المؤتمر
القومي العربي
المؤتمر الرابع عشر
23 – 26 حزيران/يونيو 2003
صنعاء – اليمن
التوزيع : محدود
الرقم
: م ق ع 14 / وثائق 3
التاريخ
: 11/6/2003
حال الامة 2002
ـــــــــــــــــــــــ
- لا يعكس
هذا التقرير بالضرورة وجهة نظر الامانة العامة للمؤتمر القومي العربي.
- اعد صياغة
هذا التقرير، بتكليف من الامانة العامة منسق التقرير د. عبد الاله بلقزيز وفريق
من اعضاء تجمع المؤتمر مؤلف من السيدات والسادة (حسب الترتيب الهجائي):
د. احمد يوسف احمد، د. امحمد مالكي، أ. جميل مطر، أ. حلمي شعراوي، أ. رحاب
مكحل، د. ساسين عساف، أ. سليمان الرياشي، اللواء طلعت مسلم، أ. عبد الرحمن
النعيمي، د. علي بن محمد، د. كمال خلف الطويل، أ. محسن عوض، د. محمد المجذوب، د.
منير الحمش، د. منير العكش، أ. منير شفيق، د. نيفين مسعد، د. هيثم الكيلاني، د.
وليد رضوان .
* لا يجوز
نشر هذا التقرير كلاً او جزءاً الا بموافقة تحريرية من ادارة المؤتمر .
مقدمة
رغم ان اشهراً
قليلة هي التي تفصل موعد انعقاد هذا المؤتمر ( 23 حزيران/يونيو 2003 ) عن نهاية
العام 2002 المنصرم ( وهو مجال رصد تقرير " حال الامة " )، الا ان
الاحداث التي امتلأت بها هذه الاشهر كانت من الجسامة بمكان بحيث ادت الى ما يشبه
الزلزال، ليس في واقع الامة فحسب، بل الى حد كبير في واقع العلاقات الدولية بأسرها
.
ومع ذلك، فإن
أحداث العام المنصرم التي يرصدها هذا التقرير هي بالغة الاهمية لإنها تحمل في
رحمها، كما هي حال قوانين التطور، جذور واحداث العام الحالي، وربما أحداث أعوام
عدة على غير صعيد .
ففي العام 2002
انكشف اكثر من اي وقت مضى عجز النظام الرسمي العربي المطبق، ليس عن حماية شعب
فلسطين وبنيته التحتية وهيئاته المنتخبة فقط، ولا عن الدفاع عن العراق ومنع
احتلاله فحسب، بل حتى عن صون مبادرة سلام أقرتها قمة بيروت العربية، رغم أنها
انطوت على تنازلات غير مسبوقة في تاريخ الصراع العربي – الصهيوني .
وفي العام 2002
ايضاً، برزت من خلال مشاهد تضامن الامة مع شعبها في فلسطين، اثر عملية "
السور الواقي " الصهيونية، صورة واعدة عن وحدة الحركة الشعبية العربية لم
تظهر من قبل، حيث امتلأ الشارع العربي من أقاصي مغرب الوطن الكبير حتى اقاصي مشرقه
بالمسيرات والمبادرات والتبرعات العينية والنقدية، وهي صورة تكررت في مواجهة
العدوان على العراق .
واذا كانت هذه
المشاهد لم تثمر نتائج ملموسة حتى الان على صعيد القرار الرسمي العربي إزاء هذه
القضية، لكنها بالتأكيد أكدت على سلامة مقولة " الأمة الواحدة "، كما
اسست بالضرورة لعمل عربي قومي هام على المستوى الشعبي تبقى صياغة مرجعيته والياته
وبرامجه وسياساته وادواته من صلب مهمات مؤتمرنا هذا، كما كل المؤتمرات والمؤسسات
المماثلة .
كما حمل العام
2002 ايضا نموا متسارعاً لحركة عالمية مناهضة للهيمنة الاميركية والعنصرية
الصهيونية، ولسلبيات العولمة في السياسة والامن والاقتصاد والبيئة والثقافة، بعد
ان ظن كثيرون أن قوى الهيمنة العالمية قد نجحت في وأدها بعد احداث 11/9/2001 في
الولايات المتحدة، والتي جاءت بعد ايام فقط على اكبر تظاهرة عالمية ضد العنصرية
والصهيونية في "دوربان" في جنوب افريقيا .
لكن اللافت في
خطاب هذه الحركة العالمية المتنامية في العام الفائت، كان العناوين العربية له،
سواء في اطار الدفاع عن الحرية في فلسطين، او السلام في العراق، وكان الجديد في
آليات هذه الحركة نجاحها في دفع المئات من الرواد المناهضين للاحتلال والعدوان الى
الانخراط في حركة الحماية المدنية لشعبي فلسطين والعراق وسقوط شهداء بينهم .
