التوزيع:
محدود
الرقم: م ق ع 32/وثائق 2
التاريخ:
30/7/2023
المؤتمر
الثاني والثلاثون
30 – 31 تموز/يوليو
2023
بيروت - لبنان
" الديمقراطية في الوطن العربي:
مؤشرات التراجع والتقدم (2022 / 2023)"**
د. خالد شوكات (تونس)*
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* أستاذ العلوم السياسية
والعلاقات الدولية، رئيس المعهد العربي للديمقراطية بتونس، وزير وناطق رسمي باسم الحكومة
التونسية (2015/2016) ونائب برلماني سابق، كاتب وروائي.
** ** لا تعبر هذه الورقة بالضرورة عن رأي الأمانة العامة للمؤتمر
القومي العربي.
مقدمة /ملخص:
الديمقراطية والمشروع النهضوي العربي
في كتابه ذائع الصيت طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد،
يقول عبد الرحمن الكواكبي وهو أحد أبرز رموز حركة النهضة العربية الحديثة، أن
"الاستبداد أصل كل بلية". وفي المشروع النهضوي الحضاري العربي الذي
اعتمده المؤتمر القومي العربي مرجعية فكرية ترد الديمقراطية كثاني العناصر الستة
في مواجهة الاستبداد والطغيان والديكتاتورية، مباشرة بعد الوحدة التي ترنو إلى
مواجهة التجزئة والتقسيم، ولهذا لم تخل دورات هذا المؤتمر منذ انعقاد دورته
التأسيسية في تونس سنة 1990 من ورقة تقييمية للوضع الديمقراطي في الوطن العربي، لما
لهذا العنصر من أهمية في مسار المؤتمر القومي العربي باعتباره لحظة تاريخية
تصحيحية لمسيرة الحركة القومية العربية وآلية ضرورية لتحقيق حلم الأمة العربية في
استعادة مكانتها الحضارية ودورها الإنساني ورسالتها الخالدة.
ويمكن القول وفقا لما تقدم، بأن الديمقراطية هي العنصر
الأكثر تأثيرا في جميع العناصر الباقية قياسا إليها، فتحقيق الأمة لأهداف مشروعها
النهضوي الحضاري في الوحدة والتنمية المستقلة والعدالة الاجتماعية والاستقلال
الوطني والقومي والأصالة والتجدد الحضاري، مرتبط ومشروط إلى حد كبير بتحقيق
الإرادة الشعبية، وهو ما لا يمكن ضمانه عمليا إلا بوجود أنظمة ديمقراطية حقيقية
على الصعيد القطري، تمثل الشعوب العربية تمثيلا ذا مصداقية عبر عملية انتخابية غير
مشكك فيها وفقا لمعايير النزاهة والشفافية، وخاضعة لمحاسبة هذه الشعوب ومراقبتها
المستدامة، في ظل دولة مواطنة مدنية تحترم فيها حقوق الإنسان وحرياته الفردية
والجماعية وكرامته الإنسانية، وفي ظل مؤسسات حكم متوازنة على قاعدة الفصل بين
السلطات، فالشعوب مسلوبة الإرادة والمجتمعات المقموعة مهانة الكرامة، لا يمكن
التعويل عليها أبدا للنهوض بأمتها وإنتاج التقدم والحضارة.
