ورقة عمل
معركة طوفان الأقصى والتدافع حول مستقبل قطاع غزة بعد الحرب
رؤية استراتيجية استشرافية
د.
محسن محمد صالح (فلسطين/لبنان)
مقدمة:
تعدُّ عملية "طوفان الأقصى" التي
شنها مقاتلو كتائب القسام التابعة لحركة حماس من قطاع غزة، ضدّ المستعمرات
والمعسكرات الإسرائيلية المحيطة بغزة، حدثاً استراتيجياً، غير مسبوق طوال الخمسة
والسبعين عاماً التي مضت على إنشاء "إسرائيل".
فنحن أمام أكبر هجوم فلسطيني وعربي داخل
فلسطين المحتلة سنة 1948 منذ إنشاء
"إسرائيل"؛ أدى خلال بضع ساعات إلى احتلال نحو 20 مستوطنة ونقطة استيطانية و11 موقعاً عسكرياً، بما في ذلك
مقر قيادة "فرقة غزة" التي تتبع جيش الاحتلال. إذ كان مركز كل الحروب
والمعارك الأساسية خارج الأرض المحتلة سنة 1948.
ونحن أمام أكبر عدد من القتلى والأسرى
الصهاينة في يوم واحد، في كل الحروب التي خاضها الفلسطينيون بعد 1948، وحتى مقارنة بمعظم الحروب
التي خاضتها الجيوش العربية. ونحن أيضاً أمام أكبر مفاجأة عسكرية استراتيجية،
وأكبر فشل للأنظمة الأمنية في تاريخ “إسرائيل”، رافقتها أسوأ حالة ارتباك وأسوأ
مظهر مهين لمنظومة الحكم الإسرائيلية.
أولاً: الدلالات الاستراتيجية لعملية
طوفان الأقصى:
1.
سقوط
"نظرية الأمن الإسرائيلي" القائمة على مبادئ الردع والإنذار المبكر
والقدرة على الحسم؛ والتي أضيف إليها مبدأ رابع سنة 2015 هو مبدأ الدفاع. حيث تهاوت هذه المبادئ
الأربعة في هذه العملية.
2. سقوط فكرة
"الملاذ الآمن لليهود": فلأن الأمن هو أمرٌ جوهري في العقيدة الصهيونية
وأساس في بنية الكيان الإسرائيلي، باعتباره يوفر ملاذاً آمناً ليهود العالم،
وباعتباره قادراً على سحق وردع كل القوى والجيوش في البيئة الاستراتيجية المحيطة؛
فإن الضربة التي تلقاها في الصميم ستُفرغ المشروع الصهيوني من محتواه، وتفقد
"أرض الميعاد" جاذبيتها، وتجعل اليهود الصهاينة المقيمين يتطلعون للهجرة
المعاكسة وللعودة إلى البلدان التي جاؤوا منها.
3. فشل
"إسرائيل" في تقديم نفسها كقلعة متقدمة للعالم الغربي، وكشرطي للمنطقة
والقوة المهيمنة فيها. فبعد حالة العجز والفشل في التعامل مع المقاومة الفلسطينية،
وبعد سقوط نظرية الأمن، وانهيار الردع، وانكشاف أن "نِمرها" هو "
نِمر من ورق"، أصبح هناك مخاوف حقيقية لدى الغرب أن تكون "إسرائيل"
قوة يعتمد عليها في الهيمنة على المنطقة. أدى ذلك إلى ضرب الدور الوظيفي للكيان
والأساس الذي أنشئ لأجله، وأدت إلى خلخلة منظومة التحكم والسيطرة الغربية في
المنطقة، باعتبار "إسرائيل" حجر الزاوية في تنفيذ السياسة الأمريكية
الغربية فيها.
4.
وجَّهت ضربة قاسية لمشاريع التطبيع الإسرائيلية مع
العالم العربي والإسلامي؛ فمع بروز الأداء البطولي للمقاومة، وانكشاف الوجه الوحشي
البشع للاحتلال الإسرائيلي وارتكابه المجازر بحق المدنيين، فإن الأنظمة الحاكمة
توقفت عن اندفاعتها تجاه التطبيع.
