التوزيع:
محدود
الرقم: م ق ع 33/وثائق 3
التاريخ:
31/5/2024
المؤتمر
الثالث والثلاثون
31 أيار/مايو - 1 و 2 حزيران/يونيو
2024
بيروت - لبنان
"آفاق
الوحدة العربية في ظل طوفان الأقصى"**
د. يوسف مكي (السعودية)*
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* كاتب، عضو الأمانة العامة للمؤتمر القومي العربي
** لا تعبر هذه الورقة بالضرورة عن رأي الأمانة العامة
للمؤتمر القومي العربي.
آفاق الوحدة
العربية في ظل طوفان الأقصى
د. يوسف مكي (السعودية)
في مفهوم الوحدة:
تمزج
هذه الورقة بين التحليلين التاريخي، والنوعي Historical
and qualified analysis وتنطلق من بديهة حكمت مرحلة الاستقلال
الوطني، من الاستعمار التقليدي في بلدان العالم
الثالث، تمثلت في حق الأمم في انجاز وحدتها، كشرط لازم لاستكمال النهوض. والوحدة
العربية، من هذا المنظور ليست استعادة لماض سلف، ولا تنطلق فقط من اعتبارات عاطفية
ووجدانية، بل لأنها طريق التقدم والنهوض، وبناء القدرة الذاتية العربية، والارتفاع
بالمستوى الاقتصادي والصحي والثقافي والحضاري للإنسان العربي. وهي أيضا، السبيل،
للقضاء على معوقات التنمية. ولذلك يأتي النضال في سبيل تحقيقها، في مقدمة المهام
المطلوب إنجازها، لتجاوز واقع التخلف الراهن.
أكد
المشروع النهضوي العربي، الذي أطلقه مركز دراسات الوحدة العربية، "أن الوحدة
ضرورة حيوية ووجودية للأمة العربية". وليس مصدر هذه الضرورة، ما يجمع العرب
على اختلاف اقطارهم وطبقاتهم، من عوامل الاشتراك في اللغة والقيم الثقافية
والموروث التاريخي والحضاري والتواصل الجغرافي والمعاناة فحسب، بل تفرضها عليهم
المصلحة المشتركة".
فهي
السبيل الوحيد، الذي يمكن العرب من كسر قيد التبعية للنظام الاقتصادي الرأسمالي العالمي،
وتحقيق التكامل والتلاحم الاقتصادي فيما بينهم. وبهذا لا تضطر البلدان العربية
الفقيرة، لرهن حريتها وسيادتها، لقاء الديون، التي تحصل عليها، من الدول
الرأسمالية، ومصارفها وصناديقها. ولن تكون الأقطار العربية الغنية ماليا، تحت رحمة
تقلبات الأسواق الغربية، وسياسات أنظمتها العدوانية. وهكذا ستحسم قضية الوحدة
مسألة الارتباط بالنظام الاقتصادي العالمي.
في
ظل الوحدة العربية، لن يكون الرفض القومي لسياسات الولايات المتحدة، وربيبتها
"إسرائيل" والدول الاستعمارية الأخرى، منفعلا وسلبيا عاجزا، بل إيجابيا،
له أدواته ومقدماته المادية والموضوعية، المتمثلة في عمق الأمة، ووضع إمكاناتها
وثرواتها، في خدمة هذا الرفض، وذلك ما يعطي للحديث عن التحرر والحرية، مضمونهما
الواقعي.
لقد
أكد الرصد التاريخي، لتجربة مرحلة ما بعد الاستقلال في الوطن العربي، أن الحرية
التي يسعى إلى تحقيقها كل قطر عربي على حدة، في ظل واقع التجزئة، تصطدم بمعوقات
ومآزق، جعلت الحديث عنها، مجرد طنين لا تربطه بالواقع صلة، ما دامت السيادة
الاقتصادية لا تزال بيد المستعمر. فالحرية بالمعنى العميق والشامل، هي التي تبلغها
الأمة، من خلال هيمنتها على مقدراتها، وبنائها لقدراتها الذاتية، وذلك رهن بتحقيق
الوحدة العربية.