تتطلع هذه الورقة إلى تقديم تقرير موجز ومكثف عن حال
الديمقراطية في البلاد العربية خلال السنة السياسية الأخيرة 2022/2023 قياسا
بالسنة السابقة لها بشكل خاص، وبالعقد الأخير عامة، إذ كان تقدير القوى
الديمقراطية العربية في أفق سنة 2011، إثر نجاح الثورة التونسية، وما تلتها من
انتفاضات شعبية أطاحت بأنظمة سياسية كانت في غالبيتها أنظمة شمولية أو فردية
تسلطية، أن طريق الإصلاحات السياسية والتحولات الديمقراطية أضحى سالكا، وأن حالة
"الاستعصاء" على التغيير الديمقراطي قد أصبحت من الماضي، وأن حالة
"الاستثناء" التي جعلت من الأنظمة العربية في حل من الالتزام بالمعايير
الدولية الموضوعية للحكم الرشيد والانتخابات الحرة والنزاهة والشفافية واحترام
الحريات وحقوق الإنسان، قد أمست من أحاديث التاريخ، لكن خيبات العرب أبت إلا أن
تتواصل، وعلى هذا النحو تحول الربيع المبشر إلى شتاء قاتم، والأمل الكبير إلى خيبة
عظمى، والعزم الشعبي إلى إحباط عمومي، مما جعل مؤشرات التراجع طاغية قياسا إلى
مؤشرات التقدم، التي ظهرت كاستثناء في دول القرن الأفريقي العربية، سواء تعلق
الأمر بالسنة السياسية الفارطة، أو بالسنوات السابقة عليها، خاصة بعد أن عمقت
الأزمات الدولية وتأثيراتها السلبية، من قبيل "وباء الكوفيد" والحرب
الروسية الأكرانية، الأزمة المعيشية الاقتصادية والاجتماعية في جل الدول العربية،
حتى تحولت هذه الأزمات في كثير من الساحات إلى ذرائع ومبررات لانقضاض الأنظمة على
ما تحقق خلال السنوات السابقة من بعض الإنجازات لصالح التحول نحو الدولة المدنية
والحكومة الديمقراطية.
إن أي نظرة سريعة يمكن أن تلقى على التقارير السنوية
للمنظمات الدولية والإقليمية المتخصصة في تقييم أوضاع الديمقراطية والحريات وحقوق
الإنسان والشفافية، بصرف النظر عن ذلك الجدل المثار حول دوافعها وارتباطاتها
ومرجعيتها، سيخلص بكل بساطة إلى تذيل الدول العربية لقائمات التصنيف العالمية،
وسيقف على حالة التراجع والتدهور المستمر للمؤشرات المعتمدة، وسيلاحظ أن حالات
التطور الإيجابي محدودة جدا، فالأنظمة العربية ما تزال واحدة من الأنظمة الأكثر
قمعية في العالم، حيث تمتلئ السجون والمعتقلات في عدد كبير من دول المنطقة إلى اليوم
بآلاف السجناء السياسيين ومعتقلي الرأي والمعارضة (من بينهم عدد غير قليل من أعضاء
المؤتمر القومي العربي)، فيما تعيش دول عربية منذ سنوات على وقع حروب أهلية وفتن
داخلية حولتها إلى "دول فاشلة" جزئيا أو كليا، غالبا ما وضعت خارج كل
التصنيف، فيما تحتل دول عربية ذيل القائمة في التقرير السنوي لمنظمة الشفافية
الدولية للعام 2022 والأعوام السابقة كذلك، باعتبارها "دولا فاسدة"،
وبين دول قمعية ودول فاشلة وأخرى فاسدة، تظل الحالات الايجابية العربية التي تندرج
في سياق "الديمقراطيات المحروسة أو المشروطة أو المنقوصة" حالات نادرة،
هي عدديا أقل من أصابع اليد الواحدة.
وفي خاتمة هذا الملخص لا مناص من القول، بأنه لا شيء
يمكن أن يعبر بصدق عن حال الديمقراطية العربية المأساوي، مثل اضطرار المؤتمر
القومي العربي إلى عقد دورته الحالية الثانية والثلاثين مجددا في العاصمة
اللبنانية بيروت، التي ما تزال تشكل نقطة ضوء نادرة في المجال العربي رغم الأزمة
المحتدمة والحصار المضروب، إذ تضيق غالبية العواصم العربية بطبيعة المؤتمر
التعددية واشتراطاته في أن تكون مداولاته حرة، وأن تضمن مشاركة جميع أعضائه قدوما
ومغادرة، وأن مؤشرات التطور الإيجابية على الصعيد الديمقراطي العربي قد تراجعت على
نحو طردي، وأن مؤشرات التراجع – للأسف- واضحة في أغلب الساحات القطرية.