من
جهة أخرى، فَقَدَ التطبيع مبرراً أساسياً لتسويق نفسه، فلسنوات طويلة سعت
"إسرائيل" لتقديم نفسها كقوة يُعتمد عليها في إدارة النزاعات في
المنطقة، وفي ترجيح كفة أي طرف يتحالف معها ويطبّع معها. وكان ذلك مبرراً للتطبيع
لدى عدد من دول المنطقة. غير أن الضربة القاصمة التي تلقتها من مجموعة محدودة من
المقاتلين في 7 تشرين
الأول/ أكتوبر قد أضرت بصورتها الرادعة بشكل كبير، ولم تعد قادرة على تسويق نفسها
كقوة موثوقة تلجأ إليها دول المنطقة في حلّ نزاعاتها، وفي حسم صراعاتها مع
أعدائها.
5. هزّت عملية طوفان
الأقصى الكيان الإسرائيلي؛ فقد جعلت موضوع "الوجود" والبقاء لدى الكيان
الإسرائيلي محلَّ تساؤل. ولذلك، فإن الكيان الإسرائيلي رأى أنّ هذه المعركة
"معركة الاستقلال الثانية"[i] أو
"معركة وجود"؛[ii] كما قال
وزير الحرب الإسرائيلي يوآف جالانت Yoav
Gallant، إنه إذا لم يُفكّك الجيش قدرات حماس بشكل
كامل، "فلن نتمكن من العيش في إسرائيل".[iii] وهزّت
العملية الوضع السياسي الداخلي خصوصاً حزب الليكود Likud الحاكم، الذي يَتسيّد الساحة السياسية منذ 15 عاماً
متواصلة، والذي تشير استطلاعات الرأي أنه سيفقد نحو نصف مقاعده في أي انتخابات
قادمة.
6. مَثَّل الإنجاز
الكبير الذي حققته معركة طوفان الأقصى، حالة إلهام غير مسبوقة للأمة العربية
والإسلامية بإمكانية تحرير الأرض المقدسات. وشعر الكثير من الناس أنهم أمام
"بيت عنكبوت" وأن هيمنته وجبروته واحتلاله ليس قدراً، وأنه يمكن هزيمته.
وأن ضعف الحكومات والأنظمة الرسمية العربية والإسلامية وعجزها لا مبرر له.
7. عزّزت معركة
طوفان الأقصى المشروع الإسلامي لفلسطين، إذ إن حركة حماس التي نفذت الهجوم، وتولت
العبء الأكبر في مواجهة العدوان الصهيوني، والتي تدير قطاع غزة منذ 17 عاماً، هي
حركة إسلامية تتبنى الإسلام عقيدة وفكراً ومنهجاً، ومرجعية لمشروع تحرير فلسطين.
وتقف إلى جانبها حركة الجهاد الإسلامي شقيقتها الأصغر التي تتبنى المبادئ
والمرجعية نفسها.
8.
عبرت معركة طوفان الأقصى عن مركزية الأقصى والقدس في
الوجدان الفلسطيني والعربي والإسلامي، بما يجعله مهوى القلوب ومصدر إلهام عظيم.
ولذلك، فإن تمادي الصهاينة في العدوان على القدس ومحاولة تهويد الأقصى، كان طوال
العقود الماضية عنصر تثوير وتفجير في مواجهة المشروع الصهيوني...، وهو ما كان
سبباً أساسياً لمعركة طوفان الأقصى التي حملت اسمه.
9.
كرّست المعركة عملياً مشروع المقاومة، باعتباره الأداة
الفعالة الصحيحة لانتزاع حقوق الشعب الفلسطيني ودحر الاحتلال. وقد تزامن هذا مع
سقوط مسار التسوية السلمية، وفشل منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية في الاعتماد
على اتفاقات أوسلو على مدى ثلاثين عاماً، لإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على
فلسطين المحتلة سنة 1967.
10.
أكدت المعركة فشل المشروع الصهيوني في تطويع الإنسان
الفلسطيني. فخلال ثلاثين عاماً من الاحتلال البريطاني وخلال خمسة وسبعين عاماً من
إنشاء الكيان الإسرائيلي لم يتوقف الشعب الفلسطيني عن الانتفاضة والثورة...، موجات
تصعد وتهبط ولكنها مستمرة. ولم تنفع معه كافة أشكال القهر والتهجير والتدمير
والمعاناة.
11.