واذا كان هذا
التطور " العربي " الهام في خطاب الحركة العالمية المناهضة للهيمنة
الاميركية والعنصرية الصهيونية يشكل نافذة للامل في ولادة عالم اكثر توازنا وعدلا
وتفهما لقضايانا، فان هذا التطور بالمقابل يرتب على القوى الحية في الامة مسؤوليات
جساما في ملاقاته، سواء على مستوى الخطاب او على مستوى الاداء، بحيث تتحول هذه
الحركة الى قوة مؤثرة في مجتمعاتها ودولها لصالح قضايانا، وبحيث يصبح الخطاب
القومي العربي المعاصر جسرا وطيدا بين جذور روحية وحضارية وتاريخية نعتز بها، وبين
قيم انسانية عالمية باتت من سمات هذا العصر ومميزاته .
وما استهداف
مواقع العروبة والاسلام ورموزهما وقواهما الحية في هذه الهجمة الاستعمارية العاتية
في الامن والسياسة والثقافة والاعلام والتربية الا تعبيرا عن استشعار القوى
المعادية لمخاطر بروز كتلة تاريخية تتلاقى في رحابها تيارات الامة الكبرى، وتحمل
مشروعها الحضاري الجديد .
وبهذا المعنى
فهذا التقرير، كما كل التقارير السابقة ليس الا محاولة لرصد مدى تقدمنا على طريق
تحقيق اهداف هذا المشروع او الابتعاد عنه . واذا اردنا ان نجمل الامر كله بكلمة
واحدة فيمكن القول " ان الامة تشهد تراجعا ملموسا على مستوى الشكل متمثلا في
عجز الاداء الرسمي والاهلي، ولكنها تشهد تقدما عميقا على مستوى الجوهر متمثلا بروح
المقاومة والانتفاضة المتقدة في اكثر من ساحة، والمرشحة للاتساع " .
فمهمة هذا
المؤتمر، بل واجبه يكاد يتلخص اليوم في كيفية صون هذه المقاومة العربية والاسلامية
وتطويرها ونقلها من فضاء الى اخر، ومن اطار الى اخر .
ففي مقاومة
الاحتلال والعدوان، وفي التصدي للاستبداد والفساد، وفي مواجهة التخلف والتجزئة
والظلم بكل اشكاله، وفي الدفاع عن هوية الامة ووجودها وتراثها وحضارتها وقيمها،
تجتمع كل عناوين مشروع الامة الحضاري .
I-العرب
والعالم
1-جنون
النزعة الامبراطورية :
يبدو أنه قد تحقق جانب خطير من الجوانب
التي تنبأ بها هنتنجتون في أطروحة "صدام الحضارات". فقد نجح طرف في
الصراع السياسي الناشب بين الوطن العربي والولايات المتحدة في تحويل هذا الصراع
إلى شكل من أشكال الصدام الحضاري. وما زلنا غير واثقين كل الثقة من الإجابة عن
السؤال : " أيهما استفاد من الآخر: هنتنجتون
وأطروحته، من ناحية أم السياسة الخارجية الأمريكية من ناحية أخرى؟" ولكن تميل التطورات التي شهدها العالم
منذ أعوام إلى أن الغالب هو أن القيادات السياسية في أمريكا والنشطاء في الأصولية
المسيحية الأمريكية وعددا متزايدا من الأكاديميين والممارسين في عملية صنع السياسة
الخارجية الأمريكية اعتنقوا هذه الأطروحة بعد صدورها. معنى هذا أن السياسة
الخارجية الأمريكية لم تكن تميل صراحة إلى فكرة الصراع مع حضارات أخرى قبل أن
يطرحها هنتنجتون وغيره. وفي نفس الوقت لا يوجد ما يمنع الافتراض بأن هنتنجتون نفسه باعتباره مستشارا شبه دائم لصناع
السياسة في أمريكا لاحظ الميل التدريجيّ
تجاه هذه الفكرة قبل أن يطورها في شكل نظرية سياسية.
في كل حال، الواضح أمامنا أن أحدا لم
يعلن حتى الآن اعتناقه مبادئ الأطروحة تلك، وربما لم يكتب أحد توصية واضحة بأن
تتخلى السياسة الخارجية الأمريكية عن فكرة البحث عن عدو بعد أن وجد لها هنتنجتون
العدو المناسب. وبالفعل لم يصدر عن أي مسؤول أمريكي قبل 11/9 إشارة واضحة ومؤكدة
إلى هذا المعنى مع أن إشارات بهذا المعنى صدرت عن ساسة أوروبيين وبخاصة السيدة مارجريت تاتشر خلال
أو بعد زيارة كانت تقوم بها في الولايات المتحدة الأمريكية في الثمانينيات.
