية، ولتتفرغ الأحزاب
للانتخابات.
كانت تجربة الانتقال الثالثة التي أعقبت إطاحة نظام المشير عمر البشير
تجربة مفارقة لتجربتي الانتقال السابقتين لها، ومفارقة لقواعد الانتقال الرشيدة
التي أرسيت خلالهما، إذ شهدت هذه التجربة أعلى درجات انتهاك السيادة الوطنية، وشُرعت
خلالها الأبواب أمام التدخلات الخارجية حتى أمسك الخارج بالقرار السوداني، وهُددت
فيها الهوية والمصالح الوطنية، وطالت فيها مرحلة الانتقال.
كان الخارج حاضراً قبل اكتمال التغيير في 11 نيسان/أبريل، وتمثل حضوره في
احتضان فريق تشكل من جماعات سياسية سودانية سخر لها فضائيات عربية، وأسس لها منصات
إعلامية رقمية في عواصم ومدن في آسيا العربية وفي أوروبا وأميركا وغيرها من
القارات. وقد استطاع من خلال هذه الفضائيات والمنصات الرقمية صناعة رأي عام مناهض
للثوابت والهوية والقيم الوطنية التي ميزت السودان والسودانيين عبر التاريخ، وأشاع
أخطر خطاب للكراهية بين مكونات المجتمع السوداني.
ظلّ الدور الخارجي على كل صعيد، وتجاوز بسلوكه كل عرف دبلوماسي وتقليد. وقد
كان حضور السفارات في ميدان الاعتصام أمام القيادة العامة للجيش مسرحاً تجسدت فيه
أعلى درجات الاختراق الخارجي، وبكل السفور، وأصبح هذا الميدان منصة للخطاب
والتحريض الغربي، وظلت منابر الجماعات السياسية المرتبطة بالخارج داخل هذا الميدان
تمثل صدى للخطاب الغربي بكل ما يحمله من مضامين سالبة تسهم في هدم الثوابت والقيم
الوطنية، ويمتد تأثيرها السالب إلى تمزيق النسيج والتماسك الوطني، حتى باتت
القابلية للاستعمار ثقافة تسري كوباء في بعض أوساط الشباب والنخب.
وقد بلغ التدخل الخارجي مرحلة فرض فيها على السودان وشعبه وثيقتين سياسية
ودستورية جعلتا فترة الانتقال حكراً على جماعة تواليه، من مدنيين وعسكر، وتتبنى
خطابه ومشروعه النيوليبرالي بأبعاده القيمية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية،
علماً أن الوثيقة الدستورية هي دستور الفترة الانتقالية. وقد حذفت منه اللغة
العربية كلغة رسمية للدولة، وحذف منه تعريف السودان بكونه دولة عربية أفريقية.
شهدت هذه الفترة التي شكل فيها الخارج حكومة تحالف الحرية والتغيير برئاسة
عبد الله حمدوك استجابة كاملة لمطلوبات الخارج، فعدلت القوانين التي كانت تسهم في
صون هوية المجتمع وقيمه، فطالت التعديلات القانون الجنائي وقانون الأحوال الشخصية
وغيرهما من القوانين، في مسعى لاستبدال المنظومة القيمية والثقافية للسودان
بمنظومة ترتبط بالمشروع النيوليبرالي الذي تولت هذه الحكومة تنفيذه، ففتحت
التعديلات التي أدخلت إلى القوانين الأبواب أمام تفكيك الأسرة والمجتمع والقضاء
عليهما، وتوطين المثلية، وإشاعة واستزراع الثقافة الغربية.
