التوزيع:
محدود
الرقم: م ق ع 32/وثائق 4
التاريخ:
30/7/2023
المؤتمر الثاني
والثلاثون
30 – 31 تموز/يوليو
2023
بيروت - لبنان
"الوطن
العربي بين الأصالة والتجدد الحضاري والتغريب..
المعطيات والتحديات خلال
عامي 2021-2022"**
د. المصطفى المعتصم (المغرب)*
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* باحث، أستاذ جامعي، أمين عام حزب البديل الحضاري
المغربي
** لا تعبر هذه الورقة بالضرورة عن رأي الأمانة العامة للمؤتمر
القومي العربي.
الوطن العربي بين الأصالة والتجدد الحضاري والتغريب.. المعطيات والتحديات
خلال عامي 2021 - 2022
سؤال "التجدد
الحضاري" يطرح اليوم بقوة
أمام التحديات والأزمات الاقتصادية والاجتماعية والمشاكل البيئية وفشل
مخططات التنمية، وأمام انتظارات الشعوب في المنطقة العربية، وفي سياق التحولات
الجيواستراتيجية العالمية المتسارعة ومناخ عالمي متسم بالصراع بين قوى عالمية تسعى
لبناء نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب وقوى تسعى للمحافظة على النظام الوحيد القطبية بقيادة أمريكا . لكن يبدو أن
الدول العربية لم تحسم أمرها في
الدور الذي يمكن أن تلعبه مستقبلا في ظل
النظام العالمي الذي سيعرفه العالم بعد انتهاء الحرب في أوكرانيا . هل ستظل دولا
خاضعة، منهوبة الخيرات، وسوقا استهلاكية ومختبرا للفوضى الهدامة تخضع لمشاريع
التفكيك، وميدانا لصراع القوى العالمية الكبرى ؟ أم سيكتسب العرب ، وسيلة لإطلاق
ديناميات التقدم و التجدد في عمرانهم الاجتماعي والثقافي على النحو الذي يؤهلهم
للحاق بغيرهم من الأمم المعاصرة التي أخذت بحظ من المدنية الكونية ، وعلى النحو
الذي يحفظ لهم خصوصيتهم الثقافية والقيمية (التجدد الحضاري).مما يؤهل الأمة العربية لأن تكون
فاعلة مؤثرة تحتل مكانة تليق برصيدها الحضاري التاريخي؟
لتحقيق التجدد الحضاري،
هناك، على الأقل سببان لا بد من التحرر منهما(1):
- ما يعانيه الوطن العربي
تأخرا فادحا في البنى الثقافية والاجتماعية نتيجة تراكمات حالة الانحطاط المزمنة فيه والمنحدرة منذ قرون . سيادة الجمود الفكري والتكلس العقلي
وتراجع العقل الاجتهادي وسيطرة التقافة النصية والأفكار التي تدعو إلى الانكفاء
إلى الأصول – مفهومة يوصفها حقائق مطلقة -وتقديس التراث ـ وهيمنة الخرافات
والنزاعات التواكلية ـ ورفض الآخر والانكماش الذاتي والتشرنق على الهوية ...وهيمنة
القيم القبلية والعشائرية والطائفية والمذهبية على حساب القيم الوطنية والمعنى
العصري للأمة واحتقار العمل والميل إلى الدعة والكسل وعدم التحلي بروح المسؤولية. . (2)
- ما يعانيه الوطن العربي أشكالا بائسة من
الحداثة الرثة في البنى نفسها ( الثقافية والاجتماعية ) نتيجة اصطدامه بالغرب . وما أحدثه ذلك الاصطدام
من ظواهر شوهاء في بناه: احتقار الذات والموروث ، التغريب ، التماهي مع الغرب ،
جلد الهوية ، الهجزم على الدين ، انتشار القيم الاستهلاكية ، المادية الغرائزية ،
الفردانية المفرطة ، تفكك الأسرة ، تحلل منظومة القيم ....(3)
لمعالجة معيقات التجدد الحضاري انقسم المفكرين والمثقفين العرب إلى مطالبين بالعودة
إلى الأصالة وإلى قائلين بأن من أسباب فشل الحداثة في تحقيق ما أنجزته في الغرب بالوطن العربي أننا لم ننجز القطيعة النهائية مع الأصالة
والثرات ولا زلنا في حاجة إلى المزيد من التغريب . في رأيي المتواضع فإن الوطن العربي ليس بين خيارين:
الأصالة أوالتغريب بل هو خيار واحد: يجب أن يكون في صلب الأصالة وفي مواجهة
التغريب.