حينذاك، أعلنت رئيسة وزراء بريطانيا ما معناه أن الإسلام هو العدو الجديد للغرب،
ولم يكن الاتحاد السوفياتي
قد انفرط تماما في ذلك الحين، أي أنها كانت ربما تتوقع بعض التطورات المحتملة في
الاتحاد السوفياتي، وتعرف-في نفس الوقت- أن قادة الغرب
سيواجهون مشكلة التعامل في ظل نظام دولي لا يوجد فيه عدو للحلف الغربي.
لعل البعض من قادة الولايات المتحدة كان
قد توصل من خلال أطروحات التطرف الديني أو العلماني، أو بسبب خلفيات استشراقية
واستعمارية، إلى أن الإسلام بالفعل عدو مناسب. المهم أن الفكرة سواء كان الباعث
عليها مفكر أكاديمي أو زعيم سياسي، وجدت قبولا وارتياحا. وربما تصور كثير من
المفكرين الأمريكيين أن صدام الحضارات قد يكون مفيدا لأسباب متعددة: فمن ناحية، تكون
فكرة صراع الحضارات نقطة ارتكاز جيدة لسياسة أمريكية باحثة عن عدو مناسب. ومن
ناحية أخرى، قد يؤدي هذا الصدام -أو هذا النوع من الصراع- إلى تعظيم المميزات
الأمريكية وتعظيم مجالات تفوقها. أما من ناحية ثالثة فتبدو مقنعة الفكرة التي طرحت
في وقت من الأوقات، وبعد انفراط الاتحاد السوفياتي،
والتي ذهبت إلى أن صدام الحضارات أو أن صدام أمريكا مع حضارات أخرى سيحل مشكلة
القلق الأمريكي من احتمالات انفراط الحلف الغربي. فقد قام هذا الحلف أساسا واستمر
قويا وصامدا ومستسلما للقيادة الأمريكية بسبب وجود الصراع مع منظومة مبادئ متناقضة
مع المبادئ الغَرْبية الليبرالية والرأسمالية، وهي المنظومة الشيوعية. لم تُخْفِ
الكتابات الأكاديمية الأمريكية في العلاقات الدولية على مدى عقود خشية الغرب من أن
يأتي يوم تنتهي فيه الشيوعية فتقع الوقيعة بين الدول الرأسمالية مثلما حدث في
القرن التاسع عشر وحدث في القرن العشرين مرات عدة ونجمت عنها تلك الصراعات المدمرة
التي أهلكت ملايين البشر في المجتمعات الرأسمالية.
لذلك لم تكن الفكرة التي طرحتها مارجريت
تاتشر بجرأة، وطرحها الآخرون بتردد وحرج، عن أن الإسلام قد يكون المنظومة المناسبة
للتصادم مع منظومة الغرب فكرة خيالية أو مستحيلة، والأسباب واضحة. فجذور الاختلاف
مع الإسلام متأصلة تاريخيا في الفكر الغربي عموما. والظروف التي تمر بها الدول
والمجتمعات الإسلامية تجعلها أكثر استعدادا للدخول في الصدام إذا أتيحت لها فرصة
من هذا النوع. أمّا الأهمّ، فهو الأهم أن صداما من هذا النوع يمكن أن يتشكل حوله
رأي عام قوي ومناصر في الغرب فضلا عن أنه نوع من الصراعات التي لا تكلف الغرب كثيرا.
وقد لاحظ عدد كبير من الباحثين أن الكتابات الغربية الرئيسَة حول صدام الحضارات
جمعت فلول حضارات بعينها وعممت بقصد كي تجعل العالم الغربي يبدو وكأنه حضارة واحدة
وموحدة، وكي تجعل الرقع الجغرافية الممتدة من الأطلسي حتى حدود الهند والصين تبدو
وكأنها حضارة واحدة وموحدة.
ساهم تطوران دوليان في ترسيخ فكرة
الصدام بشكل كبير رغم كل الانتقادات التي وجهت إليها. كان التطور الأول هو
المقاومة العنيفة التي واجه بها العالم الإسلامي مسيرة العولمة. حينها، كانت
العولمة محكا لاحتمالات نجاح أو فشل الهيمنة الفعلية الأمريكية على العالم. إلا أن
الأمر وصل ببعض الكتاب الذين كتبوا عن العولمة أنهم صاروا يقيسون تقدمها أو تقدم
مسيرتها بالمدى الذي وصلته هذه المجتمعات على طريق التَّأَمْرُك. بمعنى آخر، كان
الأمريكيون يعتبرون أمركة الثقافة في الحضارات الأخرى أحد أهم مؤشرات نجاح
العولمة، بل لعله المؤشر الأكثر أهمية. كان واضحا –والحالة هذه- أن العرب
والمسلمين عموما لم يحققوا المستوى المطلوب من التأييد والاندماج في مسيرة
العولمة، بل إنهم كانوا وما زالوا
أشد الأمم مقاومة لمسيرة العولمة. وبمعنى آخر، لم يكن صعبا على أي صانع قرار في
أمريكا أو أي أكاديمي متحمس لفكرة العولمة أن يقرر من البداية، وبعد سنوات من ضغوط
العولمة وضغوط المؤسسات الاقتصادية الدولية وضغوط السياسة الخارجية الأمريكية، أن
العرب والمسلمين سيقفون عائقا أمام احتمال مسيرة العولمة.