أولا: تحديات التحول الديمقراطي:
لم تشهد المنطقة العربية خلال السنة السياسية الماضية،
2022/2023، أي تحولات نوعية أو كمية، من شأنها المساعدة على معالجة التحديات
المبثوثة في وجه التحول الديمقراطي المنشود والمطلوب لزحزحة حالة الاستثناء
والاستعصاء، إذ ما يزال الجدل قائما في الأوساط النخبوية ولدى كثير من الأنظمة
السياسية القائمة في جل الدول العربية، ومفاده أن "الديمقراطية" في
نسختها "التمثيلية الليبرالية" لا تتناسب مع مصالح المجتمع والدولة معا،
وهو ما يبرر عدم الأخذ بقواعدها في حالة الأنظمة ذات الصبغة الشمولية والتسلطية الفردية،
أو فرض قيود عليها بما يحولها إلى "ديمقراطية شكلانية" في حالة الأنظمة
التي توضع في خانة "الديمقراطيات المنقوصة والمحروسة والمشروطة".
وبالمقدور إيجاز هذا الجدل المستمر في غالبية الدول
العربية، في أربعة أنواع أنواع كما يلي:
جدل المصداقية في ظل الاستغلال الخارجي للديمقراطية:
لقد شكل الاختراق الخارجي، خصوصا من القوى الامبريالية
الدولية، لعديد الأقطار العربية بحجة الدفاع عن الديمقراطية والحرية وحقوق
الإنسان، ووقف الانتهاكات التي ترتكبها الأنظمة الاستبدادية، مدخلا مفضوحا
للاستعمار الجديد وضرب دول المنطقة والتدخل في شؤونها الداخلية بشكل سافر يتناقض
مع القوانين الدولية، خصوصا تلك المتمسكة باستقلال قرارها الوطني، والمرتبطة بمحور
المقاومة والممانعة، والداعمة لنضال الشعب الفلسطيني من أجل الاستقلال والحرية.
وقد أثر هذا التسخير للشعار الديمقراطي من قبل قوى الهيمنة، على مصداقية المشروع
الديمقراطي بشكل كبير.
جدل الديمقراطية والهوية الوطنية والقومية:
يدور هذا الجدل حول اعتقاد بعض النخب والأنظمة السياسية
في تهديد الديمقراطية التمثيلية الليبرالية لهوية بلداننا الوطنية والقومية، فهي
في بعض الحالات مدخل لفرض مفاهيم ثقافية وسيسيولوجية لا تتفق مع المفاهيم السائدة
في مجتمعاتنا وتشكل مدخلا لتفتيت التضامن الاجتماعي والمس بالسلم الأهلي وتهديد
للوحدة الوطنية خصوصا في الدول العربية ذات البنى اللغوية والدينية والطائفية
المتنوعة، حيث ارتبطت بعض حالات الانفتاح الديمقراطي ببروز أزمة الأقليات وإدارة
التنوع والدعوة إلى مراجعات دستورية وقانونية ذات صلة بثوابت الهوية الجامعة
والتوافقات التاريخية التي صاحبت غالبا قيام الدولة القطرية/الوطنية.
إن قضايا الأقليات غالبا ما ارتبطت في طرحها بالأولويات
التي تضعها القوى الديمقراطية ومنظمات المجتمع المدني وجمعيات حقوق الإنسان في تلك
البلدان على رأس أولوياتها، وتجد بسببها قدرا من الدعم والتعاطف الخارجي، وهو ما
يجعلها في أغلب الحالات تشكل مادة خصبة لدى الأنظمة السياسية لوضع المزيد من
العراقيل والمعوقات في وجه التحول الديمقراطي الممكن، بحجة الحفاظ على وجود الدولة
وهوية المجتمع.