عززت معركة طوفان الأقصى انكشاف وفشل منظومة القيم
الغربية أمام العالم. وإذا كان عددٌ من هذه القيم وزيفها مكشوفاً منذ زمن لدى
كثيرين في عالمنا الإسلامي، إلا أن هذه الحرب قد أظهرتها بشكل فاضح.
12.
حولت الحرب الإسرائيلية الوحشية على قطاع غزة الكيانَ
الاسرائيلي إلى دولة منبوذة ومعزولة عالمياً.
13.
اتسعت دائرة التأييد الرأي العام العالمي الشعبي،
وخصوصاً في الوسط الشبابي وطلاب الجامعات، لقضية فلسطين ولخط المقاومة.
ثانياً: أبرز المعطيات الحالية والوضع
الراهن:
بعد أكثر من سبعة أشهر
على الحرب الإسرائيلية على غزة، يظهر أن الاحتلال الإسرائيلي لم يتمكن من تحقيق
أهدافه، وأن العوامل الضاغطة لوقف الحرب تتزايد في وجهه، وأن الأداء الأسطوري
لحماس وقوى المقاومة والحاضنة الشعبية سيجبره عاجلاً أم آجلاً للنزول عن الشجرة:
1. فشل العدوان في تحقيق أهم أهدافه وهو سحق حماس، فما زالت حماس هي
الأقوى شعبيا، والأكثر حضورا في قطاع غزة؛ وما زالت كتائب القسام فاعلة في شمال
القطاع ووسطه وجنوبه.
2. فشل العدوان في احتلال قطاع غزة حتى الآن، فما زالت منظومة التحكّم
والسيطرة لحماس فاعلة على معظم قطاع غزة.
3.
فشل العدوان في تحرير محتجزيه وأسراه لدى
المقاومة فشلا ذريعا.
4. فشل العدوان فشلا ذريعا في إحداث حالة "كي الوعي" لدى
المقاومة ولدى الحاضنة الشعبية، فلا المقاومة استسلمت أو تفككت أو فقدت فاعليتها،
ولا الحاضنة الشعبية تخلّت عن المقاومة ودعمها والالتفاف حولها.
5.
فشل العدوان حتى الآن في
إيجاد حكم بديل لحماس في القطاع، بحيث ينفذ الأجندة الإسرائيلية، فيضرب المقاومة
في القطاع، ويوفر الأمن للكيان الإسرائيلي، خصوصا في غلاف غزة.
6.
استنفد العدوان بنك
أهدافه في قطاع غزة بعد كل المجازر والدمار الذي أحدثه، ولم يعد هناك ما يمكن
"إنجازه"، أو ما يمكن به كسر المقاومة وإرادتها. أما معركة رفح فإن
احتمالات الفشل فيها عالية جدّا، ولم يَعد يجد لها سندا غربيا أو أمريكيا، كما أن
بيئته الداخلية تدفعه للمزيد من التردّد والوقوع في "رعب الفشل" من
جديد.
7.
طالت الحرب على قطاع غزة
بلا أي أفق لهزيمة قوى المقاومة. وهذه الحرب طالت أكثر بكثير مما كان متوقعا لدى
الأمريكان والحلفاء الغربيين، وتحولت الحرب و"إسرائيل" من قيمة
استراتيجية إلى عبء عسكري ومالي وسياسي وإعلامي، وإلى مشكلة داخلية للحكومات مع
شعوب بلدانها، ومن ثم تراجع الغطاء الغربي لاستمرار الحرب.
8.
تزايد الشعور لدى التجمع
الاستيطاني الصهيوني وقواه السياسية، أن نتنياهو يسعى ما استطاع لإطالة أمد الحرب
لحسابات شخصية مرتبطة ببقائه في الحكم، والهرب من استحقاق انتهاء حياته السياسية
أو دخوله السجن؛ وليس من أجل المصالح العليا للكيان الإسرائيلي
9.
الكيان الإسرائيلي
بطبيعته لا يتحمل استمرار الحروب والاستنزاف طويل الأمد، واستمرار تدهور الاقتصاد،
ونزيف الهجرة المعاكسة، وفقدان الأمن، وهروب الاستثمارات، وانسداد التطبيع؛ خصوصا
إذا ما استمرت قدرة المقاومة على إيقاع خسائر نوعية يومية في الاحتلال.
10.