إن
أية دولة عربية بمفردها غير قادرة في ظل الوضع الاقتصادي العالمي الراهن، على
التعامل مع المتروبولات الرأسمالية، بصورة متكافئة، أو أن تضغط لكي يكون التبادل
معها أكثر توازنا وأقل إجحافا. ففي ظل التجزئة، ليس بمقدور أية دولة عربية منفردة
رسم وتنفيذ الخطط الاقتصادية اللازمة لتجاوز حالة التخلف، وإنجاز نهضة حقيقية، لأن
إمكاناتها المالية، وقواها البشرية وقاعدتها الاقتصادية، لا تسمح لها بالفكاك من
إسار التبعية.
والوحدة
العربية، على هذا الأساس، هي أيضا طريق العرب الوحيدة، للانتقال من المجتمع
الزراعي التقليدي، إلى مجتمع صناعي متطور، قادر بسبب ضخامة موارده وطاقاته المادية
والبشرية واتساع أسواقه، على التصدي للأسواق الإمبريالية. وهي في هذا السياق، تماه
إيجابي وخلاق، مع أحد الظواهر المميزة لعصرنا، الذي هو عصر كتل وتحالفات كبرى من
الشعوب. ولهذا تأتي ضمن سياق تاريخي وموضوعي صحيح، كونها تأتي منسجمة مع روح
العصر، وتطلعات الشعوب في الحرية والانعتاق.
فقد
كشف فشل المحاولات السابقة، لتحقيق أي نوع من الاتحاد بين الأقطار العربية، أن
المخاض الوحدوي هو عمل ثوري شاق وطويل، لا يمكن ترك أمره للحكام، الذين يرون في
التجرئة، ضمانة لاستمرارية تربعهم على السلطة. ولذلك، فإنها وفقا للواقع العربي،
لن تتحقق إلا بفعل الممارسة الشعبية النضالية. وخير دليل على ذلك هو نجاح تجربة
الوحدة المصرية- السورية، التي كانت استجابة لحراك شعبي واسع وكفاح مرير.
حركة الانبعاث القومي:
كان
النضال القومي، الذي اتخذ من بلاد الشام ساحته الرئيسية، قد ركز على أهمية
الانبعاث الجديد للأمة، واعتبر أن معركة الاستقلال، عن السلطنة العثمانية، إن
تكللت بالنجاح، ستكون ناقصة، ما لم تستند إلى أرضية عربية مشتركة، تمثل وحدة
المشرق العربي بأسره، خطوة أولى فيها.
وعلى
قاعدة مشروع النهضة العربية، دخل العرب الحرب العالمية الأولى، إلى جانب الحلفاء،
بحسبان أن ذلك سيسرع في إنجاز الأهداف الرئيسية لهذا المشروع: الاستقلال عن
السلطنة العثمانية، وتحقيق الوحدة العربية.
وانتهت الحرب بهزيمة للأتراك، وانتصار للحلفاء، وحسب العرب،
الذين شاركوا في تلك الحرب، أنهم اقتربوا من حصد ثمار تلك المشاركة. لكنهم اصطدموا بغدر
بريطاني– فرنسي مشترك، رسم الخرائط بين المنتصرين، بخلاف ما جرى الاتفاق عليه، مع
حلفائهم من العرب.
برزت
اتفاقية سايكس – بيكو سيئة الذكر، والتي قسمت المشرق العربي، إلى كيانات كرتونية،
وفقاً للمصالح البريطانية والفرنسية، ومن أجل ذلك، استعاض الغرب بتعابير استعمارية
جديدة، بديلة عن التعبير الفاقع لمسمى الاحتلال. فدخلت تعابير الحماية والوصاية والانتداب، بديلاً عن الاستعمار،
وبذلك حقق المنتصرون هدفين في آن واحد، الأول، هو الإحلال محل الأتراك في احتلال
الأرض العربية، والثاني، هو تجزئة البلدان العربية، والحيلولة، دون قيام نظام عربي
قوي، بغض النظر عن توجهاته السياسية.