جدل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية:
ما تزال الديمقراطية التمثيلية الليبرالية متهمة من قبل
الأنظمة والنخب على السواء، بأنها آلية بورجوازية لاستدامة مصالح الطبقات الغنية
المتنفذة، وأنها غالبا ما تكون ديمقراطية شكلانية، تركز على الحقوق السياسية فقط،
وتهمل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، فأدوات اشتغال النظام الديمقراطي تجعله
بالضرورة نظام الطبقة الرأسمالية والبورجوازية، التي تمتلك القدرة على التلاعب
بالرأي العام عبر وسائل الإعلام المملوكة لها، وتوجيه كتلة الناخبين في أغلبيتها
للتصويت للأحزاب اليمينية، فضلا عن التحكم في دور المجتمع المدني من خلال تمويل
منظماته داخليا عبر الشركات أو خارجيا عبر المنظمات والصناديق الموجودة في
أغلبيتها في البلدان الغربية.
وقد شكل الدفاع عن العدالة الاجتماعية والحقوق
الاقتصادية والاجتماعية مدخلا في عدد من الدول العربية خلال السنة السياسية
الفارطة، لتبرير مصادرة الحقوق السياسية للمواطنين وعرقلة مسار الانتقال
الديمقراطي، خصوصا في ظل تصاعد الخطابات الشعبوية دوليا واقليميا، تلك التي تعتمد
غالبا على شعارات تبالغ في إعلاء المطلب الشعبي الاجتماعي على حساب الحريات وحقوق
الإنسان والطابع الديمقراطي للحكم، فعدد من أنظمة الحكم العربية يصور الديمقراطية
باعتبارها رفاهية سياسية ليس هذا الوقت المناسب للعمل بها، في ظل أوضاع داخلية
وخارجية تهدد أغلبية المواطنين في قوتها اليومي ومعاشها، تماما كما تهدد الأمن
القومي واستمرارية المرافق الخدمية ذات الصلة بالخدمات الأساسية من صحة وتعليم
ونقل عمومي، التي تشكل أولويات الشعب فيما تأتي أولويات النخب في مرتبة ثانية.
جدل الديمقراطية والعولمة والغربنة:
النوع الثالث من الجدل المنتشر في الأوساط الرسمية وغير
الرسمية في أهم الدول العربية، أن الديمقراطية في طبعتها النيابية الليبرالية
والنيوليبرالية، ما هي إلا وصفة غربية جاهزة وعنصرا من عناصر العولمة التي تسعى
الدول الغربية المهيمنة لفرضها على البلدان النامية والمستضعفة، من بينها البلدان
العربية، بقوة المال والسلاح والنظام الدولي الجائر القائم على تمثيلية دولية
مختلة وظالمة. وعلى هذا النحو يكون الاعتراض على قواعد الديمقراطية، جزءا من عملية
الاعتراض على العولمة والغربنة باعتبارها احدى تجلياتها. ويضرب أصحاب هذا الجدل
المثل بمحاولة البعض تمرير الايديولوجية الجندرية (قضية المثلية ومجتمع الميم
مثلا، أو ما يسمى في المصطلحات الدارجة بجماعات الشواذ والمتحولين جنسيا) على
المجتمعات العربية الرافضة بشدة لهذه الأجندة، والمتشبثة بتقاليدها في اعتماد
"العائلة" (باعتبارها رجلا وامرأة متزوجين وأطفال) ناظما ونواة للمجتمع
وأساسا للعيش المشترك، خلافا للأطروحة الديمقراطية في نسختها الغربية التي تعتمد
"الفرد" ناظما وأساسا.
ثانيا: حال الديمقراطية في البلدان العربية
بحسب المنظمات الدولية المتخصصة فإن دولة عربية وحيدة
كانت إلى غاية سنة 2021 تعد "دولة ديمقراطية" ، فيما كانت جميع الدول
العربية الأخرى مصنفة في خانتين، إما دول ذات "أنظمة هجينة" أو دول
"استبدادية" محضة، لكن هذا التصنيف شهد تغييرا سنة 2022، حيث فقدت هذه
الدولة تصنيفها والتحقت ببقية الدول العربية. لقد كانت تجربة هذه الدولة كبقية
التجارب التي شهدتها بعض الدول العربية في العقود الماضية، لم تمتلك شروط
الاستدامة والاستمرارية والصمود، على نحو أعيد فيه الطائر الذي غرد خارج السرب إلى
سربه المستعصي على الحرية والديمقراطية إلى الآن.