بعثة الأمم المتحدة إلى السودان (بعثة الوصايا والانتداب)
لم يتوقّف التدخل الخارجي عند ما ورد في أعلاه، لكنه ظل حاضراً يمسك
بتلابيب السودان وقراره الوطني بشكل كبير ومخيف. وفي خطوة تمثل أبلغ درجات الخطر
على السودان في حاضره ومستقبله، قال عرفان صديق السفير البريطاني في الخرطوم، أنه أعد
رسالة وقعها رئيس وزراء الفترة الانتقالية عبد الله حمدوك، موجهة إلى الأمين العام
للأمم المتحدة، يطلب فيها تشكيل بعثة أممية تعيد تشكيل حاضر السودان وتصنع مستقبله
على نحو جديد على الصعيد الاجتماعي والثقافي والسياسي والدستوري، وتفكك مؤسسات
الدولة وتعيد بناءها على أسس جديدة بعيداً من الموروث والثوابت الوطنية والقيمية
والحضارية للسودان.
قام رئيس الوزراء بإرسال هذه الرسالة سراً إلى الأمين العام للأمم المتحدة من
دون علم مجلس السيادة الذي يشكل العسكريون نحو نصف عدد أعضائه، واستجاب مجلس الأمن
لطلب رئيس الوزراء، وأنشأ البعثة، وعيّن الصهيوني الألماني فولكر بيرتس رئيساً
لها، وهو الذي رافق حقبة هدم الدولة العراقية حين كان أحد مساعدي الحاكم الأميركي
للعراق بول بريمر، كما واكب مشروع تدمير الدول السورية في النصف الأول من سنوات
الأزمة فيها ضمن الفريق الأممي هناك.
تضمّنت رسالة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك إلى الأمين العام (الرسالة التي
أعدها السفير البريطاني) النطاق الجغرافي لعمل البعثة وحدده بكل جغرافيا السودان،
وحدد نطاقها الزمني، فجعل أمدها يمتد حتى عام 2030، كما حددت الرسالة طبيعتها
ومهامها -وفق نصها- على ما يلي:
-
تأليف بعثة
سياسية خاصة للسودان تضم عنصراً قوياً، وتشمل ولايتها الجغرافية كامل أراضي
السودان، ويمتد نطاقها الزمني حتى يحقق السودان أهداف التنمية المستدامة بحلول
2030، على أن تكون ذات نهج مبتكر ومنسق، وأن يتسم بالمرونة والسلاسة، وينبغي
استخدام عناصر أساسية واتباع نهج نموذجي، وأن يوسع فريق هذه البعثة عملياته من حيث
الحجم والنطاق ليكون على مستوى الغرض المنشود، وأن يكون وجود الأمم المتحدة في
السودان متكاملاً ومتوائماً من الناحية الاستراتيجية، وتحت قيادة واحدة، وأن
يجري الأمين العام إصلاحات لركائز البعثة.
-
أن يكون من
مهمات البعثة: دعم تنفيذ الإعلان الدستوري (الدستور الانتقالي)، والرصد المنتظم
لتنفيذ نقاطها المرجعية الرئيسية؛ الاضطلاع بعمليات الإصلاح القانوني والقضائي؛ وإصلاح
قطاع الأمن (الجيش، والشرطة، والأمن)؛ وإصلاح الخدمة المدنية؛ ووضع الدستور
الدائم؛ ودعم جهود السلام، وودعم إعادة المشردين داخلياً واللاجئين إلى أوطانهم
وإعادة دمجهم.
استجاب الأمين العام للأمم المتحدة لطلب
رئيس الوزراء الانتقالي، وبموجب ذلك أنشأ مجلس الأمن الدولي في 4 حزيران/يونيو
2020، بالقرار الرقم 2524،أنشأ بعثة سياسية أممية للسودان حملت الاسم المختصر "يونتامس"،
وقد قابل تحالف الحرية والتغيير هذه الاستجابة بحفاوة بالغة، لأن هذه البعثة في
نظره ستحقق أهدافاً كبيرة، من بينها تقليم أظفار المؤسسة العسكرية، وصناعة معادلة
جديدة لمصلحة رئيس الحكومة وحاضنته السياسية، برغم المخاطر الكبيرة التي ستترتب
على وجود هذه البعثة وأهدافها ودورها من مخاطر كبيرة تستهدف سيادة البلد
واستقلاله.