أما التطور الثاني فوقع يوم 11/9. وما
حدث في 11/9 لم يأت من فراغ أو في فراغ.
يومها، لم تكتشف النخبة السياسية الأمريكية أن هناك صداما حضاريا أو أنه يجب أن
يقوم على الفور. فقد كان الصدام واقعا فعلا. ولم يكن 11/9 إلا أحد أسوأ مؤشراته.
كان الظن في ذلك الوقت أن الطرف الآخر في الصدام لم يجرؤ على مهاجمة الغرب صراحة
ووضوحا في معركة عسكرية، وإنما ستقوم معارك ثقافية وحضارية ودينية. فالعالم
الإسلامي –في ذلك الظن- لا يملك من مقومات القوة المسلحة ما يسمح له بالدخول في
صدام عسكري ضد الغرب عموما أو الولايات المتحدة تحديدا. وكان من غير المتخيل أن
تبدأ أولى معارك الصدام باقتحام الأجواء الأمريكية وقصف أكبر مدنها وتدمير أهم
رموزها الاقتصادية والعسكرية. هنا، وفي ذلك اليوم تحديدا، تغيرت رؤية
الصِّدَامِيِّين في أمريكا لمسيرة الصدام الحضاري وقد وقع. وفجأة بدأت تتضح ملامح
من خطط كانت موضوعة سلفا لمواجهة من هذا النوع.
لقد بدأ قبل 11/9 بسنوات ما يمكن أن
نطلق عليه مسيرة الإمبراطورية
في النظام السياسي الأمريكي وفي النظام الدولي عموما. ولكن حتى ذلك اليوم، لم يكن
أحد يريد أن يعترف بهذا المعنى. كان هناك رأي يقول إن أمريكا تتصرف كمركز
امبراطوري منذ نهاية الحرب الباردة وليس فقط بعد 11/9. وربما كان هذا الرأي قريبا
من الحقيقة خصوصا إذا راعينا أن معظم المقالات التي كتبها القادة والسياسيون من
أمثال رامسفيلد وهاس ورايس كانت تشير -قبل وصول بوش إلى الحكم- إلى هذا الاتجاه.
ثمة رأي آخر يقول إن أمريكا لا تتصرف كامبراطورية لأنها ما زالت تستشير ولا تتوسع على الأرض ولديها
مؤسسات ديمقراطية ونظام جمهوري، وبالتالي لا يمكن أن تكون امبراطورية حتى ولو أراد
حكامها الحاليون. ويلاحظ أن مفهوم الامبراطورية كان دائما في أمريكا غير مرغوب
فيه، وذلك لأن كلمة امبراطورية لا تتناسب مع كل القيم الدستورية التي ينادي بها
الدستور الأمريكي. ولذلك، نأى المفكرون الأمريكيون بأنفسهم عن استخدام هذا التعبير
حتى الشهور الأخيرة حين تجرأ وتجاسر عدد كبير منهم وبدأ يكتب عن الامبريالية
الأمريكية وعن التردد في الاعتراف بوجودها وممارستها من جانب المسؤولين الأمريكيين
والكتاب الأمريكيين. بينما الواقع يقول إن أمريكا قامت في تاريخها الحديث بأعمال
امبراطورية. فقد توسعت في الأراضي، واحتلت بالغزو أو بالحرب أو بالشراء أراضي
كثيرة. ولكنها لم تعترف، ولم يعترف الفكر السياسي في أي مرحلة، بكلمة التوسع في
الأراضي بل أطلقوا عليه ضم الأراضي. ولو تأملنا قليلا الأوضاع في الأراضي المحتلة
لوجدنا الشيء نفسه يحدث. "فإسرائيل" تقول إنه قدر ظاهر أي "قدرنا
أن نتوسع"! كان هناك توسع أمريكي في القرن التاسع عشر بدأ في الفيليبين وجزر
المحيط الهادي وبورتوريكو وجزر الكاريبي، وأطلقوا على كل حالة مسمى الكومنولث! ثم ازدادت
الأراضي والجزر التي ضمتها أمريكا خلال الحربين. وطوال تلك الفترة، لم تستخدم
أمريكا كلمة إمبراطورية ومع ذلك، تصرفت كامبراطورية حتى 11/9. لم تنتظر حادثا مثل
حادث هذا اليوم لتثبت أنها امبراطورية. كانت أمريكا قد وصلت أوج التبشير على أوسع
نطاق بمنظومة القيم والمبادئ الأمريكية، وغالت في هذا التبشير في كثير من الأحيان.