وكانت
إحدى نتائج اتفاقية سايكس بيكو، التطبيق العملي لوعد بلفور، بإنشاء وطن قومي
لليهود فوق أرض فلسطين، وبالتأكيد لم يكن لهذا الوعد من قيمة، لو أن فلسطين، بقيت
مستقلة، ولم تقع تحت الانتداب البريطاني.
والمؤكد أن البريطانيين، لم يستهدفوا من وعد بلفور، إيجاد حل
إنساني، نهائي لمعاناة اليهود، في أوروبا، كما كان الإدعاء، بل إيجاد موضع قدم
ثابت للغرب في المنطقة العربية، وزرع إسفين فيها، يحول دون تقدم الأمة ونهضتها. وكان الخيار استراتيجياً
بكل المعايير، حين اتخذ من نقطة الوصل بين القارتين آسيا وإفريقيا، بين مشرق الوطن
العربي، ومغربه، محطة تحول دون قيام أي شكل من أشكال الاتحاد بين العرب، في مشرق
الوطن ومغربه.
وبقيام
«إسرائيل»، تم ضرب المشروع النهضوي العربي، المتمثل في الاستقلال والوحدة في عموده
الفقري، وبغياب الاستقلال الحقيقي والوحدة، تظل كل محاولات الخروج من النفق كسيحة
ومشوهة، طالما بقي الاحتلال جاثماً فوق الأرض العربية.
اعتبر
العرب فلسطين، قضيتهم المركزية، لأن تحررها هو طريقهم إلى الوحدة، وبناء الدولة
الحديثة، والتنمية المستقلة، وسيادة قيم الحداثة والعدالة الاجتماعية. وبدون وجود
برنامج كفاحي عملي، من أجل تحرير فلسطين، وإنهاء مشروع الحرب «الإسرائيلي»، الجاثم
على أمتنا منذ أكثر من قرن من الزمن، حين بدأت الهجرة اليهودية إلى فلسطين، تبقى
أي مراهنة على تقديم الاحتلال تنازلات للفلسطينيين، مراهنة على الوهم، واستمراراً
لهدر الثروات، وضياع للحقوق.
وفي
كل مراحل النضال الفلسطيني، تكفلت عدالة القضية بالتفاف الشعب العربي حولها، رغم
حالة التجزئة التي شهدتها الأمة، منذ وضع اتفاقية سايكس- بيكو موضع التنفيذ، ظل في
بنيته التحتية متماسكاً تجاه قضيتي فلسطين والوحدة.
لكن
صورة الوضع، تغيرت جذرياً، على كل الصعد. فتماسك الأمة، الذي أدى بنتائجه لصمود
الكيانات الوطنية، التي ارتبطت بتحقيق الاستقلال، لم يعد على حاله، إثر توقيع ما
عرف باتفاقيات السلام بين كل من مصر والأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية، مع الكيان
الغاصب.
في تداعيات النكسة:
حين
حدثت النكسة، وتم احتلال سيناء بأكملها، من الأراضي المصرية، ومرتفعات الجولات
السورية، والضفة الغربية ومدينة القدس، تداعى القادة العرب لعقد قمة بالخرطوم، في
29 آب/ أغسطس عام 1967، خرجت بلاءات ثلاث: لا صلح ولا اعتراف ولا مفاوضات، لكنها
في ذات الوقت، فوضت مصر والأردن، بذل جهودهما السياسية لاستعادة أراضيهما من
الاحتلال. وغابت سوريا في حينه عن المشاركة بالمؤتمر، كما غاب عن المشاركة فيه،
رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، أحمد الشقيري.
ومنذ
ذلك التاريخ، تغيرت النظرة لطبيعة الصراع العربي- الصهيوني، من صراع وجود إلى صراع
حدود. وبات الهدف ليس تحرير فلسطين من النهر إلى البحر، بل إزالة آثار العدوان.
في
22 تشرين الثاني/ نوفمبر 1967، تبنى مجلس الأمن الدولي، بعد مناقشات مكثفة، القرار
رقم 242، نصت فقرته الأولى على "انسحاب القوات الإسرائيلية، من الأراضي التي
احتلت في النزاع الأخير". كما نص القرار على إنهاء حالة الحرب، والاعتراف
ضمنا بإسرائيل، دون ربط ذلك بقضية فلسطين، التي اعتبرت مشكلة لاجئين، وليست قضية
شعب، له كامل الحق في الحرية والاستقلال وتقرير المصير.