إن أي مسح يمكن أن يجرى على الساحات العربية بالاعتماد
على المعايير العلمية في تقييم حال الديمقراطية، سيحيلنا بالضرورة إلى تصنيف
الأنظمة السياسية الحاكمة إلى خمسة أصناف رئيسية كما يلي، مع ضرورة الإشارة إلى
أن هذا التصنيف لا يمكن أن يكون صارما أو مغلقا، إذ يمكن للباحث أن يصنف بلدا
عربيا ما في خانة أو أكثر من هذه الخانات، بالنظر إلى طابع عدم الاستقرار الذي
تتسم به أغلب البلدان العربية من جهة، وكذلك إلى خصوصية الحياة السياسية وعلاقة
النظام فيه بمختلف القوى الحزبية والمدنية وتعدد العوامل الداخلية والخارجية
المؤثرة في مركز القرار من جهة ثانية.
بلدان الانتقال الديمقراطي:
وهي دول عربية أطلقت منذ سنوات مسارا للانتقال
الديمقراطي، أي التحول من نظام استبدادي سابق إلى نظام ديمقراطي منشود، بصرف النظر
عن قدرة هذه الدولة أو تلك على الالتزام بشكل صادق وموثوق بالمسار، وتقدم هذا
المسار أو انتكاسه وتعثره في الطريق، فبالنظر إلى التجارب المقارنة فإن مسارات
الانتقال الديمقراطي هي مسارات تاريخية متوسطة وطويلة المدى قد يتطلب استكمالها
عقودا، في ارتباط وثيق بصراع الجديد والقديم على صعيد المفاهيم والوسائل والمصالح.
بلدان الديمقراطية المنقوصة، المشروطة والمحروسة:
توجد بعض الدول العربية التي تتمتع بحياة شبه ديمقراطية،
إذ توجد فيها مؤسسة برلمانية فاعلة، أو صحافة حرة، أو لم تسجل فيها خروقات كبير
تعبر عن سياسة دولة لحقوق الإنسان، أو تتمتع السلطة القضائية فيها بقدر من
الاحترام، لكنه لا يمكن إجمالا تصنيف هذه الدول في نفس الوقت باعتبارها ذات أنظمة
ديمقراطية حقيقية، إذ غالبا ما تكون الحياة السياسية فيها مشروطة بخطوط حمراء مثلا
لا يمكن للأفراد أو المؤسسات تجاوزها، سواء في إطار الحق في الرقابة أو الحق في
المحاسبة، فيما تسند في دول أخرى لمؤسسات بعينها حراسة النظام السياسي، وغالبا ما
لا تكون هذه المؤسسات الحارسة منتخبة.
بلدان "الديمقراطية الطائفية":
يوجد بلدان عربيان يتمتعان بحياة سياسية تعددية حقيقية،
وبقدر لا بأس به من الحريات وحقوق الإنسان، كما يوجد فيهما تداول سلمي نسبي على
السلطة، ولكن "الطابع الطائفي" للدولة أو للنظام السياسي المعمول به، من
حيث تقاسم المناصب القيادية العليا في الدولة على أساس الانتماء الطائفي، أكان ذلك
بناء على قاعدة قانونية أو دستورية أو وفقا لتفاهمات وأعراف سياسية، جعل
الديمقراطية في هذين البلدين منقوصة والمواطنة معلولة ومكافحة الفساد الذي يحظى
بحماية طائفية مسألة شبه مستحيلة.
بلدان الأنظمة الشمولية والفردية التسلطية:
لم تتمكن حركة التحديث السياسي إلى غاية اليوم، من تغيير
طبيعة الأنظمة الاستبدادية القائمة في عدد من الدول العربية، التي غالبا ما تتحجج
بالخصوصية الوطنية وبتقاليد الحكم المستقرة فيها لعقود أو حتى لقرون، لعدم
الاستجابة لأي دعوات اصلاحية، وغالبا ما تعتمد أنظمة هذه الدول على مواردها
الطبيعية الغنية، للإفلات من أي ضغوط إقليمية أو دولية. وهي أنظمة وراثية في
أغلبها، تعتبر مواطنيها مجرد رعايا للحاكم، ولا توجد فيها انتخابات أو مؤسسات حكم
منتخبة لو بطريقة شكلية، وتعد سجلاتها في حقوق الإنسان مشينة، ولا تتوفر في أنظمتها
القضائية شروط المحاكمات العادلة، ويتم تصفية المعارضين السياسيين فيها بطريقة
همجية.