كما أنها فرضت عقوبات على دول، وحصارا
على دول أخرى قاومت فرض القيم الأمريكية بالتبشير أو بغيره. ومن ناحية أخرى، وضعت
المصالح الأمريكية فوق القانون الدولي ورفضت أن يكون للاتفاقيات الدولية أسبقية
على اتفاقياتها الثنائية أو على القانون الداخلي
(القانون الأمريكي)، وهي مرحلة أطلق عليها مرحلة تمزيق الاتفاقيات الدولية. وقد
صرح أحد مستشاري الرئيس بوش بقوله "إن الاتفاقيات الدولية ما هي إلا أدوات
تنتمي لعصر اختراع الغاز"!. ومن ناحية رابعة، مارست أمريكا سياسة الدولة التي
لا غنى عنها، وهي كلمة مأثورة لمادلين أولبرايت. وتعمدت أن تُعَامِلَ حلفاءَها على
هذا الأساس. وظهرت هذه الميول الامبراطورية في أثناء الحرب في يوغوسلافيا، ثم غالت
أمريكا مغالاة كبرى في تأكيد مبدأ الاستثنائية الأمريكية. ففي كل قرار وفي كل سياسة
وفي كل موقف كانت أمريكا تحاول أن تؤكد أنها استثناء عن بقية دول العالم.
ثم روجت الولايات المتحدة لفكرة عالمية
الحقوق. وبهذا، وضعت نفسها كمصدر أساسي لحقوق العالم. وكان لهذا الترويج لفكرة عالمية
الحقوق معنى آخر في غاية الأهمية، فحينما تفرض هذه الفكرة على المجتمع الدولي،
سيحاول المواطن الفرد أن يتحرر من سيادة الدولة التي ينتمي إليها ويستبدل هذه
السيادة بمبادئ وانتماءات لجمعيات ومنظمات حرة وينفك الارتباط بالحقوق الخاصة
بالسيادة لتكون هناك حقوق أخرى للفرد العادي أو المواطن لا علاقة لها بالسيادة،
ولكنها ترتبط بأفكار عالمية لا دخل لدولته بوضعها أو بتأسيسها. بمعنى آخر، يخضع
الفرد العادي أكثر فأكثر لمؤسسات عالمية فوق الدولة، والامبراطورية واحدة من هذه
المؤسسات. وبالفعل، نشأت في معظم الدول نخبة موازية أو مخترقة للنخبة السياسية
ينطبق عليها تماما عبارة "النخبة الديمقراطية".
قبل 11/9، كان مبدأ السيادة الوطنية
يتعرض لهجوم شديد من عناصر متعددة من نظام عالمي أعلى. وبقي الأمر كذلك حتى طالبت
إحدى المجلات الدولية الكبرى التي تصدر في الولايات المتحدة بالاعتراف بالواقع
الامبريالي الأمريكي. إن ما رأيناه من حالة التأرجح بين السلوك الامبراطوري
والقيود الدستورية ومنظومة القيم الديمقراطية ربما كان أهم أسباب حالة اللافعل أو
الايجابية المنقوصة في السياسة الخارجية الأمريكية منذ نهايات عهد كلينتون وحتى
11/9. وكتب أحد الأكادميين يقول في تفسير ذلك "أمريكا قوة مترددة. وهذا
التردد هو الذي يوحي للدول الأخرى أن أمريكا تتجاهلها أو تمارس الغطرسة
عليها". وقال أيضا "إن العالم لا يريد من أمريكا عطفا وحنانا بل يريد
عدلا ليحسّن الجميع أحوالهم ولكن أمريكا في واد آخر. فهي تريد أن تكون محبوبة ولو
بالقوة. فإذا لم تحصل على هذا الحب برغبة الغير ورضاه فستفرض الحب بالقوة. وأمريكا
ترفض أن تكون دولة مكروهة". لكنه يقول في نهاية حديثه "نحن نتصرف
مع العالم مثل فيل ضخم وننتظر من العالم
أن يتصرف معنا كما يتصرف مع قطة صغيرة".