شكل
القرار 242، منذ صدوره، صلب كل المفاوضات والمساعي الدولية والعربية، لايجاد حل
للصراع. وجرى تعيين السياسي السويدي، جورنار يارنج، مندوبا عن الأمين العام للأمم
المتحدة، يوثانت، لاستكشاف إمكانية تطبيق القرار. ومن أجل تحقيق ذلك قام، يارنج
بسلسلة رحلات مكوكية، إلى مصر والأردن، والكيان الصهيوني، استمرت دون أي تقدم
يستحق الذكر، حتى عام 1971.
رفع الرئيس عبد الناصر، إثر النكسة
مباشرة، شعار أن "ما أخذ بالقوة لن يعود بغير القوة"، وبدأ بعد أشهر
قليلة من النكسة، وتحديدا في 21 تشرين الأول/ أكتوبر 1967، بعد أقل من خمسة أشهر
على الهزيمة، حرب الاستنزاف، فدمرت البحرية المصرية، بواسطة صاروخين بحريين،
المدمرة الإسرائيلية "إيلات" التي تعتبر إحدى أكبر القطع البحرية، التي
تمتلكها "إسرائيل"، لتبدأ واحدة من أبهى ملاحم الكفاح العربي، ضد الكيان
الغاصب. وتواصلت تلك الحرب، حتى القبول المصري بمبادرة وزير الخارجية الأمريكي
وليام روجرز، للسلام بالشرق الأوسط. وقد قبل بها عبدالناصر، رغم تأكيدها على إنهاء
حالة الحرب بين العرب والصهاينة.
في
هذا السياق، يطرح محمد حسنين هيكل، أن الهدف من قبول الرئيس عبدالناصر، لمبادرة
روجرز، هو استكمال بناء حائط الصواريخ، لمواجهة الهجمات الجوية
"الإسرائيلية"، الموجهة لعمق الأراضي المصرية. وأن ذلك القبول كان
تكتيكيا. لكنه أسس للأسف، لما جاء بعده من تسويات وتنازلات، بعد رحيل عبد الناصر
المباغت، انتهت بتفريط النظام العربي الرسمي الكامل بالحقوق الفلسطينية، وإضفاء
شرعية على اغتصاب الصهاينة لفلسطين.
تسلم
أنور السادات رئاسة الدولة، بعد رحيل عبد الناصر، وفقا للدستور الذي ينص على تولى
نائب رئيس الدولة، الموقع الأول بشكل مؤقت، بعد مغادرة الرئيس لموقعه. وبعد ثلاثة
أشهر، أجريت انتخابات جديدة، كان السادات المرشح الوحيد فيها، وتم انتخابه رئيسا
للجمهورية. وخلال المرحلة الأولى، لرئاسته ظل محاطا برجال عبد الناصر، الذين
يسيطرون بالمطلق على جميع مؤسسات الدولة، من حكومة وأجهزة أمنية، وقوة عسكرية،
واتحاد اشتراكي.
تعهد السادات، في خطابه الرئاسي الأول،
بالسير على نهج جمال عبد الناصر، والعمل بكل الوسائل، على تحرير الأراضي المصرية،
من قبضة الكيان الصهيوني. لكنه كان يضمر نهجا آخر، مغايرا بالكلية للنهج القومي،
الذي حكم مسيرة عبد الناصر، طيلة عهده. وكان عليه من أجل تحقيق ذلك، التخلص من
تركة عبد الناصر، بما فيها الرجال، الذي يحكمون الطوق على رقبته، ويحولون دون
تحقيق نهجه السياسي المغاير.
استند
أنور السادات، في توجهه السياسي المعلن، على قبول عبد الناصر، لمبادرة روجرز،
لمواصلة مفاوضات السلام، من خلال ممثل يوثانت، ولكن تلك المفاوضات لم تحقق أي
تقدم، على الإطلاق، إلا أنها كشفت عن أوجه الصراع غير المعلن، بين رجال عبدالناصر،
والرئيس السادات.
