التوزيع:
محدود
الرقم: م ق ع 32/وثائق 6
التاريخ:
30/7/2023
المؤتمر
الثاني والثلاثون
30 – 31 تموز/يوليو
2023
بيروت - لبنان
"في
الاستقلال الوطني والقومي"**
د. يوسف مكي (السعودية)*
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* كاتب، عضو
الأمانة العامة للمؤتمر القومي العربي
** ** لا تعبر هذه الورقة بالضرورة عن رأي الأمانة العامة للمؤتمر
القومي العربي.
في
الاستقلال الوطني والقومي
د. يوسف مكي (السعودية)
الاستقلال
الوطني والقومي، هو أحد المبادئ الستة التي تبناها المشروع النهضوي العربي، كسبيل
لتقدم الأمة وتحقيق وحدتها. ونعني به ليس الاستقلال بمفهومه التقليدي والدارج،
الذي كان من نتائجه عودة الاستعمار الجديد، وتحقيق اندماج اقتصادي وتبعية سياسية
مع عواصم الغرب، بل أن تكون الأمة قادرة على الإمساك بمقاديرها، وتقرير مصائرها
وأقدارها، وبناء قوتها الذاتية. وأن تجعل مفهوم السيادة متماهيا مع التحرر
الاقتصادي، وامتلاك وسائل الدفاع عنها، مع القدرة على صنع القرار المستقل.
وليس
من شك في أن الحديث عن الاستقلال الوطني، يعني ضمن ما يعنيه، القدرة على مواجهة
المشروع الإمبريالي الصهيوني، والتصدي لأطماع العدو الأستيطانية التوسعية في أرض
فلسطين. كما يعني جلاء تاما للقواعد العسكرية الأجنبية، عن كل شبر من الأراضي
العربية.
نلحظ
خلال العام المنصرم، تطورات إيجابية، بالوطن العربي، مثلها بالدرجة الأولى الصمود
الأسطوري لشعبنا الفلسطيني البطل، أمام محاولات التهويد. وقدرة المقاومة
الفلسطينية على ردع العدو، وفرض معادلة جديدة، في المواجهة تعتمد المبادأة، واتساع
ساحة العمليات، ووصولها إلى عمق مدنه الرئيسية، ووحدة ساحات المعركة.
وعلى
الجبهة اللبنانية، نلحظ استمرار معادلة الردع، التي فرضتها المقاومة، منذ حرب
تموز/يوليو 2006، حتى يومنا هذا، والتي أكدت بما لا يقبل الشك أن الكيان الصهيوني،
لم يعد الفاعل الوحيد، في معادلة قوة الردع.
كما
شهد الوطن العربي، بروز معادلات سياسية جديدة، نتجت عن تراجع النفوذ الأمريكي،
وتصاعد الدور الصيني في الساحة الدولية، وفشل محاولة احتواء روسيا الاتحادية،
وعودة العلاقات السعودية الإيرانية، بوساطة صينية. وتحول النظام الدولي، واقعيا،
من هيمنة القطب الواحد، إلى التعددية القطبية. كما شهدت الشهور الأخيرة، اندلاع
حرب أهلية بين الجيش السوداني وقوات التدخل السريع.
تهدف
هذه الورقة إلى تقديم رصد وقراءة سريعة، للأحداث التي مر بها الواقع العربي،
والتحولات الإقليمة والمتغيرات في موازين القوة الدولية، وتأثيراتها المباشرة،
وغير المباشرة على الأمة العربية، على أمل أن تسهم هذه القراءة في تعزيز الوعي
العربي، وتحقيق نهوض الأمة.
القضية الفلسطينية
أبرز
أحداث العام الماضي، فيما يتعلق بالشأن الفلسطيني، هو اتساع ساحات المواجهة بين
المقاومين الفلسطينيين وجيش الاحتلال “الإسرائيلي"،
لتشمل الضفة الغربية. وبروز مجموعات عرين الأسد المقاومة، لأول مرة، بمدن الضفة،
والتي أبلت بلاء حسنا في مواجهة جنود الاحتلال، والتعرض لآليات وأفراد جيش العدو.