·
مقاصد العودة إلى الأصل
المطالبة بالعودة إلى "الأصالة" أو " الأصل" يُقصد بها ارتباط الشيء
بأصله والوصول إلى جوهره وحقيقته، وهي لا تعني الركون للموروث أو جعله حجة بذاته ،
وما ضل المشركين إلا عندما جعلوا ما يتوارثونه عن آبائهم حجةً في ذاته، رافضين
الجديد : {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ
نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۗ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا
يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} (البقرة: 170). قال القرطبي: “التقليد ليس
طريقًا للعلم ولا موصِّلاً له؛ لا في الأصول ولا في الفروع"(4) .
الأصالة
ليست هي الثرات والثرات ليس معيارا
لها و إن كان بعض الثرات من الأصالة،
وليست دعوة إلى العودة إلى سلفية متطرفة،
منغلقة ، التي تستدعي الماضي للجواب على أسئلة الحاضر وتحدياته. لكنها دعوة للعودة
إلى النصوص المؤسسة للقيم والمبادئ التي أكدتها الرسالات السماوية و التي تدعو إلى
تحرير الإنسان من كل ما يشده إلى الوراء وإقامة مجتمع العدل الرافض للظلم ، وتبني
القيم المحرضة على نصرة المستضعفين و
مقاومة الاستعمار وهي أيضا مشروع معارضة سلمية ضد الفساد و الاستبداد. العودة
للأصالة معناها تحرير مفهوم السياسة من غبش
التصورات الفاسدة التي تعتبرها وسيلة لتحقيق المصالح الفردية ومطية للنخب الفاسدة
وليس القيام على الشيء بما يصلحه وتعني العمل على صناعة الإنسان الكادح الذي يرفض الاتكالية، المتشبع بالأمل، الحريص على أن
لا يخرق سفينة المجتمع أو يسمح لغيره
بخرقها، الذي لا يتسرب إليه الوهن والضعف حتى عندما تتكالب على وطنه الأمم و يتداعي
عليه الأعداء كما يجسد ذلك اليوم الشعب الفلسطيني.
الأصالة هي دعوة
لكي يكون الإنسان شاهدا على عصره، حريص على التشبت بتمام مكارم الأخلاق. وهي دعوة
لحماية الأسرة والتصدي لدعوات الاجهاز عليها. و دعوة إلى تقوية التعاون والتكافل
داخل المجتمع ومقاومة الفردانية والاستهلاكية
والجشع أي التصدي للقيم الفاسدة التي تحاول العولمة النيوليبرالية فرضها
على شعوب العالم.
الأصالة مع الوحدة :( إِنَّ هَٰذِهِۦٓ أُمَّتُكُمْ
أُمَّةً وَٰحِدَةً وَأَنَا۠ رَبُّكُمْ فَٱعْبُدُونِ) (الأنبياء 92 ) وضد التفرقة :
( وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ
وَكَانُوا شِيَعًا .. ) (الروم 32 ). و ترفض الاكراه في الدين: (لَا إِكْرَاهَ فِي
الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ۚ )( البقرة 256 ) وتدفع إلى
استيعاب الاختلاف والتعدد الديني والطائفي
و المذهبي و القبلي و الاثني و الجهوي: (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ
أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ
وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ) (هود 118)
الأصالة دعوة إلى الانفتاح على الشعوب والحضارات الأخرى
و طلب العلم ولو في الصين، والتأكيد على أهم خصائص الإسلام أي" العالمية " "وما أرسلناك
إلا رحمة للعالمين" الأنبياء 107..والغاية من اختلاف الشعوب والألوان والألسن
والحضارات هي التعارف، " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم
شعوبا وقبائل لتعارفوا.."( الحجرات13). ولا تعارف من دون لقاء وحوار من أجل
التعاون على الخير والعدل وعمارة الأرض. والتاريخ يخبرنا أن المسلمين الأوائل
استفادوا في تنظيم دولتهم من نظام الدواوين الفارسي وفي تنظيم جيشهم من الرومان،
كما استلموا الحضارة والعلوم من الإغريق والهنود والفرس والصينيين ليطوروها ويجعلوها حضارة العلوم
التجريبية بعد أن كانت جل العلوم حرفا أو علوما تجريدية. وأكيد أنه يتوجب علينا
اليوم أن نستفيذ مما يتيحه لنا التحديث
الابن الشرعي للحداثة، من فرص تحسين مستوى العيش والرقي العمراني . هكذا تكون
الترجمة الفعلية للتوجيه الرسالي: ''الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق
بها" سواء كانت نصرانية أو يهودية أو بوذية، أو علمانية وحداثية . هذا ما جعل
الحضارة العربية الإسلامية حضارة مستوعبة
ساهم فيها عرب وتركمان وفرس ومغول وهنود وأفارقة وأمازيغ وأكراد وأندلسيون، كما
ساهم فيها المسيحيون واليهود. فمن لم تستوعبه
العروبة استوعبه الإسلام أو استوعبه الانتماء للحضارة العربية
الإسلامية.