اختار الأمين العام للأمم المتحدة
الألماني فولكر بيرتس الذي عمل مع بول بريمر في العراق إبان الاحتلال الأميركي له،
ثم عمل مستشاراً لمبعوث الأمين العام للأمم المتّحدة لسوريا خلال
الحقبة 2015 - 2018، كما عمل أستاذاً في جامعة هومبولت في برلين، وأستاذاً مساعداً
في الجامعة الأميركية في بيروت (1991 - 1993)، وترأس مجموعة أبحاث الشرق الأوسط
وأفريقيا حتى نيسان/أبريل 2005، وعمل مديراً للمعهد الألماني للسياسة الدولية والأمن، وله
كتاب بعنوان نهاية الشرق الأوسط الذي نعرفه.
ولعل في السيرة الذاتية لرئيس البعثة
الأممية بخبراته في العراق وسوريا وخبراته الأخرى عنواناً لطبيعة المهمة التي
اختير لها في مهمته الجديدة في السودان. باشر فولكر بيرتس عمله في السودان، وصادر
القرار الوطني بشكل كامل تقريباً، وأصبح حاكماً عاماً للسودان يأمر فيُطاع. وقد
تسبب بذلك في نشوب الحرب التي يشهدها السودان حالياً.
يتضح من طبيعة البعثة التي جاء تفصيلها
في رسالة رئيس الوزراء أنّها بعثة سياسية وشاملة من حيث التكوين، وأن لها قيادة
واحدة تجتمع تحت إمرتها كل المؤسسات الأممية، وأن نطاق ولايتها يشمل كل السودان،
وأن أجلها الزمني يمتد لعشر سنوات هي عدد سنوات المرحلة الانتقالية المقترحة من
تحالف الحرية والتغيير الذي كان حاكماً في السنوات من 2019 إلى 2021، وأن الرسالة
منحت الأمين العام للأمم المتحدة تفويضاً لتطوير البعثة تحت مسمى الإصلاح بما
يجعلها مفتوحة الأهداف والوسائل والآليات.
كما أن
البند الأول في مهمات هذه البعثة الوارد تحت صيغة دعم
تنفيذ الإعلان الدستوري وضع البعثة في مرتبة أعلى من كل مؤسسات المرحلة الانتقالية،
وخصوصاً مجلسي السيادة والوزراء، إذ منح هذا البند الحق للبعثة في مراقبة أداء
المجلسين، وممارسة عمليات المتابعة والتقييم لأعمالهما، وتصويب تلك الأعمال من
موقع الوصاية المسنودة بقرار أممي.
بالنظر إلى مهمات البعثة، وفق رسالة عبد
الله حمدوك التي اعتمدها القرار الأممي المنشئ للبعثة، فإنّ تلك المهمات تُمكن
البعثة، وبصورة كاملة، من ممارسة الوصاية والانتداب على السودان، وهو ما ثبت إلى
حد كبير خلال مدة عملها، ومن خلال ممارساتها العملية.
كما أن مهمات البعثة تشمل مباشرةً إعادة
هندسة أوضاع الدولة تحت مظلة إصلاح مؤسساتها التي وردت ضمن المهمات، وهو الذي تمت
ترجمته عملياً من خلال تفكيك بعض مؤسسات الدولة، وإضعاف المؤسسات التي لم يشملها
التفكيك، ومن خلال عمليات الإحلال والإبدال التي شملت كوادرها، إذ شهدت حقبة حكومة
عبد الله حمدوك الأولى والثانية فصل وتشريد آلاف الكفاءات الوطنية التي تمرست في
العمل، وتشبعت بقيَمه وتقاليده، واكتسبت وراكمت عبر عقود من الزمن خبرات كبيرة تم
استبدالها بأصحاب الولاء السياسي وببعض الذين جاء بهم التغيير من خارج الحدود.