يقابل هذه المقاومة الباسلة، تمادي حكومة نتنياهو اليمينية في غطرستها، ونهجها التوسعي،
المتمثل في التوسع ببناء المزيد من المستوطنات، وحماية المستوطنين أفرادا وجماعات،
والإمعان في اضطهاد الشعب الفلسطيني، وهدم المنازل وتجريف الممتلكات.
لقد
شكل تمادي حكومة الكيان الصهيوني، إلى استنكار عالمي واسع، لنهجها، إلى الحد الذي
شكل إحراجا للأصدقاء التاريخيين للكيان الغاصب، في أوروبا والولايات المتحدة
الأمريكية، ومن ضمنهم الرئيس الفرنسي، أيمانويل ماكرون والرئيس الأمريكي جوزيف
بايدن، وقد انتقدا صراحة سياسات نتنياهو تجاه الفلسطييين، وطالباه بتبني سياسات
أكثر مرونة وواقعية، وأكدا على أهمية قيام دولة فلسطينية مستقلة، بالأراضي التي
احتلها الكيان الغاصب، في حرب حزيران/ يونيو عام 1967، تكون القدس الشرقية
عاصمتها.
من
جانب آخر، يواجه رئيس الحكومة الصهيونية، بنيامين نتنياهو أزمة داخلية، بسبب
إصراره على أجراء تعديلات قضائية، تمنحه صلاحيات أوسع. وقد قوبلت هذه الخطوة،
بمظاهرات واسعة ومستمرة، طيلة العام الماضي. وكان ملجأ نتنياهو الوحيد، للتخلص من
المعارضة الداخلية والحد من الاحتجاجات المستمرة، والتي شملت معظم المدن الكبرى،
التي أقيم عليها الكيان الصهيوني، هو توجيه أزمته إلى الخارج، في شكل اغتيالات
للقادة الفلسطينيين، والعدوان على قطاع غزة، وقمع الانتفاضة الوطنية التي تدور
رحاها الآن في مدن الضفة الغربية، وكان آخرها العدوان على مخيم جنين.
الجانب
الإيجابي، الذي أكدته اعتداءات نتنياهو على القطاع، وجنين، هو قدرة الشعب
الفلسطيني على إلحاق الهزيمة بمشاريع العدوان الصهيوني، وبروز معادلة الردع بقوة،
ونقل المعركة إلى المدن الذي يتمركز فيها العدو، وصولا إلى عاصمته تل أبيب، كما
حدث في الحرب الأخيرة على القطاع.
ففي
العملية التي أطلقت عليها سرايا القدس، بعملية "وحدة الساحات"، شن جيش
الاحتلال، حربا واسعة، على القطاع عشية الخامس من آب/ أغسطس 2022، استهدفت مواقع
حركة الجهاد الإسلامي، وبشكل خاص ذراعها العسكري.
وقد تسبب الهجوم في استشهاد 48 فلسطينيا، بينهم ستة عشر طفلا وأربعة من ربات
البيوت. وإصابة 360 أخرين، حسب بيان وزارة الصحة في غزة. كما نجم عن العملية،
استشهاد قياديين في سرايا القدس، هم تيسير الجعبري قائد المنطقة الشمالية، وخالد
منصور قائد المنطقة الجنوبية. وقد واجهت سرايا القدس هذا العدوان ببسالة وقوة،
وقامت بالرد على العدوان بشكل مكثف، في غلاف غزة، وبلغت صواريخها عمق الأراضي
الفلسطينية المحتلة، وبضمنها مدينة تل أبيب. وفشل العدوان في تحقيق أهدافه
الاستراتيجية، بتفتيت المقاومة وزرع الشكوك من حولها، وكان الرد العملي على هذه
الاستراتيجية هو "إعلان وحدة الساحات".