·
تحديث
لا للتغريب
لقد تعلم الغرب من خلال صراعه الطويل مع الأمة العربية
والإسلامية أن استدامة هيمنته وضمان
مصالحه في المنطة العربية والإسلامية
وضمان وجود ومصالح ربيبته إسرائيل لن يتأتى ما بقي الإسلام والمقومات الحضارية للأمة عامل تحريض على
المقاومة والصمود والتحرير. فعمد خلال
فترة الاستعمار إلى نهج سياسة التغريب
التي تبنتها بعد اندحاره ، نخب أعدها لاستلام حكم
بعد خروجه. طبعا للحداثة حسناتها ومساوئها لكن النخب التي تحاول فرض الحداثة قسرا
ببلداننا يتجاهلون عمدا ،لأسباب
أيديولوجية حينا أو لارتباطات بدوائر استعمارية حينا آخرا، خلاصات عدد من مفكري الغرب حول الحداثة وما بعد الحداثة والعولمة، من أمثال يورغن هابرماس و نعوم تشومسكي و سيجموند
بومان وأولريش بيك وأنتوني جيدنز ونيكلاس لومان وألان توران و أليكساندر دوغين
وأليكساندر زينوفييف وكل الرافضين للعولمة Altermondialistes غيرهم .. اللذين وصلوا إلى قناعة أن عصر الحداثة بكل آلياته
الاقتصادية و السياسية و العسكرية و الثقافية قد انتهى بالعالم إلى افلاس
قيمي و ضياع هوياتي و توحش سياسي و بؤس
اقتصادي وأزمة الديموقراطية...
التقدم العلمي والتكنولوجي وهندسة المدن العصرية ووسائل
النقل حداثة ، لكن الاستعمار وإبادة
الهنود الحمر وتبذير الثروات الطبيعية
والحربين العالميتين و البنك الدولي
والمديونية و الكوارث البيئية والجوع و الفقر و الأوبئة و الفيروسات الفتاكة و
الأسلحة الكيمياوية و النووية و صناعة التطرّف الديني والاٍرهاب و التمزق الهوياتي
و إسرائيل ونكبة الفلسطينيين أيضا حداثة.