ولا
يخفي أنه منذ شهور قبل 11/9 كان الوضع في العلاقات بين الولايات المتحدة وأوروبا
يميل نحو المواجهة، فأوروبا
ذات التقاليد الامبراطورية الأصيلة والتجارب العريقة في الاستعمار والهيمنة أبدت
في أكثر من مناسبة خوفها من عواقب الانخراط الأمريكي المتزايد في سلوكيات
الامبراطورية. هذا السلوك يخيف الأوروبيين لأنهم يقولون إن أوروبا تحلم بتمدين
العالم. "وإذا كانت الولايات المتحدة تعولم العالم فإن أوروبا تُمدّن العالم"، وهي تسعى
لموازنة اتجاهات الهيمنة الأمريكية وسلوكياتها الإمبراطورية. كانت عملية الموازنة
لهذه السلوكيات في الفترات السابقة تقوم على إنشاء تحالفات داخل الحلف الغربي. وما
يحدث الآن في الحقيقة هو تدخل أوروبي محسوب، الهدف منه كبح جماح الولايات المتحدة
خوفا من عواقب تهورها. وبينما تطالب أوروبا بالتشاور المسبق قبل إصدار قرارات
عالمية مصيرية بالغة الخطورة، أي تطالب بالتعددية السياسية، وقف ريتشارد هاس
مستشار التخطيط بوزارة الخارجية الأمريكية يرد على هذا الاتجاه الأوروبي بالرفض عارضا محله ما يسمى بسياسة
"التعددية حسب الطلب". بمعنى آخر ظهرت نية أمريكا قبل 11/9 في أنها تقيم
تحالفات مؤقتة مرنة لأغراض محددة وتنتهي بعدها هذه التحالفات وهو ما فهم في أوروبا على أنه قرار أمريكي يجعل حلف
الأطلسي غير ذي قيمة فعلية في السياسة الخارجية للدول الغربية وفي المسرح الدولي
بشكل عام.
صار واضحا، وإن كان مازال محل جدل، أن
واشنطن كانت تعد نفسها لمواجهات خارجية متعددة تقيس بها مكانتها الإمبراطورية قبل
11/9. فالعراق، مثلا، كان موجودا دائما على أجندة
العمل الخارجي. وكان الدور الأمريكي في أفغانستان لا يخرج عن مرحلة ضرورية لتأجيل
المواجهة مع العراق إلى توقيت مناسب. وكانت النية منذ البداية مقصودة على أن يقوم
الإسرائيليون بحل مشكلتهم مع الفلسطينيين في ظل الحماية الامبراطورية الأمريكية،
وأن يستفيد الأمريكيون أقصى فائدة ممكنة في حرب العراق من تجارب الحرب الإسرائيلية
في المدن الفلسطينية، وفي "إسكات" الدول العربية وضبط الرأي العام
العربي بالإحباط المتكرر وسد كل المنافذ والطرق وتحويل جانب من كراهية العرب في
اتجاه الغرب .
2-العرب
وأمريكا بعد 11 أيلول / سبتمبر 2001:
إن نهج المؤسسة الحاكمة الأمريكية في
التعامل مع العرب والمسلمين، والذي بات فاقعا في عدائيته وصارخا في عدوانيته بعد 11 أيلول / سبتمبر 2001،
يمثل نقلة نوعية في النظرة الأمريكية للعالمين العربي والإسلامي والتي كان منحاها العدائي قد بدأ يفصح عن
نفسه جهارا منذ إدارة الرئيس ليندون جونسون في ستينيات القرن الماضي، إن هذا النهج
هو عصارة سياسات اليمين الأمريكي الذي أنتج إدارات متشددة مثل إدارة رونالد ريغان وجورج بوش الأب، والتي من رحمهما
ستخرج اليوم إدارة جورج بوش الإبن لتستأنف – بفريق المحافظين الجدد الذي يحكمها –
ما دشنته سابقاتها، ولكن بنهج أكثر تشددا وعدوانية يفسره – أيضا – وجود قسم كبير
من ممثلي التيار المسيحي المتصهين في هذه الإدارة أو
من المعبرين عن مواقفها.
منذ أن وصلت إدارة اليمين الحالية إلى
الحكم وهي تحمل في ملفاتها
أولوية مطلقة لقضايا الوطن العربي: تصفية الوضع القائم في العراق بطريقة أو بأخرى،
تصفية المقاومة الفلسطينية وكسر إرادة شعبها وفرض الاستسلام عليه، وتمكين
"إسرائيل" منذ أن تَضْحَى الوكيل الاقليمي المعتمد والذي تتحلق حوله أنظمة عربية تابعة !
أما لماذا العراق، فلأنه أهم الأقطار
العربية بسبب وفرة ما فيه من نِفْطٍ ومياه وقدرات بشرية، ولكونه مصدر التهديد
الاستراتيجي الدائم والأهم للقاعدة المتقدمة "إسرائيل"، ثم لأن احتياطي
النفط العراقي هو الأول في العالم، ومن يريد التحكم بمصادر الطاقة المحركة التي
تحتاجها آسيا وأوروبا
لا بد له أن يضمن العراق تحت سلطة قراره.