العدوان الصهيوني الواسع، الآخر، أخذ مكانه بمدينة جنينن
. ووجه بمقاومة ضارية، من قبل سكان المخيم، اعترف بها العدو، وتحدث عن فشل العدوان
تقرير سريع صادر عن آفيف باروخ قائد العملية العسكرية في مدينة جنين، أكد فيه فشل المعلومات
الاستخبارية “الإسرائيلية، حول طبيعة المقاتلين، الذين تم توصيفهم،
بأنهم عديمو خبرة في المعارك، وغير منظمين وأن أغلبهم مواليد ما بعد العام
2002. إن تلك المعلومات، وفقا للتقرير المشار له، غير صحيحة إطلاقاً والصحيح منها
فقط هو تواريخ الميلاد. فما لقيه العدو على الأرض أثناء العملية، أن الشبان
الفلسطينيين، كانوا مستعدين جيدا، ومنظمين، وكانوا يظهرون من العدم يطلقون النار
علينا ويختفون في العدم مرة أخرى كأنهم جزء من حجارة الأرض، يشبهون البرق الذي
يظهر فجأة ويختفي كأنهم خاضوا حروب عصابات ومعارك عديدة. يحترفون القنص ورصاصهم
يصيب الرؤوس كأنهم دربوا الرصاص على ذلك، وأنهم مقاتلون مؤمنون بقضيتهم، وذلك ما
يخشاه أي جيش. ان المكان هناك ينتمي إليهم وكان يلفظ الصهاينة ويعتبرهم غرباء. لقد
قاتل كل شيء معهم الأرض، المنازل، الشوارع. لقد هدمت البيوت وحفرت الشوارع، من قبل
قوات جيش الاحتلال، ولكن لا مناص. وهكذا واجه العدوان على جنين الفشل الذريع.
مسيرة التطبيع مع العدو، التي تسارعت قبل عامين، تباطأت
كثيرا، بفعل النهوض الفلسطيني، وسياسات نتنياهو، التي لم تمنح فرصة للمتخاذلين، من
القادة العرب، ليسوقوا مشاريع التواطؤ ضد فلسطين. وذلك ما يؤكد، أن مواجهة نهج
الاستسلام والتخاذل لا يكون فاعلا إلا بتصعيد المقاومة وأدواتها.
الأزمة
السودانية
الخامس عشر من أبريل/ نيسان عام 2023، يوم سيتذكره
السودانيون، باعتباره اليوم الذي شهد اقتتالا محموما بين القيادة العامة للجيش
السوداني وبين قوات الدعم السريع. وقد بدأ الاقتتال منذ التاسعة صباحا بتوقيت
الخرطوم، واستمر حتى يومنا هذا. وبدأ الإفصاح عن مؤشرات هذا الصراع، قبل ثلاثة
أيام من تاريخ الاقتتال، حين أعلنت القيادة العامة عن خروج قوات الدعم السريع على
توجيهاتها.
حديثنا ليس معنيا بتفاصيل ما جرى من أحداث، إلا بقدر
تأثيرها على أمن واستقرار ومستقبل واستقلال السودان الشقيق. فالجيش، ظل منذ
استقلال السودان عام 1956، هو الضامن لأمن واستقلال وسيادة البلاد. وإذا ما أجرينا
مقاربة موضوعية للفترة التي حكم فيها المدنيون السودان، وبين تلك التي حكم فيها
العسكر، سنجد أن حصة الأسد كانت من نصيب الجيش.
لقد كان السودان حتى لحظة استقلاله
جزءا من وادي النيل، وتابعا لمصر، طيلة سيطرة الحكم العثماني على مصر، وأثناء حكم
محمد على باشا وأحفاده. وبقي كذلك، حتى إعلان النظام الجمهوري في مصر في 23
يوليو1952. وكانت مصر حتى قيام النظام الجمهوري، ترتبط بمعاهدات واتفاقيات مع
بريطانيا تحد من استقلالها وحريتها. وبعد قيام الثورة في مصر، وافقت القيادة
المصرية الجديدة، على إجراء استفتاء في السودان، على استقلاله وتقرير مصيره، وترك
مسألة ارتباطه بمصر لشعبه.