لم تكن مهمات البعثة التي جاءت في رسالة
رئيس الوزراء وتضمنها قرار مجلس الأمن الذي أنشأها ، مصوبة فقط نحو إعادة تكوين
مؤسسات الدولة على نحو جديد يخدم هدف صناعة حاضر جديد للدولة السودانية تحت قيادة
البعثة الأممية من خلال عمليات التفكيك والتركيب التي استهدفت المؤسسات، إنما
مكّنت هذه المهمات البعثة أيضاً من صناعة مستقبل السودان عبر وضع الدستور الدائم
للبلاد وسن قوانين جديدة بعيداً من الإرادة الوطنية، وبمنأى عن تطلعات المواطنين
ووجدانهم وهويتهم التاريخية والحضارية، علماً أن للسودان خبرات وتجارب دستورية
غنية جداً استفاد منها الإقليم بأثره، إذ كتب بعض الخبراء السودانيين كل الدساتير
التي حكمت بلادهم منذ عام 1953 وحتى دستور 2005 الذي تم تعليق العمل به في 11
نيسان/أبريل 2019، وأن بعض خبرائه كتبوا دساتير دول عربية وآسيوية، وأن القانونيين
من أبنائه أسسوا عدداً من المنظومات العدلية، وصاغوا قوانين دول كثيرة، ولا سيما
في دول الخليج، وأن أساتذة القانون السودانيين درّسوا في جامعات كثيرة في محيط
السودان العربي والأفريقي، وتخرجت على أيديهم أعداد كبيرة من دارسي القانون.
إنّ
التدخل الخارجي في الشأن السوداني خلال هذه المرحلة الانتقالية أفضى إلى تحويل
طبيعة الصراع السياسي في السودان إلى صراع بين مشروع الاستقلال الوطني ومشروع
الهيمنة الغربية على البلاد، التي أعادها إلى مرحلة ما قبل الأول من كانون
الثاني/يناير 1956؛ تاريخ استقلال السودان، الأمر الذي أدركه المجتمع وبدأ بحشد
طاقاته لمقابلة هذا التحدي الذي استجد.
إنّ "الاستعمار"،
كما هو عهده وتاريخه، ليس حريصاً على الديمقراطية في "مستعمراته". وقد طفق
عبر تاريخه الطويل ينصب الحكام ويفرض الأنظمة، متجاوزاً حق الشعوب في اختيار
حكامها وفي بناء نظم الحكم، ضارباً بعرض الحائط حقوقها المشروعة في الحكم
الديمقراطي الذي يتأسس على الانتخاب والاختيار الحر الذي يؤسس في الآن عينه لتداول
سلمي للسلطة، لذلك تعمدت البعثة الأممية ومن ورائها الدول الغربية إطالة أمد
الفترة الانتقالية والحؤول دون إجراء انتخابات تعيد السلطة إلى الشعب وتحقق التحول
الديموقراطي.
وقد
عرف "الاستعمار" عبر تاريخه بفرض قيادات مصنوعة على شعوبها خلال الحقبة
الكولونيالية. وبرغم النتائج السالبة لهذا السلوك، فإنه لم يدرك بعد خطل ذلك
الصنيع، ويريد أن يستمر في استدامة ذلك النموذج في غير قُطر، وقد عمل ولا يزال منذ
بداية المرحلة الانتقالية وحتى الآن على فرض قيادة وتنصيب حكام يخدمون مصالحه،
ويخاطبون أجندته، ويخطبون وده، ويستوي في ذلك عنده المدني والعسكري حين يتوافر الولاء،
وهو ما أطال أمد المرحلة الانتقالية، وأضعف الدولة، وقسم المجتمع، وجعل الاستحقاق
الانتخابي استحقاقاً صعب المنال.
التطبيع خيانة الموقف والتاريخ والحقيقة
منذ
بداية الفترة الانتقالية، أصبح موضوع التطبيع موضوعاً للتنافس بين شركاء الحكم من
مدنيين وقادة عسكريين، إذ يعتقد المتنافسون أن التطبيع هو وحده ما يبقي المُطبِع
في السلطة التي لا يستطيع الوصول إليها عبر صناديق الانتخابات في بلد اللاءات
الثلاث.