ولقد كان القرار الأمريكي متخذا منذ دخول بوش البيت الأبيض في 20 يناير/كانون
الثاني في 2001 باجتثات النظام العراقي وإبداله بنظام على شاكلة نظام "نوري
السعيد" ينزع عروبة العراق ومعظم سلاحه، ويلبس مسحة "ليبرالية"
خادعة ويوفر قاعدة ارتكاز للمصالح الأمنية والاقتصادية. وقبل أن تتم الإدارة شهرها
الثامن، نزلت عليها صاعقة النار والماء
في ذلك الثلاثاء المشهود (2001/09/11) لتفتح عينها على حقائق جديدة لم تكن تعيرها
كبير انتباه واهتمام منها أن تنظيم "القاعدة" شبكة لا يجوز التهوين من
قدراتها على إذاقة الولايات المتحدة هوانات تكتيكية فادحة، وأن معظم منفذي هجمات
أيلول من الجزيرة العربية حيث هناك تربة خصبة تغذي
نزاعات عدائية لأمريكا لدى شبابها. كما فتحت أحداث 2001/09/11
أعينها على حقيقة أن السلفية الوهابية -التي شكلت مرتكز الدولة السعودية بالتوازي
مع الأسرة الحاكمة طوال قرن -هي ذاتها التي يمكن أن تفرز دائما نَسَقا جهاديّا
يغالبها بأساليبه ووسائله. وكم كان هذا الاكتشاف مريرا بأعين أمريكية توسمت في هذه
السلفية الوهابية عُدَّة للولايات المتحدة على حركة القومية العربية في الستينيات
ثم على الاتحاد السوفياتي
منذ اجتياحه أفغانستان وحتى خروج قواته منها في 1989.
إن ذات السلفية الوهابية مع جماعات إسلامية أخرى، بدأت منذ ذلك العام الحاسم (1990) في الانزياح عن حليفها الأمريكي والنَّأْي
بعيدا عن سياساته بعد أن رأت بأم العين جثوم القوات الأمريكية على الأرض العربية
عقب اجتياح
الكويت والعدوان على العراق. ولم تستخلص الإدارة الأمريكية من وفرة الكوادر
الجزيرية في طاقم مُنَفِّذي الهجمات سوى أن مناخ الهيمنة الوهابية على حياة
الجزيرة يجب أن يُحَجَّمَ ويُرَوَّض بواسطة فرض تغيير جذري في مناهج التعليم ينزع
منها أسباب العداء لأمريكا والغرب. وليس من شك أن ذلك مقدمة نحو تغييرات أخرى
ستطال النظم السياسية
للمنطقة نفسها تحت عنوان " إجراء
إصلاحات سياسية في النظم القائمة " .
لقد اتخذت الإدارة الأمريكية أحداث 11 سبتمبر ذريعة لشن الحرب على أفغانستان.
ولكن، حيث إن الحرب على "القاعدة" مسألة لا حَسْمَ
لها في الآتي القريب من الزمان، فقد أقدمت على فتح
الملف الأهم: ملف العراق، وذلك بهدف تغيير النظام القائم فيه، واحتلال
العراق والسيطرة على نفطه. على أنها حربٌ لن تقتصر أهدافها على العراق حصرا، بل
ستطول مجمل المنطقة العربية: مناطق الثورة ومناطق الثروة على حدٍّ سواء. تدل على
ذلك أساطيل أمريكا المحشودة وجيوشها المجيَّشة وتصريحات أركان الديبلوماسية والحرب
فيها، والسعي المحموم لديها في تسريع وتيرة امتثال العالـم -وأعضاء مجلس الأمن-
لقرار الحرب الذي اتخذته، والذي تسير فيه بعناد وباستهتار بكل المجتمع الدولي
وقانونه !
وكانت إدارة بوش – قبل ذلك وفي الأثناء- قد وظفت نتائج
أحداث 11/9/2001 في ملف القضية الفلسطينية والصراع العربي-الصهيوني، فأدخلت هذا
الملف في نفق العنف الدموي الصهيوني، متذرعة بحربها على "الإرهاب"،
محتسبة المقاومة الفلسطينية في جملة ذلك "الإرهاب" الذي ينبغي استئصاله.
بل هي ذهبت إلى حدّ إجازة الإرهاب الصهيوني المتعلق من كل عقال بدعوى "حق
إسرائيل في الدفاع عن النفس" ! وغطت في مجلس الأمن على جرائم الجيش الصهيوني
في مخيم جنين وسائر بقاع فلسطين المحتلة، وباركت سياسات عزل السلطة الفلسطينية
وتدمير شروط الحياة في الضفة والقطاع.