انقسم السودانيون، أثناء مفاوضات
الاستقلال، بين من نادى بوحدة وادي النيل، والاستمرار مع مصر، وأطلق عليهم
بالاتحاديين، وبرز من بينهم اسماعيل الأزهري، والحركة الختمية، وبين من طالب
باستقلال السودان عن مصر، وعلى رأسهم حزب الأمة، الذي قادته الحركة المهدية.
لم يمض وقت طويل على استقلال السودان،
إلا ويفاجأ السودانيون بأول انقلاب عسكري، قاده الفريق ابراهيم عبود في نوفمبر عام
1958، بعد عامين فقط من استقلال السودان. وقد تزامن هذا الانقلاب مع الاعلان عن
قيام حلف بغداد، الذي ضم باكستان وإيران وتركيا والعراق. وآنذاك اتهم قادة
الانقلاب، بموالاتهم لأمريكا، ولسياسة الأحلاف التي كانت تجري في حينه على قدم
وساق. وقد ظل الفريق عبود ماسكا بزمام السلطة حتى عام 1964، حين أطيح به، بانتفاضة
شعبية أعادت الحكم المدني للسودان، وتناوب بعدها على رئاسة الحكومة، محمد أحمد
محجوب وإسماعيل الأزهري. والأخير هو الذي أشرف على التحضير للقمة العربية التي
عقدت بعد النكسة عام 1967، بمدينة الخرطوم، وخرجت باللاءات الثلاث، لا صلح ولا
مفاوضة ولا اعتراف.
لم يستمر الحكم المدني طويلا، فقد أطيح
به بانقلاب عسكري، قاده اللواء جعفر النميري، في آيار/ مايو 1969م. واستمر النميري
بالسلطة منذ ذلك التاريخ، حتى نيسان/ أبريل 1985م، بعد انتفاضة شعبية تسلم على
أثرها السلطة بشكل مؤقت قائد الجيش المشير سوار الذهب، الذي ظل بالسلطة قرابة عام،
سلم الحكم بعدها للمدنيين، ليعود للوجوه السياسية القديمة من مهدية وختمية حضورها
في واجهة الحكم. ولكن الحكم المدني هذا لم يستمر طويلا، فقد أطيح به مجددا، في شهر
تموز/ يوليو عام 1989م، من قبل الجيش بقيادة الرئيس السوداني السابق، عمر حسن
البشير، ومن خلفه الجبهة الإسلامية وزعيمها الشيخ حسن الترابي. وبقي البشير في
السلطة حاكما مطلقا للسودان حتى أطيح به في انتفاضة شعبية أخرى، في نيسان/ أبريل
عام 2019م.
ومنذ ذلك التاريخ حتى هذه اللحظة
والسودان غارق في مناورات وفوضى سياسية، دون توصل إلى صيغة اتفاق تنقل السلطة من
المؤسسة العسكرية إلى الحكم المدني. وليكون الوضع الراهن هو التجسيد الكاريكاتوري
للحياة السياسية بالسودان منذ لحظة استقلاله حتى يومنا هذا.
صورة المشهد الراهن، تعيد للأذهان
الشبه الكبير بين السودان، وبين الانقلابات الكثيرة التي جرت في باكستان منذ
استقلاله. فالشبة كبير بين البلدين. فالأول انسلخ عن الهند، ضمن مشروع بريطاني.
والسودان جرى سلخه عن مصر بإرادة بريطانية أيضا. والبلدان كانا جزءا من دولتين، بقيتا
حتى لحظة استقلالهما تحت الهيمنة البريطانية. والملاحظ أن البلد الأم، يشهد عادة استقرارا
أمنا ووحدة سياسية يحسد عليها، كما هو الحال في الهند ومصر، حين يقارنان بالبلدين
التي ان انسلخلا عنهما.
فالهند تعتبر من البلدان التي نجحت بها
التجربة الديمقراطية. ولم تشهد منذ استقلالها انقلابا عسكريا واحدا. ويتم فيها
تداول السلطة بسلاسة. ومصر، بقيت بعيدة نسبيا عن الانقلابات. والتغيرات الدرامية
السياسية التي جرت فيها لا تكاد تذكر، حين تقارن بما جرى بالسودان.