وتفجرت
الأزمة، بين السادات ورجال عبد الناصر، في آيار/ مايو 1971، وتقدم عدد منهم،
باستقالات جماعية، الهدف منها إحداث فراغ دستوري. وقام السادات بإعفائهم جميعا من
مناصبهم. وألقى بهم في غياهب السجون. وبالقضاء على القيادات
الناصرية، تخلص من العناصر، التي تعيق توجهه نحو الحل السلمي، على قاعدة الاعتراف
بمشروعية اغتصاب الصهاينة لفلسطين. ولم يتبق أمامه سوى إعداد المسرح المحلي
والعربي والدولي لتحقيق ذلك.
في
السابع عشر من تموز/ يوليو 1972، طرد السادات، 20 ألف خبير سوفييتي، طلب استقدامهم
الرئيس عبدالناصر، من القيادة السوفييتية، ليقوموا بحماية العمق المصري، من هجمات
الطيران "الإسرائيلي"، حتى استكمال بناء حائط الصواريخ. بعد أن أقدم
الكيان الصهيوني على قصف معامل أبي زعبل في 12 شباط/ فبراير 1970، وقصف مدرسة
أطفال ابتدائية، في بحر البقر، في 8 نيسان/ أبريل عام 1970. وقد تصور أن إقدامه على هذه الخطوة، سيجعل الأمريكيين يتدخلون،
لصالح التسريع بالتوصل إلى حل سلمي بين مصر و"إسرائيل". لكن هنري كيسنجر
مستشار الرئيس نيكسون للشؤون الأمن القومي أبلغه، أن القرار لم يتخذ بالتنسيق مع
الأمريكيين، وأنه لا يلزمهم بشي.
وإثر
انسداد أبواب الحل السلمي، أمام السادات، واستمرار حالة اللاسلم واللاحرب، وتصاعد
اتململ الشعبي، تجاه هذا العجز، بدأت مرحلة التنسيق بين القيادتين المصرية
والسورية، لشن حرب محدودة النطاق، على جبتهي مصر وسوريا، بهدف تحريك الحل السياسي.
وهكذا كان..
في
السادس من تشرين/أكتوبر عام 1973، اندفع الجيش المصري، شرق قناة السويس، عابرا
أعرض ممر مائي، ومحطما خط بارليف، الذي تباها الصهاينة بقوته. وعلى الجبهة
السورية، وصلت القوات إلى مرتفعات الجولان، واقتربت من مدينة القنيطرة.
ولأن
الهدف من تلك الحرب، لم يكن تحرير الأراضي العربية المحتلة، عام 1967، بل تحريك
الموقف السياسي، توقف الجيش المصري، شرق القناة، ولم يتقدم أكثر من عشرين كيلو
مترا في عمق سيناء. وتم إبلاغ كسنجر من قبل السادات، بمحدودية الهجوم المصري،
وأهدافه الحقيقية. وأمرت قيادة الجيش، بالتوقف عن التقدم في عمق سيناء، فيما عرف
بالوقفة التعبوية.
في
24 تشرين الأول/ أكتوبر، بعد ثمانية عشر يوما من اندلاع القتال، تم وقف إطلاق
النار، بناء على قرار مجلس الأمن الدولي رقم 338 الصادر في 22 من نفس الشهر. وعلى
إثر وقف إطلاق النار، بدأ كيسنجر في رسم صورة المشهد في المنطقة بأسرها. فقد قاد
عملية فصل القوات الأولى، والثانية، بين الجيش المصري، وجيش الاحتلال، كما حقق
فصلا أوليا بين القوات السورية، و"الإسرائيلية". وخلال تلك الفترة، أدخل
كيسنجر مفردات جديدة على القاموس السياسي العربي، مثل التطبيع، وكسر الحاجز
النفسي، وإعطاء قوة دفع لعملية السلام، وجميعها تأخذ من حصة العرب، وتضيف مغانم
للكيان الغاصب.