يستهدف التغريب " إقناع الأمة الشرقية أنها متخلفة
في جوهرها متخلفة في تاريخها وصميم تكوينها، ومن ثم لا بد من انسلاخها تماما عن كل
ما يربطها بماضيها ويميز ذاتها وإعادة تشكيل المجتمع على الطراز الغربي من ناحية
العادات والمظاهر السلوكية مع إبقائه متخلفا عاجزا عن اكتساب معرفة الغرب. فإذا ما
اكتسب بعض أفراده هذه المعرفة، يجدون أنفسهم عاطلين عن العمل في مجتمعهم فيضطرون
إلى النزوح إلى عالم المتفوقين.. والمجتمع المُغرًب،هو ذلك المجتمع الذي تزدحم
طرقاته بأفخر وأحدث السيارات المستوردة وتضم مدنه أفخم دور الأفلام المستوردة
ويرتدي ُ أهله أحدث المنسوجات المستوردة وعلى أحدث الموضات الغربية ويثرثر مثقفوه
في قاعات مكيفة- بمكيفات مستوردة- في مشاكل المجتمع الغربي وآلامه ويملؤون صفحات
من ورق مستورد تطبع بحبر مستورد بآلات مستوردة، حول قضية الوجودية ومسرح اللامعقول
والجنس الجماعي وتطور حركة الهيبيز، على بعد خطوات من كهوف مواطنيهم حيث
البلهارسيا والكوليرا والتراكوم وكل تراكمات التخلف منذ القرن السابع عشر.... وإذا
كان التغريب بهذه الحمولة الفارغة فإنه بالنتيجة نقيض التحديث، فالتحديث هو امتلاك
كل المعرفة التي يتفوق بها الغرب وإنتاج كل المعدات التي ينتجها الغرب. وكل ما
تحتاجه أمة من الأمم لتحقيق التحديث، هو إرادة قومية ونظام صالح قادر على تعبئة
هذه الإرادة وتوجيهها في طريق التصنيع أو التحديث إذا كان البلد مستقل، أو في طريق
تحرير الإرادة القومية عبر حرب التحرير الوطنية.." (5).
الادعاء أن التحديث والتغريب متلازمتان لا يفترقان،
يكذبه التاريخ. فتركيا أتاتورك سلكت نهجا تغريبيا قسريا لشعبها وتنكرت لانتمائها
للحضارة العربية والإسلامية ولم تترك صغيرة ولا كبيرة في الغرب إلا وقلدتها لكنها
ظلت دولة متخلفة يفتك بها الفقر، وترتفع
بها نسبة الأمية . لم يستطيع التغريب في
تركيا أن يحقق في عقود ما حققته الأردغانية في سنوات. وما يقال عن تركيا
أتاتورك يقال عن إيران الشاه. لكن الثورة
الأسلامية أعادت إيران إلى أصالتها وقيم حضارتها العربية الإسلامية وبالرغم من
الحرب و الحصار في جل المجالات، خصوصا الاستراتيجية، نجحت إيران
بإصرار وعزيمة قادتها وعلمائها وباحثيها و شعبها في ردم الهوة العلمية
والتكنولوجية مع الغرب وأصبحت قوة إقليمية
مهابة الجانب تسعى لأن تلعب دورا رياديا في النظام العالمي قيد التشكل.
عام 1853 استيقظ اليايانيون على دوي مدافع الكومودور
ماثيو كالبرايث بيري، الأمريكي، ليطرحوا ذات السؤال الذي طرح في العالم العربي
والإسلامي : لماذا تقدم الغرب وتخلفنا؟ اختار اليابنيون أن يسلكوا سبيل التحديث لا
التغريب فنقلوا العلوم والتكنولوجية الغربية من دون أن يفرطوا في هويتهم الحضارية،
فاستطاعوا تدارك التفوق الغربي بل تجاوزوه.
أما
الصين التي تتطلع اليوم إلى أن تصبح القوة
العالمية الأولى، فقد تبنت من القديم والحديث كل ما يساعدها وينفعها. وزاوجت بوعي
بين الثقافة التقليدية والكونفوشية وخصوصية اشتراكيتها والتحديث العمراني
والتكنولوجي الغربي فحققت المعجزة الاقتصادية والتكنولوجية.