الأزمة الراهنة في السودان، أخذت
مكانها في الوقت الذي تطلع فيه الشعب السوداني الشقيق، لتحقيق انتقال سياسي نحو
الحكم المدني، بعد انهاء حكم عمر البشير، الذي جثم على صدور السودانيين، لأكثر من
ثلاثة عقود.
بدأت المواجهة العسكرية، بين
الجيش السوداني وقوات التدخل السريع، في 15 نيسان/ أبريل من هذا العام 2023. وقد
نتج عن هذا الصراع، تخريب البنية التحتية، وتدمير أحياء عديدة بالعاصمة الخرطوم،
وانفلات الأمن، وتشريد الملايين، من البشر الذين فقدوا منازلهم وممتلكاتهم،
واضطروا للنزوح إلى البلدان المجاورة، مصر
وتشاد وأثيوبيا وكينيا, وتعطلت بشكل يكاد يكون كاملا عجلة الحركة الاقتصادية.
وعاشت السودان لأكثر من ثلاثة أشهر، وضع أشبه بالحرب الأهلية.
تسببت الحرب الدائرة في السودان، بين القوات المسلحة
وقوات التدخل السريع ، ما يربو على الألف قتيل، وألاف الجرحى. ولا يبدو أن حلا
سياسيا يلوح بالأفق حتى هذه اللحظة. باتت هذه الحرب الشغل الشاغل، لمحطات التلفزة
العربية والإفريقية والعالمية، ولكافة وسائل الإعلام، المرئي وغير المرئي.
منذ مطالع الشهر الماضي نشطت الدبلوماسية
السعودية، في محاولة لاقناع الفريقين المتحاربين، لفتح مرات آمنة لاجلاء أكثر من
خمسة ألاف محاصر، من غير السودانيين، وقد وصل معظمهم بسلام، إلى قاعدة الملك فيصل
البحرية بجدة، ليتم لاحقا إعادتهم إلى أوطانهم. لكن صوت العقل والاحتكام إلى طاولة
المفاوضات للتوصل إلى حلول سلمية للصراع، لا يزال بعيد المنال.
طرحت أيضا عدة مبادرات من قبل منظمة
الوحدة الأفريقية، ودول مجاورة أخرى، دعت إلى هدنة يتوقف فيها القتال بين الفريقين، لاثنين وسبعين ساعة، يتنفس خلالها
المواطنوان المحاصرون الصعداء، وتكون مقدمة، لهدنة دائمة يحتكم خلالها المتصارعون
لطاولة المفاوضات. وقد حظيت هذه المبادرات بتأييد قوي من القوى السياسية في
الداخل، لكنها أمام تعنت القوات المسلحة، ذهبت أدراج الرياح.
في الأيام الأخيرة، أبدى قائد قوات
التدخل السريع، حميدتي، استعدادا واضحا لقبول وقف إطلاق النار، والدخول في مفاوضات
مباشرة مع الفريق البرهان، أو من ينوب عنه. لكن الأخير، يصر على استسلام قوات
التدخل السريع، دون قيد أو شرط، ويرفض بشكل حاسم التفاوض مع من يصفهم بالمتمردين.
وهذا الموقف ينبع من شعور قوي لدى القوات المسلحة، بتفوق آلتها العسكرية، على
خصومها، وبشكل خاص امتلاكها لقوة جوية ضاربة.
تقدمت السعودية والولايات المتحدة
بدعوات متكررة لوقف إطلاق النار، وأعلن كلا الفريقين قبولهم بالمبادرة السعودية،
وأكدا على احترامهما لعودة الجيش إلى ثكناته، وتسليم الحكم إلى المدنيين. وهو أمر
يبدوا حتى هذه اللحظة، في خانة المناورات، وكسب التأييد من جهات تصنف نفسها
باعتبارها الممثل للمجتمع الدولي. فقد دعم المتحاربون من الفريقين، سابقا الانقلاب
على الحكم المدني، وكانوا حريصين على استمرار امساك الجيش بمقاليد السلطة
السياسية. وفي أحسن الأحوال، تنصيب حكومات مدنية موالية للعسكر لا تتعارض مواقفها
السياسية مع أجنداته.