تعاملت الأنظمة العربية المُطبِّعة مع
الكيان مع العدوان الإسرائيلي على القطاع كمن ينتظر على مضض انتهاء جيش الاحتلال
من "مهمته" في القضاء على حُكم حماس للقطاع، باعتبار ذلك فرصة لإنهاء الوضع "الشاذ
والمزعج" حسب تصورهم. وكان ثمة شعور بأن المعركة محسومة لصالح الاحتلال،
وبالتالي فلا حاجة لخطوات عملية لدعم صمود المقاومة، ولا حاجة لممارسة ضغوط قوية
مؤثرة باستخدام أوزانهم وإمكاناتهم الحقيقية لوقف العدوان، أو لإدخال المساعدات
للقطاع.
11.
في المقابل كان هناك عدد من البلدان العربية
التي حافظت على دعمها المعتاد لفلسطين، وعلى سلوكها المعتاد تجاه المقاومة ودعمها
أو تًفهّم سلوكها مثل قطر والكويت والعراق والجزائر واليمن وليبيا وسورية وتونس
وعُمان...
12.
دعمت إيران المقاومة الفلسطينية وأيدت خياراتها السياسية
والميدانية، وحرصت على تجنّب الانخراط الميداني المباشر في المعركة، وشجّعت القوى
الحليفة والمقرّبة منها في لبنان واليمن والعراق على المشاركة المباشرة في
المواجهة وإسناد المقاومة الفلسطينية، وفق ظروف كل ساحة ومعطياتها وحين وجدت إيران
نفسها مضطرة للردّ على الهجوم الإسرائيلي على قنصليتها بدمشق، تعاملت بحذر شديد
وحسابات دقيقة، وحرصت على أن يوجّه ردها العسكري رسالة ردع قوية للجانب
الإسرائيلي، دون أن يدخلها ذلك بمواجهة واسعة وممتدة.
13.
لعب حزب الله في لبنان وأنصار الله في اليمن أدواراً
متقدمة في المعركة، وخففا الضغط عن
قطاع غزة، وبالرغم من المحافظة على قواعد اشتباك محددة، إلا أن الدور ظل مهماً
ومؤثراً.
14.
بدا الموقف التركي الرسمي في البداية متثاقلاً وبطيئاً
مع الحدث، غير أن الموقف السياسي أخذ في التحسن مع اتساع التفاعل الشعبي؛ وفي الفترة الأخيرة أخذ الخطاب
السياسي لغة أشد حزماً مع تجميد العلاقات التجارية مع الكيان.
15.
إن الشريك الأمريكي للعدو
الإسرائيلي أخذ يضيق ذرعا بالأداء العسكري والسياسي الإسرائيلي، خصوصا أن شعبية
الرئيس بايدن قد تأثرت سلبا بسبب دعمه للحرب على غزة، وأن فرصه في الفوز في
الانتخابات، والقدرة على الحسم في الولايات المتأرجحة أخذت تتراجع. هذا بالإضافة إلى
تزايد الخوف الأمريكي من تضرّر مصالحها في المنطقة نتيجة استمرار الحرب. وهو ما
يدفع إدارة بايدن لمحاولة تسريع الخروج من الحرب بأقل الخسائر الممكنة.
16.
انسجم الموقفان الروسي والصيني مع سياستهما الخارجية المعتادة، وبالرغم
من عدم فعاليتهما في الضغط على "إسرائيل" في وقف العدوان أو في تجريمها
دولياً؛ إلا أنهما لعبا دوراً مهماً في الأمم المتحدة ومجلس الأمن في الوقوف إلى
جانب الحق الفلسطيني، وقطع الطريق على الولايات المتحدة لتوفير الغطاء
لـ"إسرائيل".
17.
ظهر الموقف الأوروبي في البداية أكثر تحالفاً وقُرباً
للجانب الإسرائيلي، غير أن انكشاف زيف الدعاية الإسرائيلية، ووحشية العدوان على
القطاع، وصمود المقاومة، والاحتجاجات والمظاهرات الشعبية الواسعة في أوروبا لدعم
فلسطين، جعلت الموقف الأوروبي يتراجع خطوات للوراء، ويصبح أكثر ميلاً لوقف
العدوان، والحديث عن حل الدولتين، ودعوة بعض الدول لوقف تصدير السلاح للكيان الصهيوني؛ بل وانضمام
إيرلندا وبلجيكا للدعوى التي أقامتها جنوب إفريقيا ضد "إسرائيل" لدى
محكمة العدل الدولية.
|