·
التجدد
الحضاري ونهاية الصراع بين قوى وطنية
وإذا كان من المستحيل
تصور انجاز التجدد الحضاري بوجود نخب حاكمة تجمع بين التيهان والرداءة وانعدام
الكفاءة، فإن ما يحز في النفس هو أن يستمر
الصراع بين قوى وطنية ( قوميين وإسلاميين ويساريين وليبراليين غيرعولميين) لا
يخدم إلا أجندات المستبدين والفاسدين والرجعيين
والصهاينة والاستعمار. لقد آن الأوان في ظل ما يجري من تحولات عالمية قد
تكون تداعياتها خطيرة على أوطاننا - خصوصا إذا ربح الحلف الأطلسي الحرب في
أوكرانيا - لتدشين حوارات صريحة و فتح
المجال للعمل على تجاوز حالة التوتر والشك بين هذه القوى الوطنية و للتفاهم على
برنامج أولويات في حده الأدنى . من جهة أخرى إذا كان هناك وعي بأن الصراع بين
الحاكمين والمحكومين في أوطاننا يشكل أكبر مدخل من مداخل الاستعمار لتمرير مخططاته
التخريبية فإن من عزم الأمور فتح حوارات جادة لانجاز المصالحات الوطنية الحقيقية
على قاعدة ارساء حياة سياسية سليمة، تمنع احتكار السلطة وتضمن التوزيع العادل
للثروة وتجعل حدا للفساد والمفسدين وتضع معالم مشروع نهضوي حقيقي يليق بطموحات
أمتنا.
نحن اليوم في حاجة إلى استحضار تجربة لاهوت التحرير
واليسار في أمريكا الجنوبية. فلضمان
استمرارية هيمنة الولايات المتحدة
الأمريكية في هذه القارة عمدت أجهزة مخابراتها
من جهة على إذكاء الصراع بين الأنظمة العسكرية و الشعوب و من جهة أخرى
استغلت تديُّن الشعوب اللاتينية للإيقاع
بينهم وبين اليسار الماركسي . وبعد صراعات دموية استمرت لعقود وصل الحاكمون
والمعارضون إلى قناعة أن لا حل لدولهم سوى تحقيق المصالحات الوطنية والاتفاق على
دمقرطة الحياة السياسية. كما اقتنعت الكنيسة واليسار أن استمرار الصراع بينهما لم
يكن يخدم سوى الاستبداد و الأجندة الاستعمارية.
وقد كانت اجتهادات قساوسة و أساقفة
لاهوت التحرير من أهم أسباب إفشال المخططات الاستعمارية إذ عادوا إلى سيرة رسول
الله عيسى عليه السلام كنصير للمستضعفين
مما مكنهم من إعادة النظر في قيمة الدّين وفي الدور الذي يمكن أن يلعبه في حياة
البشر فجمعوا بين القيم الدينيَّة المسيحية
والاهتمام بمتطلّبات الحياة الماديَّة وأجابوا من خلال مرجعيتهم المسيحية
عن المشكلات الاجتماعيَّة والسياسيَّة الناتجة
عن الاستبداد والفساد والفقر والظلم الاجتماعي. وبذلك قطعوا مع التحالف بين الكنيسة و السلطة السياسيَّة
الفاسدة والكنيسة والمخابرات الأمريكية.
كما ساهم نضج الحركة اليسارية أيضا في تفويت الفرصة على الاستعمار و
الاستبداد في توظيف ورقة الإلحاد ضدها لعزلها عن بيئتها إذ أصبحت تركّز على
الإصلاحات اجتماعية والاقتصادية وتحرير
القرار السيادي لدولها و الاهتمام بقضايا البيئة والتغيرات المناخية ووضع
المرأة..، والدعوة للوحدة الوطنية والحوار والسلم الاجتماعي والابتعاد عن الشعبوية
ورفض تقسيم المجتمع إلى ثوريين ورجعيين ، متدينين وملحدين، حداثيين وتراثيين. وكان
حصاد هذا التقارب بين لاهوت التحرير
واليسار هو انتصار الوحدة على التجزئة
وهزيمة الأمركة. وقد جسد نجاح هته
التجربة هوغو شافيز حينما خرج حاملاً الإنجيل بيد وكتاب رأس المال لماركس باليد
الأخرى: الاشتراكية والمسيحية معاً.
محور المقاومة نموذج قريب من تجربة لاهوت التحرير
واليسار لكن على الصعيد الإقليمي . ففيه
نجد الإسلاميين: الجمهورية الإسلامية الإيرانية وحزب الله اللبناني والجهاد
الإسلامي وحماس الفلسطينيتين وأنصار الله اليمنيين والحشد الشعبي العراقي ، كما
نجد القوميين : ناصريين وبعثيين .. و نجد مكونات من اليسار العربي خصوصا الفلسطيني
. لكن هذا النموذج يجب أن يتوسع ليجمع كل المهمومين بقضايا الأمة وفي مقدمتها قضية
فلسطين في كل ساحة عربية على حدة . وشخصيا أعزو بعض التراجع
في تفاعل الساحات القطرية بالشكل المطلوب في هذه المرحلة المفصلية مع قضايا
الأمة ونجاح أصحاب الأجندات المشبوهة وفي مقدمتهم المطبعين في اختراق أوطاننا إلى
انشغال القوى الوطنية: الإسلامية والقومية واليسارية والليبرالية غيرعولمية في
الصراعات البينية والجانبية .