وبالمثل، لم تتمكن المبادرات الأفريقية المتكررة، من
تحقيق السلام، بالسودان. وفي الأيام الأخيرة، عقد مؤتمر لدول الجوار، شاركت فيه
مصر بقوة، وألقى فيه الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي خطابا، طالب فيه الفريقين
المتحاربين، بتحكيم العقل، وحماية استقلال السودان وسيادته، والتوصل إلى سلام
مشرف، يحفظ للسودانيين، كرامتهم واستقلالهم، لكن نتائج تلك المبادرات لم تترجم
فعليا على أرض الواقع. وقد فشلت معظم المحاولات والوساطات التي جرت، حتى هذه
اللحظة في وقف القتال.
في هذا السياق، حذر الممثل الخاص للأمم المتحدة في
السودان، الألماني فولكر بيرتس، أن القتال
في السودان، يجذب عددا غير قليل من المرتزقة والمغامرين، الراغبين في جني المال
وتحقيق الثراء لأنفسهم. أما هنريك مايهاك، مدير قسم أفريقيا بمؤسسة فريدريش ايبرت
الألمانية، فأكد أنه لا يوجد ثمة إجماع، حتى الآن بشأن كيفية الوصول إلى هدنة في
السودان، وهو ما يؤدي إلى تفاقم الأزمة.
وتجدر الإشارة أن الطرفين تبنيا مواقف سياسية، تجاه
الصراع مع الصهاينة، شكلت انتقالا استراتيجيا عما هو معهود في تاريخ السودان منذ
استقلاله، مواقف تشكل خرقا للدستور، وتغيب إرادة الشعب السوداني وانتمائه القومي.
من وجهة نظر قائد القوات المسلحة
الفريق عبد الفتاح البرهان، أن الحل الوحيد للأزمة يكمن في دمج قوات التدخل
السريع، بالقوات المسلحة، ويشير إلى استحالة القبول بوجود جيشين في بلد واحد. وذلك
أمر يجافي المنطق، ففي معظم البلدان، وعلى مستوى العالم، توجد مؤسسات عسكرية
مختلفة، وليس هناك ما يضير، طالما استمر التوافق والتنسيق فيما بينما. المهم هو
أنها تخضع لأوامر وتوجيهات المؤسسة السياسية، ممثلة في القائد العام للقوات
المسحلة، الذي يشغل المنصب الأعلى في الدولة، بغض النظر عن شكل النظام، رئاسيا أو
برلمانيا. وهذا الواقع ينطبق على كثير من الدول العربية، التي تضم أكثر من جيش
واحد، لكنها تحت امرة سياسية واحدة.
والحل كما نراه، ليس بنصرة أحد
الفريقين المتحاربين، بل بوقف الحرب، وتحقيق انتقال سياسي سريع، يجري من خلاله
تسليم السلطة إلى المدنيين. وحينها تقرر السلطة المدنية، المنبثقة عن إرادة شعبية،
شكل وهياكل المؤسسة العسكرية، وارتباط قوات التدخل السريع بالجيش أو عدمه، بما
يتسق مع الدفاع عن الأراضي السودانية، وتحقيق الأمن والاستقرار في ربوعها.
والوضع في السودان الشقيق، لا يحتمل
هذا الجدل البيزنطي. فقد نتج عن هذه الحرب، مصرع الاف من المدنيين، الذين ليس لهم
علاقة، من بعيد أو قريب بأسباب الحرب، وخروج أكثر من ستين في المئة من القطاع
الصحي عن الخدمة. وتعطلت منذ الأسبوع الثاني للحرب الخدمات الكهربائية، عن معظم
أحياء العاصمة الخرطوم، وباتت الخدمات الاكترونية، والانترنت، وما يتبعه من مواقع
التواصل الاجتماعي، رفاهية، يصعب توافرها أمام الظروف الصعبة التي يعاني منها
السودانيون. يضاف إلى ذلك، توقف الحياة عن العمل بشكل تام، بالعاصمة، وحصار
المواطنين في مساكنهم، ومحدودوية توفر المواد الغذائية ومقابلة الاستحقاقات الأخرى
للحياة.