لهذا،
بدأ المدنيون اتصالاتهم بدولة الكيان الصهيوني عبر دولة خليجية حيناً، وبشكل مباشر
في حين آخر، كما بدأت تلك الدولة الخليجية بفتح خطوط الاتصال بين قادة الدعم
السريع والكيان. حينها، دخل قائد الجيش على الخط، فسبق المتنافسين إلى عنتبي في
يوغندا، واجتمع ببنيامين نتنياهو.
شعر
المدنيون بأن شريكهم البرهان هدد بلقائه نتنياهو أحلام السلطة المخيمة على أذهانهم
ووجدانهم، فبادر مجلس وزراء تحالف الحرية والتغيير برئاسة عبد الله حمدوك إلى
إلغاء قانون مقاطعة "إسرائيل" لعام 1958، وقام المجلس بتعديل المناهج
التعليمية لتخدم فكرة التطبيع ومشروعه، فحذف منها الدروس المتعلقة بفلسطين، وحذف
منها أيضاً الدروس التي تزرع في النشء والطلاب روح الاستقلال الوطني، كما حذف منها
ما ينمي روح البطولة والفداء الوطني.
وشمل
الحذف والتعديل الدروس المتعلقة بتاريخ الاستقلال الوطني كدروس مناهضة الاحتلال
البريطاني، وبالضرورة عدلوا مناهج التربية الإسلامية والمسيحية لتخدم مشروع
التطبيع والمشروع النيوليبرالي، الأمر الذي حمل علماء الدين الإسلامي والمسيحي على
تنظيم حملة رفض واحتجاج على المقررات الجديدة.
لم
تنتهِ المزايدة بين شركاء الحكم الانتقالي بما سبق ذكره، فقد قام قائد الدعم
السريع وأخوه بعقد لقاءات في الجانب الصهيوني في الدولة الخليجية المتولية زمام
هذا الأمر، ولقاءات أخرى في جوبا وأديس أبابا وفي "تل أبيب"، كما شارك
رئيس الوزراء عبد الله حمدوك ورئيس مجلس السيادة في القمة الرباعية التي جمعتهما
بنتنياهو وترامب.
إن
سعي تحالف الحرية والتغيير نحو التطبيع لا يعني في أي حال من الأحوال أن ذلك
المسعى يعبر عن موقف الشعب السوداني الذي ظل ثابتاً على مواقفه المناهض للتطبيع
والداعم للقضية الفلسطينية، وملتزماً لاءاته الثلاث التي أطلقها عام 1967، وهو يؤكد
دوماً مواقفه الراسخة التي أطلقها منذ حرب 1948 وما تلاها من حروب حين اختلطت دماؤه
بدماء الشعب الفلسطيني على تراب فلسطين.
وبالمثل،
فإن مسعى قائد الجيش إلى التطبيع لا يعني أبداً أن المؤسسة العسكرية تمضي في
المسار ذاته، وهي التي ساندت ودعمت في 1958، وقاتلت في 1967 و1973، وفتحت مصانعها
ومخازنها للمقاومة الفلسطينية في كل الظروف وأصعبها، وهي التي كانت وستظل صاحبة
أسهم معتبرة في كل مدافعة فلسطينية مع الاحتلال تمت خلال العقود الثلاثة الماضية، لا
شك أن في التطبيع خيانة لتاريخ السودان، وخيانة لمواقفه، بل خيانة للحقيقة في أوضح
صورها.
الطور الثاني لمشروع الهيمنة الخارجية على السودان بالوسائل السياسية
والدستورية
بعد سيطرة الخارج على السودان عبر السلطة الانتقالية بمكونيها المدني
والعسكري، وخلال عامين ونيف قضاها تحالف الحرية والتغيير في الحكم، قام خلالها
بتفكيك مؤسسات الدولة وتشريد آلاف العاملين من الكفاءات الوطنية، الأمر الذي أثر
سلباً في قدرة الدولة في القيام بواجباتها تجاه الوطن والمواطنين، كما بذل خلالها
جهوداً كبيرة من أجل إعادة هندسة الواقع الاجتماعي والسياسي، بغية إحداث تحول
جوهري في هوية المجتمع واستبدال منظومته القيمية والأخلاقية.