بلدان الدول الفاشلة أو شبه الفاشلة:
تعرف الدول الفاشلة باعتبارها "الدول التي لا تسيطر
على إقليمها برا وبحرا وجوا، كليا أو جزئيا"، على نحو تعجز فيه المرافق
الحكومية من تقديم خدماتها الأساسية لمواطنيها، وهي دول غالبا ما تكون ضحية حروب
أهلية أو فتن داخلية. ويكفي التذكير هنا بأن المنطقة العربية إلى غاية هذه السنة
السياسية 2022/2023 تحتوي على أكبر عدد من الدول الفاشلة أو شبه الفاشلة في
العالم. وقد سقطت دولة جديدة قبل أشهر قليلة ضمن هذه الفئة، بعد أن كان المأمول
منها الانتقال من خانة الأنظمة الاستبدادية إلى خانة الديمقراطيات الناشئة.
الجدول أ: التصنيف الديمقراطي للدول العربية
|
انتقال ديمقراطي
|
ديمقراطية منقوصة
|
ديمقراطية طائفية
|
أنظمة استبدادية
|
دول فاشلة أو شبه فاشلة*
|
الدول العربية
العدد: 22
2022/2023
|
5
|
8
|
2
|
7
|
7
|
*الدول الفاشلة وشبه الفاشلة: هي
تلك التي لا تسيطر فيها السلطة على إقليمها كليا أو جزئيا وتعيش حروبا أهلية
ونزاعات داخلية مسلحة، وهي تختلف في أنظمتها السياسية من حيث الالتزام بمعايير
الديمقراطية وقواعد النزاهة والشفافية.
ثالثا: مؤشرات التقييم الديمقراطي:
إن تقييم حال الديمقراطية بحسب المعايير المعتمدة دوليا،
يقوم على خمسة مقاييس تختلف في تراتبيتها من حيث الأهمية بحسب خصوصيات الدول
وأحجامها جغرافيا وديمغرافيا وتاريخيا، وهي كما يلي:
التمكين لمبدأ السيادة الشعبية (المؤسسة الانتخابية):
تعتبر الانتخابات الحرة والنزيهة وذات المصداقية أهم
آلية لقياس الأنظمة السياسية من حيث إضفاء الطابع الديمقراطي عليها من عدمه، ذلك
أن التمكين لمبدأ سيادة الشعب رهين وجود مؤسسة انتخابية فاعلة ومحترمة.
وخلال السنة السياسية 2022/2023 وعلى امتداد الوطن
العربي الذي تزيد مساحته الجغرافية عن 12 مليون كلومتر مربع، لم تنظم انتخابات
عامة إلا في ثلاث دول عربية فقط، كانت جميعها انتخابات برلمانية، وقد اتسمت واحدة
منها فقط بالنزاهة، فيما شكلت نسبة المشاركة الضئيلة ومقاطعة الأحزاب السياسية لها
أو طعنها في نزاهتها نقاط ضعف في الحالتين الأخريين. ويمكن القول بأن المؤسسة
الانتخابية في الوطن العربي، ما تزال من حيث معايير الجودة والنزاهة بعيدة بأشواط
طويلة عما هو معتمد في العالم، فضلا عن غياب هذه المؤسسة تماما –كما سبقت الإشارة-
في عدد من الدول العربية، التي ما تزال تعتمد آلية التعيين في المناصب العامة
ولشغل عضوية مؤسسات الحكم ومراكز القرار.