والمعضلة التي تفاقم من الأزمة هي عدم وجود نظام أمن
جماعي عربي، يتصدى لمعالجة أزمات الأمن القومي والوطني المتراكمة بالأقطار
العربية. كما لا يوجد نظام أمن جماعي، يختص ببلدان القرن الأفريقي. إن غياب
منظومات الأمن القومي الجماعي، تجعل كل قطر، يتكفل بشكل منفرد بحماية أمنه، بما
يجبره على الاستقواء بالقوى الخارجية، التي غالبا ما تضع مصالحها الخاصة، فوق
مصالح حلفائها والتابعين لها.
إن من شأن استمرار القتال إلى ما لا تبدو له نهاية
بالمدى المنظور، تفتيت وحدة السودان، ومصادرة دوره كيانا وهوية، وليلتحق بقائمة
المصروفات العربية. إن ذلك يرتب على دول الجوار العربية، ومصر بشكل خاص، العمل دون
كلل لوضع حد للمأساة السودانية، لأن استمرارها لن يشكل خطرا ماحقا ماثلا على الأمن
الوطني، بل إنه سيشكل تهديدا مباشرا على الأمن القومي العربي، والأمن المائي لوادي
النيل بشكل خاص.
توقف الحرب، وإعادة السلام إلى ربوع السودان الشقيق،
يقتضي وقفة عربية مسؤولة، تتضامن مع حق الشعب السوداني في الأمن والاستقرار، وتكون
قادرة على وقف الحرب، وتحقيق انتقال سياسي سريع، يعيد العساكر إلى ثكناتهم، ويعبر
عن حق السودانيين في خياراتهم السياسية، والنهوض الاقتصادي والاجتماعي ببلدهم،
وليكون وطنهم واحة للسلم والعيش الكريم.
الصعود
نحو خط الفقر
تصاعد عدد البلدان العربية، التي يعيش غالبية سكانها تحت
خط الفقر، لتشمل مصر وسوريا ولبنان واليمن والسودان. وهناك بلدان عربية أخرى مرشحة
للدخول في هذا التصنيف، إن لم تتم معالجة أوضاعها الاقتصادية، بأسرع وقت، كتونس
والمغرب وليبيا والأردن.
بعض أسباب التدهور الاقتصادي، يعود لتدخلات خارجية
مباشرة، كما هو الحال في سوريا ولبنان واليمن، وبعضها يعود لأسباب ذاتية، مصحوبة
بضغوطات خارجية مباشرة وغير مباشرة.
فسوريا على سبيل المثال، عانت من عشرية دم، أعاقت تطورها
ونمائها، إثر اندلاع ما بات معروفا بالربيع العربي. غدت البلاد مختبرا لصراعات
اقليمية ودولية. كان من نتائجها تضعضع القطاع السياحي، ونهب ممتلكات الدولة في عدد
من المحافظات، وتفكيك مصانع حلب الشهيرة، ومصادرتها من قبل الأتراك. وتعطل دور
مؤسسسات الدولة. ولا تزال الدولة فاقدة ليسطرتها على مناطق عديدة في سوريا، بسبب
الاحتلالات الخارجية، أمريكية وتركية. كما تعاني من محاولة أكراد قسد، الانفصال عن
الوطن الأم، وإقامة دولة مستقلة.
وفي ظل هذه الأوضاع، يعشعش الفقر، وتتراجع قيمة الليرة
السورية، إلى أدنى مستوياتها، منذ الاستقلال. والأمل كبير بأن تستعيد سوريا
عافيتها، بعد عودة علاقاتها بالأقطار العربية. ومثل ذلك هو رهن بالسماح للمواطنين
العرب، وغيرهم بالسياحة بالأراضي السورية، وزيارة المناطق التاريخية. وأيضا
الانتقال بالبلاد من اقتصاد الاستهلاك إلى الاقتصاد المنتج.