وقد قدم التحالف تجربة حكم تصلح أنموذجاً للاستبداد والطغيان والديكتاتورية
المدنية التي لم يعرف السودان مثيلاً لها لا في حقب الحكم المدني ولا العسكري، كما
اتسمت هذه الفترة بأعلى درجات الاستلاب الخارجي والاستسلام للخارج وتبني مشروعه
المتعدد الأبعاد.
صاحب تلك الفوضى وذلك الطغيان والاستبداد والديكتاتورية عجز كامل عن إدارة
الدولة، كما صاحبها منازعات داخلية بين التحالف المدني الحاكم. وقد أدت تلك
النزاعات والصراعات إلى انقسام تحالف الحرية والتغيير إلى فصيلين، ثم إلى ثلاثة
فصائل، تبقى أضعفها في السلطة، فدخل في صراع مع شركائه العسكريين، ودخل في صراع مع
شركائه في السطة ممن وقع معهم اتفاقية جوبا للسلام، وتوسعت جداً المسافة بينه وبين
المجتمع ممثلاً في مكوناته الاجتماعية، فدخلت السلطة الانتقالية في حالة شلل تام
وأزمة مركبة ومتعددة الأوجه، فانتفض المجتمع بمكوناته الاجتماعية والجهوية
والسياسية على هذه السلطة، واستجاب الجيش للمجتمع في 25 تشرين الأول/أكتوبر 2021،
ففض شراكته مع الفصيل الأصغر من تحالف الحرية والتغيير المسمى بالمجلس المركزي.
وبسبب التدخلات الخارجية الكبيرة ممثلة في ما عرف بالآلية الثلاثية المشكلة
من البعثة الأممية بقيادة الألماني فولكر، وممثلية الاتحاد الأفريقي، وممثلية
منظمة الإيغاد (منظمة تجمع دول القرن الأفريقي تعنى بمكافحة التصحر)، وتدخل الآلية
الرباعية التي ضمت سفراء بريطانيا وأميركا والإمارات والسعودية ومنعت الآليتين
مجلس السيادة من تشكيل حكومة بديلة تدير المرحلة الانتقالية، كما منعته من اللجوء إلى
خيار إجراء انتخابات عامة في البلاد تعيد السلطة إلى الشعب وتحقق التحول
الديمقراطي المطلوب.
بعد مدافعات من كل الأطراف، حاول الخارج عبر الآلية الرباعية والآلية
الثلاثية استعادة السلطة من جديد وإعادة المدنيين المتعاونين مع الخارج إلى السلطة
وتمكينهم منها. وقد طرحت الآلية وثيقة اتفاق سياسي جديد، ودستور انتقالي جديد
أعدته منظمة PILPG وكانت
بمثابة بيت الخبرة الذي رعا مشروع الدستور الانتقالي، وبدأت حينها مرحلة جديدة
عرفت داخليا (العملية السياسية النهائية) وتمكن المشروع الخارجي فيها من الإمساك
بكل مفاصل السلطة، وتمكنه كذلك من استكمال تفكيك بقية
مؤسسات الدولة، وبشكل خاص السلطة القضائية التي عرفت عبر تاريخ السودان باستقلالها
وحيادها وكفاءتها المهنية. وفي المقابل تفكيك بقية المؤسسات المدنية والمؤسسات
العسكرية والأمنية وتشكيل مؤسسات بديلة من منسوبي المجلس المركزي وممن يوالون
الغرب ويشاركونه أفكاره. ولقد كان لغالب منظمات المجتمع المدني المتصلة بمصادر
التمويل الخارجي دورا ًكبيراً في تلك العملية السياسية بجانب الدور الرئيس الذي
تقوم به البعثة الأممية والتمثيل الصوري للاتحاد الأفريقي ومنظمة الإيغاد.