ولقد كان لهذه السياسة العنصرية
العدوانية ضد العراق والشعب الفلسطيني وضد الأمة العربية جمعاء ما يرادفها في
الداخل الأمريكي نفسه: ضد مواطني أمريكا من العرب والمسلمين، الذين طالهم التهديد
والابتزاز والتمييز، وتعرضت حقوقهم للتضييق، وتصاعدت المشاعر العنصرية الحاقدة
ضدهم، وباتت أوضاعهم تنذر بأسوأ
العواقب، وخصوصا مع حروب أمريكا المفتوحة ضد بني جلدتهم من العرب في وطنهم العربي،
ومع معاركها الاقتصادية ضد المؤسسات المالية والإغاثية العربية المتهمة ب
"تمويل الإرهاب" أو ضد الودائع المالية العربية المشْتَبَه في صلة أصحابها
ب "الإرهاب" !
وبالجملة، أتت أحداث 11 أيلول/سبتمبر 2001 تقدم ذريعة سياسية مميَّزة
للإدارة الجمهورية المتطرفة كي تطلق يدها بلا حدود في مصالح العرب وحقوقهم، وأمن
دولهم وشعوبهم، وسيادة كياناتهم، وسيادتهم على مقدراتهم، بل وتطلق يدها –ويد
حليفها الإرهابي الصهيوني- في دماء أبنائهم وفي حقهم المقدس في الحياة، من أجل
الاستيلاء بالقوة على ثرواتهم ! لم تكن العلاقات العربية –الأمريكية متوازنة أو
مستقيمة في أية فترة
من فترات تاريخنا المعاصر، لكنها اليوم، وبعد 11 أيلول/سبتمبر، بل بعد الاستغلال
الأمريكي لهذه الأحداث، تعيش أسوأ فصل من فصولها، وتنذر بمواجهة عنيفة سيُطلقها
الجنون الأمريكي لا محالة، لكنه أبدا لن يقوى على وقْفِها أو على احتواء تداعيات
منها ستمتد موجاتٍ متعاقبة.
3-العلاقات الأمريكية – الروسية وآثارها عربيا
مرت العلاقات الأمريكية – الروسية بخط
بياني نازل خلاصته أن روسيا الاتحادية لا تزال تبذل جهودها من أجل أن تحتل مكانة
مساوية لمكانة الولايات المتحدة في قيادتها للنظام العالمي. غير أن روسيا لم تستطع
أن تقف مع الولايات المتحدة في القمة. يضاف إلى ذلك أن أحداث 11/9/2001 في
الولايات المتحدة وإعلان الإدارة الأمريكية حربا ضد "الإرهاب" أنقذا
روسيا من شبح كان يهدد دول آسيا الوسطى حيث كانت تيارات المقاومة أو المعارضة تهب
على المناطق الإسلامية وتغذي المقاتلين الشيشان بالسلاح والمال. ولم يكن أمام موسكو سوى الاعتراف بزعامة واشنطن
وبخاصة أن حصة روسيا من الاقتصاد العالمي هي 1،5 % في مقابل 35% للولايات المتحدة.
ومن الطبيعي أن يلعب هذا التفاوت دورا تنظيميا في تحديد المواقع. إذ بالرغم من
الغنى الكبير الذي تزحز به روسيا، تحتاج إلى
استثمارات قد تصل إلى مئات مليارات الدولارات إلى جانب التقانة. وهذان العاملان:
المال والتقانة متوافران في الولايات المتحدة.
ولهذا كان موقف روسيا من قضية الحرب في
أفغانستان متدرجا مع نزول الخط البياني الذي أشرنا إليه. فقد أنشأت الولايات
المتحدة قاعدة (ساناس) في قرغيزيا. وبذلك أصبحت القوات الأمريكية قريبة من الصين
وروسيا معا. وذلك إضافة إلى مرتكزات عسكرية وسياسية أخرى في أوزبكستان وكازاخستان
وتسهيلات في طاجكستان، ناهيك عن رفض واشنطن إطلاق صفة "الإرهاب" على
المسلحين الشيشانيين.
ثمة محطة جد مهمة في الخط البياني
للعلاقات الأمريكية – الروسية، وهي إعلان واشنطن، من جانب واحد، رغبتها في
الانسحاب من معاهدة (حظر الأسلحة المضادة للصواريخ (Ballistic
Missile ABM - Anti - 1972) وكانت روسيا وصفت هذه المعاهدة
بأنها (حجر الأساس) في عمارة الأمن الاستراتيجي العالمي، وهددت بأنها سترد على
إلغائها بالانسحاب من حوالي ثلاثين اتفاقية أخرى للتسلح. إلا أن شيئا من ذلك لم
يحدث. وقد جاءت الرغبة الأمريكية في تعديل معاهدة (ABM)
في إثر نشوء برنامج الدفاع الصاروخي القوم |