في إيران وتركيا صيغت هوية البلدين في انسجام تام بين الانتماء للإسلام ونزوعاتهما القومية. وهذا
أمر كان
العرب أولى بأن يحققوه ، إن لشيء
فلأن الإسلام عربي التربة، ولأن العروبة حجر الرحى في بنيان شرق مسلم (6). من هنا تأتي ضرورة صياغة مشروع قومي إسلامي عربي بهوية جامعة تستوعب
التنوع اللغوي والعرقي والديني والطائفي يؤكد الانتماء للوطن، و الانتماء للأمة
العربية والإسلامية .
·
هوية جامعة مستوعبة للهويات الفرعية
تؤكد التجربة التي عاشتها الدولة القطرية بأن الاستعمار
ينظر لكل المحاولات الوطنية الصادقة للانعتاق من التخلف والتبعية بقلق ويسعى لإفشالها، بل يسعى اليوم لزرع الفوضى في هذه الدول بهدف بلقنتها إلى كيانات قزمية مستغلا الهويات
الفرعية : الإثنية والطائفية والمذهبية، التي تبرز عادة عندما يضعف الانتساب
للهوية الجامعة، هوية الحضارة العربية
الإسلامية المستوعبة لكل الهويات الفرعية . هوية لا فرق فيها بين الأبيض والأصفر
والأسود، يتعايش فيها المسلم والمسيحي الشرقي واليهودي غير الصهيوني في أمن وأمان.
لقد كان الإسلام ثورة جبارة في تاريخ الإنسان. ذلك أنه
قدم إجابات وجودية عقدية عميقة وبسط بين يدي الإنسان معنى العنصر الجامع للإنسان
باعتباره إنسانا يتعالى عن محددات جزئية في ذاته وكينونته لصالح المعنى الأعم ذي
الطابع الفكري والفلسفي وبالموازاة أعطى لتلك الأبعاد الأخرى الفرعية مكانتها
الطبيعة، فالعرق والأرض واللسان ولون البشرة والتاريخ.. أبدا ليست المحدد الأساس
لمعنى الإنسان في هويته الشخصية الفردية وامتدادها الجمعي بل هي مجرد إطارات ضمن
إطار أعم هو المبدأ الفلسفي الفكري المتمثل هنا في إجابات الإنسان عن أسئلة الوجود
الكبرى التي تحدد هويته وسلوكه بصفة عامة، فلا فرق بين عربي وعجمي إلا بالتقوى،
وكلكم من آدم وآدم من تراب. وداخل هذا التحديد الهوياتي الواضح أعطى الإسلام لكل
التشكلات الإثنية والعرقية واللهجية حقها في التعبير عن تمثلها لمقاصد الدين
الكبرى، من هنا كانت اللوحة الفسيفسائية البديعية التي انطلقت من قلب الجزيرة
العربية لتتشكل في تنوعاتها الكبرى في مصر والعراق والمغرب والسودان والأندلس
والهند والمالديف وماليزيا.. إلى هذه الهوية الجامعة كانت شعوب الأمة العربية والإسلامية تعود كلما تعرضت لتهديد
جارف لتكتسب المناعة ولتتحصن وتكون أكثر قدرة على مقاومة الاحتلال ومخططات الإلغاء
والمصادرة (7) .
الدعوة للعودة إلى الهوية
الجامعة، هي إذن دعوة لتحرير الأمة مما ران عليها من ركام التأويلات الفقهية
الشاذة التي أنتجت التطرف والإرهاب والانتصار للطائفية والمذهبية والتصورات
الفاسدة أو تلك التي تجاوزها الزمن ولم تعد تناسب تطور المجتمعات والعصر.