تجدد في الدستور الانتقالي المقترح حذف اللغة العربية مرة أخرى، في تأكيد
على إصرار الخارج وشركائه المحليين في تحالف الحرية والتغيير على موقفهم من هوية
السودان وضرورة تغيير تلك الهوية، ومن ثم تغيير توجهاته وسياساته ومنظومته
الثقافية والحضارية والقيمية.
وبرز في الدستور الانتقالي أمر بالغ الخطورة يتمثل في تعزيز مكانة قوات
الدعم السريع التي تمتع بها من خلال نصوص الدستور الانتقالي لعام 2019، إذ نص
الدستور المقترح على بقاء هذه القوات منفصلة عن الجيش الوطني وتحت رعاية المدنيين،
على أن يكون قائدها الرجل الثاني في المؤسسة العسكرية. وقد برز هنا استقلال الدعم
السريع وخضوع الجيش لقائد الدعم السريع، لكونه سيكون الرجل الثاني في هذه المؤسسة،
على أن يستمر هذا الوضع لمدة 10 سنوات ينظر بعدها في توحيد المنظومتين في منظومة
واحدة تكون منظومة الدعم السريع هي نواتها وليس الجيش!
تحت ضغط الآلية الرباعية (بريطانيا وأميركا والإمارات والسعودية)، وقع
قائدا الجيش والدعم السريع وتحالف الحرية والتغيير المجلس المركزي على اتفاق إطاري
يتضمن ما سبق ذكره، فأثار ذلك غضب المجتمع وحفيظة المؤسسة العسكرية التي يهددها
هذا الاتفاق بالحل والفناء الذي يترتب عليه ضياع وتفكك الدولة السودانية ووجودها،
فهدد تحالف الحرية والتغيير، على لسان كل قادته ورموزه الجيش والمجتمع، بشن الحرب
في حال عدم المضي في تنفيذ الاتفاق!
الحرب كخطة بديلة للهيمنة الغربية على السودان
بعدما أفشل
المجتمع ومؤسسة الجيش خطط الغرب للسيطرة على السودان بالوسائل السياسية
والدستورية، لجأ الغرب إلى الحرب كخطة بديلة ظل يعد لها ويوفر لها عوامل النجاح
خلال سنوات الانتقال الأربعة الماضية، فخلال تلك الفترة، تمت زيادة عدد قوات الدعم
السريع من 17 ألف جندي إلى أكثر من 120 ألف جندي، وتم رفع قدراتها القتالية عبر
التدريب الذي وفرته دول وشركات أجنبية، وعبر تطوير تسليحها الذي تطور تطوراً
كبيراً من خلال رعاية إقليمية عربية وصهيونية.
صاحَب هذا التطور
الكمي والنوعي في قوات الدعم السريع انتشار لها في كل أرجاء السودان تقريباً، إذ
أصبح لهذه القوات قيادة عسكرية في كل ولاية من ولايات السودان، تتمتع باستقلال
كامل عن قيادة المناطق العسكرية للجيش في الولايات.
وقد تركزت غالبية
هذه القوات في العاصمة الخرطوم التي تأسس لها فيها وجود عسكري ضارب حولها وفي
داخلها وداخل كل مؤسسات الدولة، بما في ذلك القصر الجمهوري والقيادة العامة للجيش
ومجلس الوزراء والمطار والكثير من الوزارات، فضلاً عن تمركزها في مناطق حاكمة في
مداخل مدن ولاية الخرطوم.
تشير تقديرات
عسكريين مطلعين إلى أن دولة عربية أنفقت ما بين 18 إلى 20 مليار دولار لتأهيل هذه
القوات وتطوير تسليحها، وتطوير نظم القيادة والاتصال ونظم التجسس، وتوفير المهام،
وتحسين شروط العمل فيها، وترحيل الملايين من أعراب الساحل الأفريقي للاستيطان في
السودان ليحقق استيطانهم أهدافاً كثيرة، من بينها توفير حاضنة اجتماعية للدعم
السريع وتوفير مصدر لإمدادها بالمقاتلين من داخل السودان. وبفضل هذا العمل، أضحت
هذه القوات قادرة على استقطاب سودانيين وأفارقة وبعض الأوروبيين للعمل في صفوفها،
وهذا ما تبيّن بجلاء خلال هذه الحرب.