وفي
حينه، كرر السادات في عدد غير قليل من تصريحاته، أن حرب تشرين/ أكتوبر هي آخر
الحروب بين مصر و"إسرائيل"، وأن 99 في المائة من أوراق الحل هي بيد
الولايات المتحدة الأمريكية. وبعد أقل من عامين على انتهاء الحرب، في 5 حزيران/
يونيو 1975، أعيد افتتاح قناة السويس للملاحة الدولية.
تأكد
لاحقا أن تلك التصريحات، وما أعقبها من خطوات، هي المقدمات لزيارة السادات للقدس،
في 19 تشرين الثاني/ نوفمبر 1977، وإلقائه خطابه الشهير بالكنيست الإسرائيلي.
واستتبعها عقد مفاوضات مباشرة، بين وفدين من مصر والكيان الصهيوني، أخدت مكانها في
فندق ميناء هاوس بالقاهرة، ومن ثم تدخلت الإدارة الأمريكية بشكل مباشر، ونقلت
المفاوضات، التي ترأسها أنور السادات عن الجانب المصري، ومناحيم بيجن عن الجانب
"الإسرائيلي" إلى كامب ديفيد حيث جرت تحت إشراف الرئيس الأمريكي، جيمي
كارتر، وانتهت بتوقيع معاهدة كامب ديفيد، التي انهت حالة الحرب بين مصر
و"إسرائيل"، وفتحت صفحة من العلاقات الدبلوماسية وتبادل السفراء بينهما.
الأوضاع العربية في
أعقاب توقيع معاهدة كامب ديفيد:
في
سوريا كان غضب الرئيس حافظ الأسد كبيرا، إثر زيارة السادات للقدس، وتصاعد ذلك أكثر
بعد توقيع مصر و"إسرائيل" لمعاهدة كامب ديفيد، لأنه أضعف الموقف السوري
والأردني، في أية مفاوضات مستقبلية لاسترجاع الأراضي المحتلة. وبالمثل كان غضب
القيادة العراقية كبيرا، من توقيع السادات لمعاهدة كامب ديفيد مع العدو الصهيوني.
وقد
دفع ذلك بالقيادة بالبلدين، لتوقيع ميثاق عمل قومي مشترك، في 26 تشرين/ أكتوبر عام
1978، وقع عليه الرئيس أحمد حسن البكر، عن الجانب العراقي والرئيس حافظ الأسد عن
الجانب السوري. وتم الاتفاق على تحقيق اتحاد بين البلدين، لكن الخلافات عادت بشكل
أكثر حدة وشراسة بين القيادتين.
في
عقد الثمانينيات من القرن المنصرم، كان الانقسام العربي كبيرا، إثر اندلاع الحرب
العراقية- الإيرانية. وحين عقد مؤتمر القمة العربي في العاصمة الأردنية عمان في 11
تشرين الثاني/ نوفمبر 1987، لم تحضر قضية فلسطين لمناقشات المؤتمرين، بل تركزت على
الاهتمام على الحرب التي تدور رحاها في الجبهة العراقية الإيرانية.
+++
وفي
غمرة الغياب المريب للقضية الفلسطينية، لدى النظام العربي الرسمي، جاء الرد من الأراضي
المحتلة، حين بدأت انتفاضة أطفال الحجارة، في 8 ديسمبر عام 1987، من مخيم جباليا،
بقطاع غزة، لتشتعل كالهشيم، في عموم الأراضي التي جرى احتلالها عام 1967، ولتشكل
إحدى الملاحم الكبرى في تاريخ الكفاح الفلسطيني، دفعت باسحق رابين للاعتراف بأنها
كابوس صعب، وأنه يتمنى أن لا يستيقظ من نومه إلا وغزة، غرقت بالبحر. وخلالها بدأت
اتصالات "إسرائيلية" بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية، بهدف التوصل إلى
صيغة تنتهي بانسحاب الاحتلال من غزة، وتسليمها لعرفات، لكن الأخير، اشترط أن تكون
أريحا، ضمن صفقة الانسحاب "الإسرائيلي" من القطاع.
في 2 آب/ أغسطس عام 1990 دخل الجيش
العراقي الكويت، وتشكل تحالف دولي ضم ثلاثين دولة، بقيادة الرئيس الأمريكي جورج
بوش الأب، لطرد العراق من الكويت. وقد أحدث ذلك شرخا عميقا، في النظام العربي
الرسمي، حيث انقسم بين فريق يساند الحرب ضد العراق، وفريق آخر، في الخندق المضاد.