نعم الهوية الجامعة لن تكون إلا هوية مرنة لكي نتمكن من
نزع الألغام التي يزرعها الاستعمار لتمزيق وحدة أوطاننا. وأخطر هذه الألغام
المؤامرت للإيقاع بين السنة والشيعة مما يستوجب تعميق الحوار السني- الشيعي للحيلولة دون تحول التنوع
المذهبي إلى فخ يهدد وحدة الأمة ولكي يكون
هذا التقارب لبنة من لبنات المشروع حضاري للأمة. كما يحاول الاستعمار
استغلال مطالب الحركات الكردية
والأمازيغية والزنجية، لاثارة الفتنة في أفق إعادة رسم خريطة العالم العربي
ضمن حدود الدم. مما يفرض القاء السمع إلى الوطنيين من أبناء هذه الأقليات العرقية،
المؤمنين بالانتماء إلى الهوية الجامعة، لإيجاد الصيغ المناسبة للتفاعل مع مطالبهم
كي نقطع الطريق على المتآمرين و الاستعمار .
ومن المفروض اليوم على قوى النهوض والتحرر إبراز
واستحضار قيمة وأهمية الدين الرسالي في معركة تحرير فلسطين وفي تحريض وتعبئة الأمة
لتحرير القرار السيادي وفي معركة التحضر
والتمدن. أي جعل الدين أول خط للمقاومة : مقاومة
الاستعمار والتخلف والرجعية والتكفيرية والفساد والاستهلاكية والاتكالية
والسلبية والخنوع والجشع والاستحمار...فإن لم تفعل قوى التغيير الوطنية ذلك
فستستثمر الرجعية والاستعمار في توظيف
الدين في الاتجاه المعاكس.
·
مؤشرات
التجدد الحضاري : تقدم أم تراجع؟
تعددت مؤشرات التجدد الحضاري ومقاييسهما
التي اعتمد عليها الباحثون والمُتخصصون في المجال الاقتصادي والاجتماعي والسياسي
والتقني، نظرًا لاختلاف تصوراتهم للتخلف والنهوض. وبإمكاننا هنا طرح أهم المؤشرات
المعتمدة عالميًا من قِبل الأمم المتحدة ومنظمات أخرى مُعترف بها دوليًا، وتشمل
مؤشرات اقتصادية، واجتماعية، وسياسية، وتكنولوجية.
Ø
على
المستوى السياسي :
لا زالت الأوطان العربية في جملتها قلاع تتحكم فيها نخب تجمع في عمومها بين للفساد(8) والاستبداد(9) .
عوض الاستثمار في الإنسان ليصبح صانع النهضة والتقدم سلكت النخب السبل السهلة للتنمية واتسم أدائها تارة بالتجريبية و محاولة تقليد
تجارب تنموية غريبة النشأة والتطور وتارة
أخرى اعتمدت مخططات تنموية ريعية باءت
جميعها بالفشل فلجأت إلى المديونية لتصبح رهينة للوصفات المسمومة للبنك الدولي.
مما أصبح يطرح بالحاح سؤال استقلالية القرار السياسي والاقتصادي للعديد من الدول
العربية .
خلال
2022-2023، وبالرغم من المناخ الإيجابي الذي ساد العلاقات العربية العربية
حيث استعادت سوريا مقعدها في الجامعة
العربية ومشاركة الرئيس بشار الأسد، في القمة العربية32 في جدة، يوم 19 مايو2023.
وبالرغم من عودة العلاقة بين السعودية وإيران في مارس 2023 مما قد يساهم في بناء نظام إقليمي في الخليج و
الأمل في أن يساعد التقارب السعودي الإيراني على إنهاء الحرب في اليمن . فإننا نرصد العديد من المؤشرات
السلبية المهددة لوحدة البلدان ولاستقرار المنطقة العربية وتقدمها.
ففي ظل استمرار أجواء اللاحرب واللاسلم في اليمن وازدياد
نفوذ الكيان الصهيوني في جزيرة سقطرى اليمنية الخاضعة للنفوذ الإماراتي في ظل غياب
حل سياسي للمعضلة اليمنية يبدو أن هناك مؤامرة تستهدف وحدة اليمن وفصل جنوبه عن
شماله . نفس الأمر ينطبق على الوضع في السودان، حيث إن الحرب
بين عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة الانتقالي ومحمد حمدان حميدتي قائد قوات الدعم السريع قد
تؤدي إلى إعادة تقسيم جديد للسودان.