أما لبنان، فإنه لا يزال يعاني من تركة القسمة بين
الطوائف، وعجز الدولة عن مقابلة استحقاقات الناس، بسبب الأزمات السياسية المتكررة
التي تمر بها البلاد، والتي تسببت في غياب حقيقي لأجهزة الدولة. فلبنان هو الوحيد،
التي تسير فيه ماكنته الاقتصادية، في ظل غياب دائم لرئيس الدولة أحيانا، ورئيس
الحكومة في أحيان أخرى. ومثل هذا الحال، يجعل من البلاد مرتعا للفاسدين واللصوص.
ويتعطل الاقتصاد المنتج.
ولا شك أن هذا الواقع المؤلم، يضاف له موقف بعض من
الأنظمة العربية، من مواقف لبنان والقوى السياسية الفاعلة فيه، قد أسهم في حرمان
البلاد من الحصول على أي دعم مالي. ، فقد حرم لبنان من من دخل مالي كبير، يتأتى من
السياحة الخليجية، بسبب منع المواطنين الخليجيين من السفر إليه وقضاء عطلتهم
الصيفية به. ولعل الأيام القادمة، تسهم في تحسن أوضاع الناس الاقتصادية، وأن
يتواصل فتح السفارات الخليجية في بيروت، بالسماح
لمواطني تلك الدول، من قبل حكوماتهم، بالسفر إلى لبنان.
في اليمن اليوم، هناك فوضى شاملة، بدأت مع انطلاقة ما
عرف بالربيع العربي، وتسببت في تفتيت البلاد، وإيجاد ما لا يقل عن ثلاث سلطات
محلية. أولى وتحظى بشرعية الجامعة العربية، إلى ما قبل عدة أشهر تحت قيادة الرئيس
هادي، وتعد مدينة تعز من أهم المدن التي تسيطر عليها. وسلطة أخرى يقودها الحوثيون
وتتخذ من العاصمة صنعاء مركزا رئيسيا لها. أما الجنوب فسيطر على أجزاء منه موالون
لدولة الإمارات.
تسببت هذه الفوضى إلى تراجع سعر الريال اليمني، إلى أدنى
حد له، وإضعاف القدرة الشرائية للمواطنين اليمنيين، ووقف حركة الانتاج، وتراجع
العمل إلى حد كبير، في الحقل الزراعي، ووصول غالبية السكان، إلى الحد الادنى من خط
الفقر. وعلى الرغم من أن هدنة بدأت منذ الثاني من نيسان / أبريل بالعام الماضي، لم يتوصل المتصارعون على أرض
اليمن، إلى تسوية سياسية، تحمل البهجة للمواطنين، وتضع البلاد على السكة
الصحيحة.
وحين نأتي إلى مصر، البلد الأكثر كثافة سكانية بالوطن
العربي، فإن البلاد شهدت استكمالا سريعا في بنيتها التحتية، شملت شق شوارع كبرى في
المدن الرئيسية والطرق السريعة، غطت الجزء الأكبر من البلاد. كما شهدت بناء
العاصمة الإدارية الجديدة، وتوسعا في بناء أحياء كبرى، في شرق القاهرة وغربها. وفي
ظل غياب الوفرة في المال، وضعف سوق الإقراض العربية، اضطرت الحكومة المصرية،
لاقتراض مليارات الدولارات من الخارح، وبشكل خاص من صندوق النقد الدولي، بأرباح
نسبها عالية.
وأمام عجز الحكومة المصرية عن سداد الديون، فرض عليها
صندوق النقد الدولي برنامجا تقشفيا صعبا للغاية، وطالبها بتخفيض قيمة الجنية
المصري أمام الدولار. وبلغت الفجوة بين السعر القديم للجنية والسعر الحالى أكثر من
الضعف. فقد كان الدولار يساوي خمسة عشر جنيها قبل التخفيض، والآن بات سعره الرسمي
في البنوك المصرية قرابة 32 جنيها، أما في السوق السوداء فقد تجاوزت قيمة الدولار
الأربعي |