لكن الطرح العراقي، أثناء الأزمة، بانهاء جميع الاحتلالات للأرض العربية، كشرط
لخروج الجيش العراقي من الكويت، أعاد للقضية الفلسطينية، حضورا قويا، دفع ببوش إلى
إعلان نيته إيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية، بعد انتهاء أزمة الخليج الثانية
مباشرة.
في
19 تشرين/ أكتوبر1991، وجهت الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، دعوة دبلوماسية
رسمية لعقد مؤتمر بالعاصمة الأسبانية مدريد، تشارك فيها "إسرائيل"
وسوريا ولبنان والأردن، وشخصيات فلسطينية من خارج منظمة التحرير الفلسطينية، هم كل
من حنان عشراوي وصائب عريقات وحيدر عبدالشافي.
عقد
مؤتمر مدريد للسلام بالشرق الأوسط، في الفترة من 30 تشرين/ أكتوبر، من نفس العام.
وفي 3 تشرين الثاني/ نوفمبر جرت مفاوضات ثنائية بين "إسرائيل" والوفد
الأردني الفلسطيني المشترك، ولبنان وسوريا، على التوالي. وفي 28 كانون الثاني/
يناير 1992 بدأت مفاوضات متعددة الأطراف، بشأن التعاون الإقليمي، حضرتها
"إسرائيل" والوفد الأردني الفلسطيني. ثم انتقلت المفاوضات لاحقا إلى
العاصمة الأمريكية، واشنطن,
وأثناء
ذلك، كانت مفاوضات سرية، تجري في النرويج، بين ممثلين عن الحكومة
"الإسرائيلية"، بقيادة شيمون بيريز ومنظمة التحرير الفلسطينية، برئاسة
أحمد قريع انتهت بتوقيع اتفاقية أوسلو في 13 أيلول/ سبتمبر 1993، بالبيت الأبيض،
بحضور الرئيس الأمريكي بل كلينتون، أقرت قيام سلطة فلسطينية في الأراضي التي
احتلتها "إسرائيل" عام 1967، عرفت باتفاقية غزة- أريحا، اعترف بموجبها
الضحية، رسميا بمشروعية اغتصاب الصهاينة لفلسطين، وقبل بأن تقام سلطة محلية على
جزء صغير منها، واستبعدت القدس من المرحلة الأولى للاتفاق، على أن يتم مناقشة وضعها
لاحقا بالمفاوضات النهائية، بعد أربع سنوات من توقيع ذلك الاتفاق، لكن تلك
المفاوضات بقيت مؤجلة حتى يومنا هذا.
في
28 أيلول/ سبتمبر 2000، اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الثانية، التي عرفت بانتفاضة
الأقصى، قدم لها ياسر عرفات، مختلف أشكال الدعم العسكري والسياسي، بعد أن رأى بأم
عينه، كيف تجري عملية تهويد المدينة المقدسة، على قدم وساق. وقد دفع حياته ثمن
تمسكه بعروبة القدس، بعد حصاره في مقره، قرابة عامين أصيب خلالها بمرض عضال.
توقفت
الانتفاضة فعليا في 8 شباط/ فبراير 2005، بعد اتفاق شرم الشيخ، الذي جمع الرئيس
الفلسطيني المنتخب حديثا آنذاك، محمود عباس (أبومازن) وأرييل شارون، وكانت كلفتها
أكثر من 4400 شهيد فلسطيني، وأكثر من 48300 جريح. أما خسائر "إسرائيل، فأكثر
من 1000 قتيل، وقرابة 4500 جريح، من جيش الاحتلال والمستوطنين الصهاينة.