لكل ذلك، لم تكن
هذه الحرب حرباً عبثية، كما يدعي قادة تحالف الحرية والتغيير وقائد الجيش
السوداني، إذ يشير كثير من المعطيات والوقائع إلى أن هذه الحرب جاءت بعد إعداد
طويل لقوات الدعم السريع التي تطورت قوتها العسكرية والاقتصادية كماً وكيفاً خلال
أعوام الانتقال الأربعة التي تلت سقوط نظام البشير، حتى تمكنت من تحويل تهديد
ظهيرها السياسي، تحالف الحرية والتغيير، إلى واقع ملموس يدفع السودان والسودانيون
ثمنه غالياً مع كل دم يراق، وروح تزهق، ومواطن يهجر، وعرض ينتهك، ومال ينهب، وبنية
تحتية تدمر.
لقد شنت قوات
الدعم السريع انقلابها في 15 نيسان/أبريل الماضي بعدما تأخر تنفيذها 5 مرات، إذ
كان مقرراً شنها في يوم 11/4/2021، ثم تأجل التنفيذ إلى يوم 17/4/2021، ثم تأجل
إلى 30/6/2021، ثم تأجل إلى آذار/مارس 2023 ، ثم إلى 11 نيسان/أبريل 2023، قبل أن
يتم التنفيذ بعد 4 أيام من الموعد الأخير، علماً بأن مؤسسة الجيش كانت على علم بكل
تلك التواريخ، وكانت تفشل التنفيذ بوسائل مختلفة، وأن قيادة المؤسسة تجنبت طوال
هذه المدة استخدام القوة في منع حدوث الانقلاب، وكانت ترى أن من الأسلم أن تبدأ
قوات الدعم السريع بإطلاق الطلقة الأولى لتكون للجيش الطلقة والكلمة الأخيرة.
أهداف الحرب
قبل بداية الحرب،
أعلن تحالف الحرية والتغيير، الظهير السياسي لقوات الدعم السريع، على لسان قادته
ورموزه، أن الحرب هي التي ستفرض الاتفاق الإطاري والدستور الانتقالي الجديد الذي
تم إعداده بواسطة الآلية الرباعية. وقد أكد ذلك قائد الدعم السريع حين سيطرت قواته
على السلطة في اليوم الأول للحرب، وأضاف أن اعتقال أو اغتيال قادة المؤسسة
العسكرية هو كذلك هدف رئيس لهذه الحرب.
ومع مرور الأيام،
تبدلت أهداف الحرب، حيث بدأت قوات الدعم السريع، ومنذ نهاية الشهر الأول للحرب،
تعلن أن هدف الحرب الرئيس هو وضع نهاية لدولة 1956، وهي الدولة الوطنية التي تأسست
بعد نيل السودان استقلاله، وتأسست من خلال التوافق الوطني بين أبناء السودان كافة.
نهاية هذه الدولة
يعني أول ما يعني وضع حد لاستقلال السودان، وإنهاء سيادته على أرضه، كما يعني،
وبشكل واضح، أن جغرافيا السودان التي كرستها دولة 1956 عرضة للتقسيم ومستهدفة به.
وبهذا الوضوح، ينتفي أي تفسير بسيط لأهداف الحرب يُصورها حرباً على السلطة بين
رجلين، ويؤكد ذلك تركيز الدعم السريع على تحقيق إنجازات ميدانية تخدم هدفه (القضاء
على دولة 1956).
لقد خطت قوات
الدعم السريع خلال أيام الحرب الأولى خطوات خطيرة في مسار إنهاء وتفكيك دولة 1956،
وقامت بعمليات بالغة الخطورة يمكن ايجازها في ما يلي:-
|