احترام الحريات وحقوق الإنسان:
بحسب مؤشر الحرية الإنسانية العالمي لسنة 2022 الذي
يعتمد 83 مؤشرا للحريات المدنية والشخصية والاقتصادية، "فقد تذيلت الدول
العربية قائمة الدول. وفي تقرير منظمة دولية أخرى غير الحكومية لسنة 2023، كشف عن
تسجيل ثلاث دول عربية لأكبر تراجع لمؤشر الديمقراطية خلال عقد، فيما حلت دولة
عربية ضمن قائمة "أسوأ الأسوأ" على الصعيد العالمي. وبحسب نفس التقرير
فإن من بين 57 دولة مصنفة ك"دول غير حرة" توجد 16 دولة عربية.
ولا يختلف الحال السيء للحريات وحقوق الإنسان في الوطن
العربي، في التقارير السنوية لمنظمات حقوق الإنسان الدولية المتخصصة لسنة 2022،
حيث تتصدر دول عربية قائمة الدول الأكثر قمعية وانتهاكا لحقوق الإنسان. إذ تمتلئ
المعتقلات والسجون في عدد كبير من الدول العربية بسجناء العمل السياسي المعارض
ومعتقلي الرأي والتعبير، كما تنتفي شروط المحاكمة العادلة في أغلبية هذه الدول،
ويضطر عدد كبير من نشطاء حقوق الإنسان والمجتمع المدني لمغادرة أوطانهم، إما خوفا
من الملاحقات الأمنية والقضائية، أو هربا من الحروب الأهلية، أو لعجزهم عن القيام
بدورهم ووظائفهم.
التداول السلمي على السلطة:
تميزت السنة السياسية 2022/2023 بتواصل تشبث جل الأنظمة
السياسية الحاكمة بمواقعها، على الرغم من انتفاء شرعيتها كليا أو ضعفها، جراء عدم
وجود آلية انتخابية أو عجزها عن تنظيم انتخابات، أو بسبب الطعن في مصداقية
الانتخابات إن جرى تنظيمها. كما اتسم الوضع السياسي في بلدين عربيين، على رغم من
مضي أكثر من سنة على تنظيم أخر انتخابات برلمانية فيهما، بالعجز عن الخروج من
الأزمة السياسية المحتدمة، وعن عدم التمكن من تشكيل حكومة أو انتخاب رئيس
للجمهورية. وعموما فإن العرب قد واصلوا العمل بتقاليدهم في التشبث بالسلطة وفي محدودية
قدرتهم على التداول بشكل سلمي وحضاري على مواقع المسؤولية العمومية.
التزام معايير الشفافية والنزاهة والحوكمة الرشيدة:
ينظر إلى "الفساد" بأنه قرين
"الاستبداد"، وبحسب التقرير السنوي لمنظمة "الشفافية الدولية"
لسنة 2022، وهي منظمة غير حكومية يوجد مقرها في برلين وتعنى بمكافحة الفساد، تحتل
دول عربية قائمة الدول الأكثر فسادا في العالم، وتقدر بعض المنظمات غير الحكومية
حجم الفساد في الوطن العربي بحوالي ترليون دولار سنويا. حيث لا تتوفر جل الأنظمة
العربية على ترسانات تشريعية وآليات قانونية ومؤسساتية لمكافحة هذه الآفة الفتاكة،
فيما تقوم أنظمة سياسية أخرى على قاعدة إدارة الفساد وتوزيع فيئه بدل محاربته.
وبحسب خبراء التنمية فإن الفساد هو أخطر ظاهرة عامة تحول دون قدرة جل الدول
العربية على وضع مخططات ومشاريع للتنمية مستدامة.
اعتماد قواعد التشاركية واللامركزية:
من أخر المعايير التي جرى تطويرها واعتمادها في تقييم
الأنظمة السياسية ديمقراطيا على الصعيد الدولي، هو اعتماد قواعد التشاركية (بمعنى
توسيع دائرة القرار لتشمل أكبر عدد من المواطنين)، وآليات الحكم اللامركزي لتقريب
السلطة من المواطن وتبني وسائل أكثر فاعلية في مستوى تقسيم الس |