على المستوى المغاربي، وفي أجواء التوتر الشديد بين المغرب والجزائر ودخول
البلدين في سباق تسلح هناك تخوف كبير من اندلاع نزاع مسلح بينهما
قد يضر بالتأكيد بوحدتهما. كما أن
الوضع في ليبيا وتونس يدعو للقلق.
أما في فلسطين فإن وتيرة انتهاك الحرم القدسي من طرف جيش الاحتلال والمستوطنين قد زادت بشكل
لافت. حيث نشهد يوميا اقتحام المخيمات والبلدات والمدن في الضفة آخرها اقتحام جنين
و القيام بالاغتيالات والاعتقالات وهدم البيوت واطلاق يد المستوطنين ليعيثوا في
الأرض فسادا. طبعا لم تقف المقاومة مكتوفة الأيدي وردت على جرائم إسرائيل بقوة مما
دفع نتياهو إلى إطلاق عملية "السهم الواقي" يوم 9 مايو 2023 ضد غزة ردت عليها الغرفة المشتركة لفصائل المقاومة الفلسطينية
بعملية "ثأر الأحرار". وبالتأكيد أن ما يشجع الصهاينية على العدوان هو تخاذل النظام العربي
الرسمي الغارق جله في مستنقع التطبيع وردود الأفعال الضعيفة للشعوب العربية
ولامبالاة المنتظم الدولي الذي لا يتعدى موقفه الإعلان عن الأسف لما يجري في الضفة
و غزة.
كما نسجل تزايد التضييق على الصحافة(10) و استمرار
وارتفاع وتيرة عدم احترام حقوق الإنسان. ولعل أكبر اتنهاك لحقوق الإنسان سجل هذه
السنة في الوطن العربي، بالاضافة إلى الوضع الإنساني المأساوي في اليمن والسودان ، هو استمرار
الحصار على سوريا ومنع وصول المساعدات الانسانية إليها وتأخر بعض الدول العربية عن
تقديم الدعم للشعب السوري المنكوب بالزلازل المدمرة.
Ø
على
المستوى الاقتصادي:
بعد انتعاشة سريعة للاقتصاد العالمي نتيجة جائحة كورونا
سادت أجواء من عدم الثقة من جديد في
مستقبل الاقتصاد العالمي بسبب الحرب في أوكرانيا وهو ما دفع صندوق النقد الدولي لخفض توقعاته لنمو اقتصادات
منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا للعام الجاري (2023) إلى 3.1% مقابل 3.2% في
توقعات سابقة مقابل 5،4 % لسنة
2022(11). كما ارتفعت نسبة التضخم إذ اعتبرت مؤسسة
"برايس ووترهاوس كوبرز"،
البحثية البريطانية في تقرير "مرصد اقتصاد الشرق الأوسط - مايو
2023" ، إلى أن معدلات التضخم في دول مجلس التعاون الخليجي في طريقها إلى الانخفاض
إذ سجلت 3.5% في فبراير الماضي، مع توقعات بتسجيل 2.9% في نهاية العام الحالي، على
أن يتراجع المعدل إلى 2.35% في عام 2024.
أما الدول العربية من خارج مجلس التعاون فستواجه معدلات تضخم أعلى ، حيث سجلت 24.3% في فبراير الماضي، وقد تصل
إلى 13.3% عن العام الحالي برمته، فيما من المتوقع أن يتراجع التضخم فيها إلى 9.8%
في 2024. وفي تفاصيل معدلات التضخم في
فبراير، فقد جاء لبنان في المرتبة الأولى بمعدل تضخم كبير جداً وصل إلى 190%،
وبعده مصر بـ31.9%، والعراق 6.45%، فالإمارات 4.7%، وقطر 4.4%، أما أقل الدول
تسجيلاً للتضخم فهي البحرين 1.1%، وبعدها سلطنة عمان 1.9%، ومن ثم السعودية
3%..(12) .
Ø
على
المستوى الاجتماعي:
|