في أسباب اندلاع طوفان
الأقصى:
تعمد
أجهزة الإعلام الغربية، إلى عزل ما جرى في 7 تشرين/ أكتوبر من العام الماضي عما
قبله. وتتناسى، عن عمد، أن أس المشكلة تكمن في تشريد الشعب الفلسطيني لخارج وطنه،
وبقاء فلسطين تحت الاحتلال قرابة خمسة وسبعين عاما، ارتكب خلالها العدو، مئات
المجازر، داخل الأراضي المحتلة وخارجها، بدءا من مذبحة دير ياسين، وبئر السبع، إلى
مجزرة السموع بالضفة الغربية، واستمرارا بمذبحة صبرا وشاتيلا في لبنان، وضرب مفاعل
تموز النووي في بغداد، واجتياحات متكررة، وانتهاكات ضد لبنان، لعل الأبرز بينها،
اجتياح عام 1978، وغزو بيروت عام 1982، وحروب إبادة متكررة على قطاع غزة، لا تشكل
حرب الإبادة الأخيرة في قطاع غزة، سوى واحدة من حلقاتها، وإن كانت الأعنف بينها.
في
الضفة الغربية، بنى العدو الصهيوني، مئات المستوطنات، وحاصر الفلسطينيين بالجدران
العازلة، وقام بهدم المنازل وتجريف الأراضي الزراعية. وحتى اتفاق أوسلو عام 1993،
بين حكومة الاحتلال ومنظمة التحرير الفلسطينية، الذي تمت صياغته، ليضمن أمنا
مستداما للكيان الغاصب، تم التنكر، من قبل الاحتلال، لمعظم بنوده، وبشكل خاص ما
يتعلق بالمفاوضات النهائية، التي يفترض أن تتم بعد أربع سنوات من توقيع الاتفاق،
عام 1997. ولم يتبق من بنوده، سوى التنسيق الأمني بين جيش الاحتلال، والسلطة
الفلسطينية، وهو تنسيق من طرف واحد، التزمت به السلطة، وضربت به حكومة
"إسرائيل" عرض الحائط.
وكان
لقطاع غزة، حصة الأسد، من الاعتداءات الصهيونية المتكررة، من حروب وحصار، فقد ظل
محاصرا بشكل فعلي طيلة السبعة عشر عاما، التي سبقت اندلاع طوفان الأقصى. وفي
العامين السابقين على الطوفان، تعرضت مواقع حركة الجهاد الإسلامي، لهجمات تدميرية
عنيفة. وهكذا فإن طوفان الأقصى
شكل مرحلة جديدة في تاريخ النضال الفلسطيني والعربي على السواء. وما جرى بعد هذا
الطوفان لن يكون أبدا كما قبله.
لقد
أخذ طوفان الأقصى مكانه، بعد تراجع واضح للنظام العربي الرسمي، عن القضية
الفلسطينية، وهرولة عدد من الحكومات العربية، نحو التطبيع مع العدو الصهيوني، من
غير أي مقابل، لصالح حق الفلسطينيين، في الاستقلال وتقرير المصير. وبات الأمر أكثر
سوءا، بعد وصول اليمين، بقيادة بنيامين نتنياهو، وحلفائه الذين يصنفون، بأكثر
الصهاينة تطرفا وعنصرية.
جاء
طوفان الأقصى، ليكسر الجمود، وليعيد للقضية الفلسطينية حضورها على المستوى المحلي
والعربي والدولي، وليوقف هرولة بقية الأنظمة العربية نحو التطبيع. وقد أسهم
الطوفان، في تعرية جميع العناصر، التي خدع الصهاينة بها شعوب العالم، واستمدوا
منها مشروعية اغتصابهم لفلسطين. فلم تعد أكذوبة "إسرائيل" بأنها الحمل
الوديع، الذي انحدر شعبه من ضحايا الهولوكست النازي، وانكشف القناع، عن وحشية لا
نظير لها، وحرب إبادة جماعية هي الأولى من نوعها في هذا القرن.
كما
كشف الطوفان، عن عبقرية أداء المقاومة الفلسطينية، وخواء ادعاء الصهاينة، بتفوق
أجهزتهم الأمنية، وتهافت أسطورة الموساد، التي تهاوت أمام براعة وكفاءة
الفلسطينيين، ليس في الجوانب الكفاحية والنضالية فحسب، بل والجوانب الأمنية أيضا.
لقد انتهت إلى الأبد أسطورة الجيش الذي لا يقهر.
|